فكر و نظر

فكر و نظر

13/11/2018

رحلة في ستة عوالم متخيلة

رحلة في ستة عوالم متخيلة

سؤال القرن: أيّ عالَم سينتصر؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ د. حسام مطر* ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بدأت منشورات جملة من مراكز الدراسات والمطبوعات الأميركية ذات الاتجاه الليبرالي، تعكس عمقَ القلق السائد على النظام الدولي الليبرالي الحالي. وتسود هذه الأوساط كتابات حول أزمة الليبرالية الحالية في النظام العالمي، ونقاشات حول ما إذا كانت هذه مجرّد أزمة عابرة اعتادت الليبرالية على تجاوزها، أم أنّها تواجه شيئاً غير مسبوق؟ وتالياً  كيفية الاستجابة، وما هي البدائل الممكنة للنظام الحالي إن كان لا بد من بديل؟

في الجواب عن السؤال أعلاه، استعرضت مجلّة «فورين أفيرز» الأميركيّة في عددها الصادر (تموز/ آب 2018) آراء مجموعة من الباحثين والمفكّرين حول ستّة «عوالم» آتية مفترضة، يصحّ القول إنّها متفاعلة ومتداخلة، وغالباً متضاربة، إلّا أن ما يجمعها في الغالب هي أنها تنبئ عن مستقبل مقلق للبشرية.

 

 

العالم الواقعي: صعود الصين؟

أوّلاً: لدينا «العالم الواقعي: يتغيّر اللاعبون، لكن تبقى اللعبة» (ستيفان كوتكين)، وفي هذا العالم هناك قواعد موضوعية ثابتة حيث الصراع هو الأصل، والسعي للنجاة والأمن والقوّة هو مراد الجميع. ويعود هذا «العالم» للصعود بعدما ظنّ كثيرون أنّ العولمة والليبرالية تجاوزت حقبة لعبة «الجيوبولتيك» وصراعات القوى الكبرى. بناءً عليه، فأحداث هذا العالم ستقودها سياسات القوى الكبرى، ولذا فإنّ مسار هذا القرن مرتبط إلى حدّ بعيد بالشكل الذي سيتّخذه التنافس الصيني ــــ الأميركي.

يرى كوتكين تماثلاً بين سماح بريطانيا، مملكة التجارة الحرّة، بصعود ألمانيا التوسّعية في بدايات القرن العشرين، مع ما تفعله الولايات المتحدة مع الصين. بينما لدى الليبراليين حجّة مضادّة بأنّ من شأن دمج الصين في النظام الدولي أن تقوّي الاتّجاهات الليبرالية داخل الصين وتُشجّعها على التحوّل والاندماج السلمي في النظام، في ظلّ قيادة الولايات المتحدة. إلّا أنّ ما حصل، بحسب كوتكين، هو أن الصين نجحت في بناء اقتصاد سيصبح أكبر بشكل مستدام من الاقتصاد الأميركي، من دون أن تصبح الصين ليبيرالية، ومن دون أن تعاني من الشمولية في الوقت ذاته.

في المقابل، وقع الغرب في الشلل الداخلي بسبب تجاهل نخبته الآثار الاجتماعية والاقتصادية للعولمة في الداخل، وهي أدّت إلى تفجير تناقضات داخلية وقادت إلى ظهور الشعبوية والقومية. لكن على المدى البعيد، ورغم هذه التحولات، فإنّ الديكتاتورية مع قوّتها تبقى هشّة، في حين مهما بدت الديموقراطية مثيرة للشفقة تبقى مرنة، يقول كوتكين.

 

«لا مفرّ من الليبرالية»!

ثانياً: لدينا «عالم ليبرالي: النظام المرن» (دانيال ديودني _ ج. جون إيكنبري)، وهو عالَم يعاني من انتكاسات وتراجع وتحدّيات، «إلّا أنّ النظام العالمي الليبرالي لا يزال متيناً بشكل ملحوظ، وهذا مرتبط بنموّ أشكال الاعتماد المتبادل في مجالات متزايدة تدفع الجميع للعمل معاً، وتزيد من الحاجة إلى المنظّمات والترتيبات الدولية».

