الملف

الملف

14/01/2019

«فاطمة أمّ أبيها»

«فاطمة أمّ أبيها»

قراءة في المعاني والدلالات

دعونا نتأمّل هذا الحديث النبويّ: «فاطمة أمّ أبيها»، بحسب المعطيات الظاهرية، من دون أن نغوص في الأعماق.

في البداية لفظ «أُمّ» هنا مطلق. لم يُقيَّد بقيد. لم يقل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فاطمة أمّ أبيها في الحنان والعطف»، أو غير ذلك من القيود التي تجعل المعنى خاصاً.

وأبوها الذي هي أمّه.. مَن هو؟ إنّه سيّد الرّسْل خيرُ خلق الله تعالى. وهي بناءً لهذه التكنية أمّه!

ثمّ مَن هو المتحدّث الذي صدرت منه هذه الكنية، وهذا لحاظ آخر، وإن بدا لأوّل وهْلة أنه نفس ما سبقه.

المتحدّث هو مَن قال الله تعالى فيه: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾، فكلامه صلّى الله عليه وآله وسلّم،كالقرآن. ومَن كان كذلك، فحديث العطف والحنان لمجرّد العطف والحنان بعيدٌ عن ساحته، لأنّه حديثٌ هوًى وحبٍّ شخصيّ.

عندما نميل بجموح إلى تفسير «أمّ أبيها» بمجرّد العطف والحنان، فنحن نتحدّث عن عاطفة أبوِية، في مقابل عاطفة منحته ابنته إيّاها حين كان بأمسّ الحاجة إليها! وهكذا نُبعد الحديث عن آفاق قدسية الصِّديقة الكبرى عليها صلوات الرحمن، في حين أنّ حديث المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم، عن «أمّ أبيها».. لا يمكن إلَّا أن يكون من منطلق آخر هو منطلق ﴿..وَحْيٌ يُوحَى﴾ وليس منطلق الهوى، والعياذ بالله تعالى.

إذا لاحظنا هذه الخصوصيات:

فالمعنى الأول: أنّ فاطمة عليها السلام، أمّ خيرِ خلق الله تعالى في جميع المجالات مطلقاً من دون أي قيد، إلّا ما خرج بالدليل العقلي «اللّبّي» أو النقلي.

المعنى الثاني: الذي يتولّد من هذا المعنى ويتّضح في ضوئه هو التالي: كما أنّ فِعل الولد وتَرْكَه يجب أن يدورا مدار رضى أمّه وغضبِها، وذلك حقّها الأبرز عليه، فإنّ فعْلَ المصطفى الحبيب وترْكه صلّى الله عليه وآله وسلّم، يدوران مدارَ رضى الصدّيقة الكبرى وغضبها.

ومهلاً.. لا تعجلْ بالردّ وإن استغربتَ. وبادِر إلى رفع الاستغراب، فوراً، بتذكّر حديثٍ آخَر لمَن لا ينطق عن الهوى، حيث يقول: «إنّ اللهَ لَيرضى لِرضى فاطمة، ويغضبُ لغضبها».

فأيّهما أشدّ استغراباً، إنْ كانَ بقيَ من الاستغراب عينٌ أو أثر؟

معنى ذلك: أنّ حديثَي «فاطمة أمّ أبيها»، و«إنّ الله لَيرضى لِرضى فاطمة..» من مشكاة واحدة، ومؤدّاهما بلحاظ هذا المعنى -الثاني- واحد. ولا ينافي ذلك على الإطلاق أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، أفضل منها ومن جميع النبيّين والأئمّة عليهم صلوات الرحمن. كما لا ينافي وجوب طاعتها له؛ لأنّ الله تعالى لَيرضى لرضاه صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويغضبُ لغضبه.

المعنى الثالث: الذي ينبغي أن ننتبه إليه -ونحن نتدرّج في ذكر المعاني- كما يلي:

دعنا نقف لنقارن بين كُنيتين: كُنية «أمّ المؤمنين»، وكنية «أمّ أبيها»، أيّهما أعظم؟مصطلح أمّ المؤمنين الثرى، أو أمّ أبيها الثرياّ.. وأين«أمّ المؤمنين» من «أمّ أبيها»؟

