في التّأسيس القرآني للأخلاق العمليّة

في التّأسيس القرآني للأخلاق العمليّة

25/09/2011

في التّأسيس القرآني للأخلاق العمليّة

في التّأسيس القرآني للأخلاق العمليّة
مقاربة لخمسة مفاهيم


د. كمال عمران*


في إطار بحث مطوّل للباحث والمفكّر التونسي د. كمال عمران، اختارت «شعائر» هذا النصّ الذي يدور على التأسيس القرآني للأخلاق العمليّة.
وقد سعى الكاتب إلى الإضاءة على خمس قواعد معرفيّة وأخلاقيّة تؤسّس لمفاهيم أساسيّة مثل: مفهوم التيسير، مفهوم الإكراه، مفهوم الظّلم، مفهوم المشيئة، ومفهوم الحرَج.

يُعتبر مفهوم التَّيسير أصلاً من أصول المفاهيم القرآنيّة الجوهريّة، وله وجهان؛ عامٌّ وخاصّ. ويتعلّق الوجه الخاص بالتّديُّن، وقد دعا النّبيُّ صلّى الله عليه وآله إلى اليُسرِ بدل العُسرِ، ولَخَّصَ المعنى في قوله: «يَسَّرا ولا تُعَسِّرا». ولهذا الفهم وظيفة إجتماعيّة مُبيَّنة، تدحض تصوّراً يتوهّم أنّ التّشدُّد ورعٌ، وأنّ القسوة على المؤمن رحمةٌ مُدَّخرةٌ. وهي تؤسّس على سلوك اجتماعي لا يَتعالى على الحقيقة البشريّة، ولا يَتنكَّر للحدود الآدميّة، وهي تقتضي التّدرُّج الموضوعي من درجة الإيمان إلى درجة التّقوى، وصولاً إلى الإحسان، وهو كما جاء في حديث جبريل «أن تعبد الله كأنّك تراه». والتّيسير تصوُّر يؤدّي إلى طريقه في السُّلوك والتّصرّف.

وأمّا الوجه العامّ فهو يكمن في اليُسر المتأتّي بعد العُسر، أو هو الملازم له، كما جاء في الآية ﴿إنّ مع العسر يسراً﴾ الشرح:6، وهو حالٌ يشمُل كلّ أوجُه الحياة التي يعيشُها المُسلِم.

مفهوم الإكراه

نفت الآية 185 من سورة البقرة الإكراه في الدِّين، وهو الفَرْض والتّعسُّف، بل إنَّ من أبرز مظاهر التّكريم التي يمرّ بها الإنسان، هو تكريم المسؤوليّة الإنسانيّة والإرادة البشريّة، وينُصّ الخطاب القرآني على وظيفة البيان: ﴿الرحمن*علم القرآن*خلق الإنسان*علّمه البيان﴾ الرّحمن:1-4، فجلّى الرّشد والمسالك المؤدِّية إليه، وأفصح عن الغيِّ والسّبل المُفضية إليه، ويبقى الإختيار للإنسان صرفاً، ولا إكراه.
ومن هذه الزّاوية تتّضح الرّسالة القرآنيّة، ولا نظنّ أنّ هذه الآية المتعلّقة بنفي الإكراه خارجة عن اللّفظ/النصّ، وهو كما جاء عند الغزالي في (المستصفى): «ما لا يحتمل التّأويل لشدّة ظهوره». فهل يجوز فَرْض الدِّين بعدما سطَّرت الآية المنهجيّة الملائمة في الدّعوة.


مفهوم الظُّلم

يًعتبر الظُّلم في المُعجم القرآني مقولة ذات أهميّة توجيهيّة خطيرة. فدلالة الظّلم مُنَوّطة بالشّرك: ﴿..إنّ الشّرك لظُلمٌ عظيم﴾ لقمان:13. وهي مقترنة بالفساد، باعتباره ازوراراً عن الإعتدال والوسطيّة، إسراعاً إلى الإفراط أو التّفريط. والآية 57 من سورة آل عمران ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ دالّة على المعنى، وفاتحة لأبواب محيطة به واسعة.

مفهوم المشيئة

وَرَد فِعْل «شاء» في القرآن وروداً يَنسج نواة دلاليّة بعيدة الأغوار، وقوامها على التّعاضد بين المشيئة الإلهيّة والمشيئة الإنسانيّة ﴿وما تشاؤون إلاّ أن يشاء الله..﴾ الإنسان:30. إنّ الإرادة الإلهيّة هي المُعلِنة للإرادة البشريّة، وهي مقولة قرآنيّة جوهريّة، تدعم فكرة المسؤوليّة، وتجعل للإنسان مساحة للتّدبُّر، والإختيار الواعي، والإضطلاع بآثاره النّافذة. والإختيار في الآية 29 من سورة الكهف ﴿..فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..﴾ مناط المشيئة، وتكريم إلهي للإنسان بما أتاح له من قدرة على الإختيار.