تتعدّد أزمات العالم الليبرالي، حيث وبعد عقود على اختفائها المفترض في الغرب، عادت «القوى المظلمة للسياسة العالمية»، أي اللاليبرالية والقومية والمطالِبة بتغيير إقليم الدولة، لتؤكّد نفسها. هذا التراجع العامّ في الديموقراطية الليبرالية حول العالم يبدو أنّه من عوارض مرض النظام العالمي الليبرالي. إلّا أنّ الكاتبين ينظران بكثير من الأمل والثقة إلى مستقبل العالم الليبرالي لأسباب عدة:

1) ليس محتوماً أنّ التاريخ سينتهي بانتصار الليبرالية، ولكن الذي لا مفرّ منه أنّ أيّ نظام عالمي لائق لن يكون إلّا ليبرالياً.

2) اللحظات الثورية غالباً ما تفشل في إحداث تغيير مستدام، ولذا من غير الواقعي التفكير بأنّ سنوات محدودة من الديماغوجية القومية ستؤدّي إلى تراجع دراماتيكي لليبرالية.

3) عودة المنافسة الأيديولوجية ستدفع إلى تعزيز النظام الليبرالي وإجراء إصلاحات داخلية.

4) مؤسّسات النظام الليبرالي الدولي لم تنشأ بالصدفة، بل كمنتجات لمصالح عميقة.

العودة إلى الهويّة الكامنة

ثالثاً: لدينا «العالم القَبَلي: هويّة الجماعة هي كلّ شيء» (آيمي تشوا) وهو عالَم صاعد، ومصدر قوّته الأساسي أنّه مرتبط بالطبيعة البشرية، فالقبَلية غريزة أساسية، حيث إنّ «البشر هم كائنات قبلية ونحن بحاجة إلى الانتماء إلى جماعات».

وبعكس التفاؤل الليبرالي، تذهب «تشوا» إلى أنّه في السنوات الأخيرة عادت القبلية لتمزّق نسيج الديموقراطيات الليبرالية في الدول المتقدّمة.

 

ترويض الرأسمالية بالماركسية!

رابعاً: عادت لتتجلّى نبوءات ماركس في «عالم ماركسي: ماذا تتوقّع من الرأسمالية» (روبين ماغيز)، حيث تتزايد في أميركا وأوروبا اللامساواة، وتتراجع الأجور، وتتضخّم أرباح الشركات، وتضمر الطبقة الوسطى، وتُجوّف الديموقراطية التي يجري استبدالها بحكم التكنوقراط لنخب معولمة.

التحدّي اليوم هو الوصول إلى ملامح لاقتصاد مختلط قادر على تأمين ما أنجزه العصر الذهبي، بحسب الكاتب، وهذا يستلزم تبنّي روح ماركس، أي الاعتراف بأنّ الأسواق الرأسمالية يمكن أن تكون الترتيب الاجتماعي الأكثر ديناميكية الذي أُنتج من قبل البشر. وهذه الديناميكية تعني أنّ تحقيق أهداف المساواة يستلزم تعديلات مؤسّساتية جديدة مدعومة بأشكال جديدة من السياسات، وترويض الأسواق، وإعادة إحياء الديموقراطية الاجتماعية

.

الذكاء الاصطناعي

خامساً: نحن نرى بزوغ «عالم التكنولوجيا: أهلاً بالثورة الرقمية» (كيفين دروم)، حيث يدخل العالم فجر الثورة الصناعية الثانية، أي الثورة الرقمية، والتي سيكون تأثيرها أعظم من الثورة الصناعية الأولى للقرن التاسع عشر التي سمحت بصعود طبقة وسطى مع ضغط حقيقي لأجل الديموقراطية. ما قد يغيّر الأمور هو مسألة الذكاء الاصطناعي والذي يتقدّم بثبات، ولكن ما زلنا في مرحلة المخاض، ولنتجاوزها هناك حاجة إلى أجهزة بقوة الدماغ البشري وبرمجيات قادرة على أداء كلّ المهام البشرية، الأمر المتوقّع حدوثه بحلول 2060 أو 2045.

 

الاحتباس الحراري

سادساً: نتّجه نحو «عالم محتبس حرارياً: لماذا يهمّ التغيّر المناخي أكثر من أيّ شيء آخر» (جوشوا بوسبي). في هذا العالم يصبح خطر التغيّر المناخي لا يقلّ عن أيّ من المخاطر الكبرى التي تهدّد العالم، والتي ستحدّد شكل هذا القرن. لقد ازدادت حرارة سطح الأرض 1.2 درجة مئوية منذ الثورة الصناعية، فيما هناك إجماع علمي على أنّ الحدّ الأقصى للزيادة قبل أن يحدث تغيّر مناخي خطير هو درجتان فقط. في حال تحقّق ذلك يعني أنّنا سننتقل إلى عالم من الكوارث الطبيعية، وهو ما سيترك تأثيرات جيوجوليتكية مخيفة، ويطلق شرارة للاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية.