أمّ المؤمنين كنية عظيمة: ﴿..وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ..﴾ [الأحزاب:6]، إلّا أّن هذه الكنية بنصّ القرآن الكريم لا تنطبق على أحدٍ إلَّا بشرط المحافظة على مقتضياتها. فاللّواتي حافظنَ منهنّ، فكنيتُهنّ عظيمة، أمّا اللواتي لم يحافِظْنَ عليها فلا يصحّ إطلاقها عليهنّ، وأمّا الشرط فهو ﴿..إِنِ اتَّقَيْتُنَّ..﴾. [الأحزاب:32]

عندما نفكّر بهذه المقارنة تتّضح لنا حقائق كثيرة، وقد تنبَّهَ إليها متتبّعٌ باحث، هو العلامة الشيخ الرحماني الهمداني في كتابه القيّم والموسوعيّ (فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم). يقول: «إنّ الله عزَّ وجلَّ لمّا شرّفَ وكرّم أزواجَ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، صِرْنَ في معرض أن يخطر ببالهنَّ أنهنَّ أفضلُ النساء، ومن أجل أن لا يتصوّرنَ ذلك بما يستتبعه من أنهنَّ والعياذ بالله تعالى أفضل من بضعة المصطفى الحبيب، فإنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: (فاطمة أمّ أبيها). إذا كنتنّ أمهات المسلمين، ففاطمة أمّ رسول الله». وهذه لفتة مهمّة جداً.

المعنى الرابع: حول «فاطمة أمّ أبيها» وهو أعمق من المعاني المتقدّمة وأشمل. وخلاصة هذا المعنى أنّ خصائص الولد تكون عادةً في الأم، بل إنّ جميع خصائص الولد موجودة في الأم.

وبناءً على هذا يكون المعنى: إنّ جميع خصائص المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله وسلّم، موجودة في الصِّديقة الكبرى عليها صلوات الرحمن، بحيث لو أنّك تأمّلتَ جميع الناس لما وجدت شخصاً يمكنه أن يكون بموقع الأم التي هي الأصل لجميع خصائص رسول الله، غير الزهراء عليها السلام.

بعبارة ثانية، إذا أردت أن تعرف أشبه الناس برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنّها فاطمة. بل أدقّ من ذلك، إذا أردت أن تعرف أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، هو أشبه بمَن من جميع الخلق، فهو أشبه بفاطمة. «فاطمة أمّ أبيها».

المعنى الخامس: وهذا المعنى ذكره أيضاً الشيخ الرحماني. يقول: «ويُمكن أن يراد بهذه التسمية، التكنية، معنى أدقّ وأعمق، وهو أن أمَّ كلّ شيء أصلُه ومجتمعه (أي مكان تجمّعه) كما صرَّح به أهل اللّغة، كأمّ القوم، وأمّ الكتاب. فعليه: يُمكن أن يقال إنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم، أراد (من هذه التكنية) أنّ فاطمة عليها السلام، هي أصلُ شجرة الرسالة، وعنصرُ النبوّة، كما قال الباقر عليه السلام: (الشّجرةُ الطيّبةُ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وفَرعها عليٌّ عليه السلام، وعُنصر الشجرة فاطمة عليها السلام، وثمَرتُها أولادها، وأغصانها وأوراقها، شِيعتُها)...».

ثمّ يضيف الشيخ الرحماني: «وكما أنّه لولا العنصر لَيبست الشجرة وذهبتْ نضرتُها، فكذلك لولا فاطمة عليها السلام، لما اخضرّت شجرةُ الإسلام، فإنّ الشجرة تسمو وتنمو بتغذّيها من أصلها».

المعنى السادس: يستنتج بوضوح من كلام للمحقّق الجليل السيّد المصطفوي في كتابه الفريد (التحقيق في كلمات القرآن الكريم)، حيث يقول: «والذي يقوى في النفس أنّ الأصل الواحد في هذه المادة (أم) هو القصد المخصوص، أي القصد مع التوجّه».

ثم يقول في معنى كلمة الأمّ: «الأمّ ما يكون مورداً للقصد والتوجّه، فإنّ الأمّ يُتوَجَّه إليها توجّهاً خاصاً».

وبناءً على هذا، يُصبح معنى «فاطمة أمّ أبيها»: فاطمة قِبلةُ أبيها، فاطمة كعبةُ أبيها، فاطمة مقصدُ أبيها الذي يتوجّه إليه ويهتمّ به ويُعنى به عنايةً خاصّة، كما ينبغي أن يكون الاهتمام بالقِبلة والكعبة.

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  إصدارات

إصدارات

14/01/2019

إصدارات

نفحات