مفهوم الحَرَج

من المفاهيم الأساسيّة الواردة في دلالات القرآن الدّعوة إلى رفع الحَرَج، وهو معنى ناجمٍ عن أسبابٍ، نُلخَّصها في عناصر:
الحَرَج درجة قائمة بين ضفَّتَي اليُسر والعُسر، فإذا ألححنا عسفاً على الحَرَج، يتحوّل إلى عسر، وإذا لطفنا في مقتضيات الحَرَج يُسرع نحو اليُسْر. وهو بهذا التّفسير نزوع نحو الإعتدال، وحرص على رفع المشقّة، ولا شكّ في كَونه من معاني الرّحمة والسّماحة.

الحَرَج درجة من درجات التّخفيف في صورة تجاوزه، ولعلّ من أبرز الأدلّة على هذا المعنى التدرُّج في فرض الصّلاة من خمسين إلى خمس. ومن مظاهر التّخفيف ما يترتّب على السّفر من رُخَص في الصَّلاة والصَّوم، وما يتّصل بأحكام الحجّ.
لعلّ من أبرز مظاهر السَّماحة في رفع الحَرَج ودفعه في آن، الأبواب المفتوحة للتّوبة والنّصوح، وهي تَجبُّ ما قبلها وتعلن تطهيراً كلِّيّاً يستدعي الإستقامة.

عبّر أبو حيّان التّوحيدي في الفصل (12) من (الإشارات الإلهيّة) عن فكرة جليلة، لَخَّص بها الشُّعور الذي يَنتاب المؤمن عندما يتمكّن من السُّبل المؤدِّية إلى التّقوى، ومؤدَّى الفكرة عبارة «سعادة المؤمن»، ونرى في هذا التّعبير إفصاحاً عن مظهر التّفاؤل القائم على أرضيّة جماليّة.

فدفع الحَرَج من المعاني الجعليّة المبيَّنة في الخطاب القرآني، وفي ذلك أمارة على أنّ التّسامح منظومة متكاملة، لا يتسنّى اجتزاء أيّ عنصر منها. والآيات في هذا السّياق كثيرة، تتآزر في مستويَيْن: مستوى القَوْل ﴿..وقولوا للناس حسناً..﴾ البقرة:83، وفي مستوى العمل والفعل ﴿الذين آمنوا وعملوا الصّلحات..﴾ العصر:3. ولعلّ أفصح دليل على ما نذهب إليه ما بناه القرآن من موازنة بين رؤيتَين وسبيلَين.

الرّؤية الأولى: هي سبيل الرّحمة، وقد لخّصتها الآيات من سورة الفرقان ﴿وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً﴾ الفرقان:63. وقد أسَّس القرآن لدلالة الصّفة في كلمة الرّحمن منظوراً جديداً، ينفرد به المسلمون، لأسبابٍ مُتعدِّدةٍ، منها ما يعود إلى العبارة ذاتها، وهي مخصوصة بالله وحده، وهي تُطلق في المُعجم القرآني على أُمّة النّبيّ، باعتبار صفة الرّحيم مشتقّة من الرّحمة، وهي عبارة عامّة لجميع البشر. ولا تخصّ عبارة الرّحمن إلَّا المؤمنين من المسلمين، وهو ما ذهب إليه في تفسير (التّحرير والتّنوير) الشّيخ محمّد الطّاهر إبن عاشور. ومنها ما ترسمه آيات الفرقان من سلوك للمسلمين، يَنبني على مفهوم التّراحم، وهو شامل للسُّلوك المادّي والتّصوُّر الذِّهني. وإذا ربطنا الرّحمة باشتقاق لها من فعل رَحم، وهو يحيل إلى (أرحم) المؤدّي إلى دلالة الوشائج، فإنّ المعنى لن يخرج عن دائرة المجتمع، إذ إنّ المساحة اللّازمة له إنّما هي الممارسة.

والرُّؤية الثّانية: هي الجاهليّة، بوصفها نمطاً في العيش، وسلوكاً في الحياة، يُفهمان بالصُّورة المقابلة. ويقابل في هذه الآية عبادَ الرَّحمن الجاهلون، ويقابل الهونَ الشّدةُ والبطش، ويقابل السَّلام القتال والثّأر. وهي مقابلة فيها طرف منطوق به، والطّرف الآخر مسكوت عنه.
إنّ سكوت الخطاب القرآني عن صِفات الجاهلين، وعن المبادئ التي يحملون دلالة على رؤية يُعبِّر فيها السُّكوت عن الرّفض، بل عن الإسراع إلى الدّحض والنَّقض. فالإفصاح عن خصال عباد الرّحمن إشادة ودعوة وموقف يَبنيان صورة للوجود وللعلاقات، قوامها الرّحمة، وهي القاعدة، بل هي النّواة التي تجذب إليها ما يحفّ حولها من فروع، وهي القِيَم الملازمة، كالإلفة، والتّعاطُف، والتّعاضُد، والتّكافل، والتّسامح أيضاً.
كلّ هذه القِيَم تحتاج إلى قراءة متجدِّدة للقرآن، تستأنس بما يتوصّل إليه العقل البشري من المناهج والطُّرق في العلوم الإنسانيّة.

* كاتب وأكاديمي من تونس


اخبار مرتبطة

  مجلة شعائر الـعدد الثامن عشر-شهر ذو القعدة 1432 - تشرين الأوّل 2011

مجلة شعائر الـعدد الثامن عشر-شهر ذو القعدة 1432 - تشرين الأوّل 2011

نفحات