وفي هذا السياق، يؤكد عدد حديث لمجلة الـ«إيكونوميست» (أيار 2018) أنّ منطقة الشرق الأوسط ستشهد مزيداً من تراجع كميات المتساقطات وموجات الحرّ والعواصف الرملية. ومن المتوقع أن ترتفع درجات الحرارة في المنطقة بضعف المعدل العالمي. وبحسب المقياس العالمي للرطوبة والحرارة فإنها ستزداد حتى عام 2100 بشكل يجعل منطقة الخليج غير قابلة للسكن. فيما كشفت الأقمار الصناعية أن نهرَي دجلة والفرات خسرا من المياه العذبة بين عامي 2003- 2010 ما يوازي كمية المياه في البحر الميت.

هذا التحدي، بحسب «بوسبي»، يسلتزم مستويات غير مسبوقة من التعاون العالمي، لا سيما في الصين والولايات المتحدة، فدورهما مركزي في الاستجابة لتحدي تغيّر المناخ (كلاهما مسؤول عن 40% من الانبعاثات).

 

خلاصة واستنتاج

أربعة من أصل ستة عوالم جرى عرضها، تقدّم صورة سوداوية للمستقبل المنظور، فيما يتخبّط العالم الليبرالي، ويتأرجح العالم التكنولوجي بين وعوده وعواقبه.

العوالم الواقعية، والقبلية، والمحتبسة حرارياً، هي إلى حدّ بعيد عالم واحد بأوجه مختلفة، عالم يعزّز الميل للحرب، والتنافس، والصراع، والمصالح الذاتية الضيّقة، والفوضى العالمية، ويتعزّز كلّ ذلك بإخفاقات العالم الليبرالي والعوارض السلبية للعالم التكنولوجي.

الثورة التكنولوجية الجارية، لا سيما المتعلقة بالدّاتا، تعزّز من احتكار القوّة وقدرات السيطرة، وكذلك تُعمّق الفوارق الهائلة بين شمال العالم وجنوبه (على سبيل المثال، حالياً تتلف أوروبا سنوياً 50 مليون طن من الفاكهة والخضر نظراً إلى أن شكلها سيّئ، فيما يموت 3 ملايين شخص جوعاً في دول الجنوب)، والتي بدأت تتوسع في الشمال نفسه.

يلفت «كاي فو لي» وهو أحد أبرز خبراء الذكاء الاصطناعي المعاصرين، إلى أنّ الخطر الأكبر في ثورة الذكاء الاصطناعي ليس فقدان الوظائف بل فقدان المعنى. فالثورة الصناعية غسلت أدمغتنا وجرى إقناعنا أن العمل هو سبب وجودنا وهو ما يحدّد معنى حياتنا. إلا أنّ «لي» اكتشف، بعد تجربة الإصابة بمرض السرطان والشفاء منه، أننا «موجودون من أجل الحب... وهذا ما يميّزنا عن الذكاء الاصطناعي... فنحن نتميّز بالإبداع ثم الرحمة والحب والتعاطف». هنا يصبح لخسارة الوظائف الروتينية بسبب ثورة الذكاء الاصطناعي وجه آخر، ألا وهو إمكانية خلق وظائف جديدة، وظائف قائمة على التعاطف (مثل المعلمين، ومقدّمي الرعاية الطبية، والأخصائيين الاجتماعيين)، أي أن نجعل من الحب مهناً (مثل التعليم المنزلي ومرافقة العجائز) وهكذا نتذكر ما يجعلنا بشراً، يقول «لي».

باختصار، لا بد من «ثورة مضادة» تُوازن ثورة التكنولوجيا الجارية، ثورة أخلاقية وفلسفية في النظر إلى الوجود الإنساني على هذا الكوكب، قبل فوات الأوان، إنْ لم يكن قد فات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 * أكاديمي وباحث لبناني. المقال مختصر عمّا نُشر في صحيفة الأخبار اللبنانية (العدد 3596)

اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريات

دوريات

14/11/2018

دوريات

  اجنبية

اجنبية

14/11/2018

اجنبية

نفحات