فرادةُ إعجاز نبيَّيْن، وإمامَيْن

فرادةُ إعجاز نبيَّيْن، وإمامَيْن

25/09/2011

فرادةُ إعجاز نبيَّيْن، وإمامَيْن

وآتيناه الحكم صبيّاً
فرادةُ إعجاز نبيَّيْن، وإمامَيْن

الشيخ حسين كوراني

بين أبرز المعجزات في تاريخ النُّبوّة والإمامة، أربع معاجز امتازت عن غيرها بأنّ المحوَر فيها نبيٌّ أو إمام صغير السِّنّ، يتصدّى في صغر سِنِّه لمهمّة الحُجّة على الخَلْق، بما يعنيه ذلك من عِلم يفوق كلّ ما أوتيه حتّى أعلم العلماء، وبما يعنيه أيضاً من حكمة ودراية وقيادة سياسيّة في حمَّى الصّراع مع الطّواغيت، والمترَفين، والملأ.


المعجزات الأربع هي نبوّة النّبيَّين عيسى ويحيى عليهما السلام، وإمامة الإمامَين الجواد والمهدي عليهما السلام.

ترابط هذه المعجزات

ينبغي التّنبُّه جيّداً إلى العلاقة الجذريّة بين معجزتَي هذين النّبيَّين الكريمَين، وبين معجزتَي الإمامَين عليهم جميعاً الصّلاة والسّلام، فالإعجاز في صغر السِّنّ في مجال النّبوّة، تأسيسٌ لأصلٍ عقائديّ، يُمكِّن من التّعاطي مع ما سيأتي في خطِّ الوصاية المحمّديّة بِيَقينٍ قرآني.
كما ينبغي التّنبُّه إلى تمهيد ظاهرة إمامة الإمام الجواد عليه السلام في السّابعة من عمره الشّريف -أو حواليها- لإمامة الإمام المهدي المنتظَر عليه السلام في حوالي الخامسة من عمره الشّريف. إنَّ الفرق كبير جدّاً بين التّعامل مع هذه المعاجز منفصلة عن بعضها، أو فصل معجزتَي النّبّوة عن معجزتَي الإمامة، وبين التّعامل معها على قاعدة التّرابط والإنتظام ضمن أصل عقائدي وقرآني واحد، كما أنَّ الفرق كبير جدّاً بين التّفكير بمعجزة صغر سنِّ الإمام الجواد دون الربط بينه وبين وصغر سنِّ الإمام المهدي عليهما السلام حين تصدِّيهما لمهامّ الخلافة الإلهيّة، ووصاية رسول الله صلى الله عليه وآله، وبين التّفكير بمعجزتَي هذين الإمامَين عليهما السلام.
سيقودنا التّأمُّل في هذا التَّرابط -وتلقائيّاً- إلى التَّرابط بين نبوّة النّبيّ عيسى عليه السلام «في المهد»، وبين إمامة الإمام المهدي المنتظر الذي أجمع المسلمون أنّه سينزل من حيث رفعه الله تعالى إليه، لِيَنصر المهدي الذي يُحقِّق الله تعالى على يديه آمال النّبيّين والمُستضعفين. المِشكاة واحدة، والله تعالى بكلِّ شيءٍ عليم، وقد تكفَّل سبحانه بألَّا يكون للنّاس عليه حجَّة، وأنّ له سبحانه الحجَّة البالغة، فمن الطّبيعي أن تُبنى الأُسس العقائديّة لمسيرة النّبوّة والإمامة- الواحدة- على غاية القوّة والوضوح.
هكذا يمكننا أن ندرك أهمّيّة التّأسيس العقائدي لإمامة المهديّ المُنتظَر خاتم الولاية المحمَّديّة، وندرك أيضاً مدى اللُّطف الإلهي للأجيال التي ستواجه ألوان التّشكيك بإمامة الإمام الجواد، ثمّ على امتدادِ دورات من الزَّمن أطول وتمتدّ قروناً بإمامة الإمام المهديّ المُنتظَر عليه السلام.
أصلُ مبدأ ﴿..وآتيناه الحكم صبيّاً﴾ مريم:12 لُطفٌ إلهيّ، من تجلِّياته تعزيز الإيمان بالغَيْب. وتثبيته في القرآن الكريم لُطفٌ آخر، وتكراره في نبيَّيْن لمزيد تثبيته كأصل عقائدي مُسلَّم، فيضُ لطفٍ خاصّ، وكذلك هو شأن تكرّره في إمامَين.

من أبعاد فرادة الإعجاز

حقيقة المعجزة هي خرق العادة، حيث يَتحقَّق بها ما لا يَتحقَّق عادةً، ويتلازم خَرْق العادة مع التّحدِّي، فالمعجزة خَرْق عادة على سبيل التّحدّي، وتختلف المعاجز في طول زمنها أو قِصره، فمعجزة إحياء ميْت، تَستغرق وقتاً قصيراً، تستمرّ بعده آثاره، أمّا معجزة القرآن الكريم فهي باقية بقاء الحياة والدّهر. إلَّا أنَّ خرق القرآن الكريم للعادة، والتّحدِّي الذي يقوم عليه هذا الخَرْق، قد لا يكونان مفهومين للكثيرين، كما يُمكن فهم تكلُّم صبيّ في المهد واستمرار قيامه بأعباء النّبوّة أو الإمامة لمدّة زمنيّة تمتدّ طيلة عمر النّبيّ أو الإمام. 
يُضاف إلى ما تقدَّم من طول مدّة التّحدّي، أنّ النّبيّ أو الإمام يحمل مشروع إنقاذ النّاس من الطواغيت الذين يَستنفرون كلّ ما يمكنهم توظيفه من أدوات ووسائل، لإبطال الإعجاز في هذه الظاهرة المُستجدّة التي هي أشبه ما يكون بإعصارٍ يمكنه أن يجرف كلّ باطلهم واستعبادَهم النّاس، وتسلُّطَهم على رقابهم. لذلك سيكون الصراع محتدماً أبداً، فالتّحدّي يَستتبع مثله حتى إن لم تكن الدَّواعي الأخرى مُتضافرة تستثير مَن تواجههم المعجزة ليعملوا على إبطال دلالاتها من خلال كشف «زيفها» حسب زعمهم، إن استطاعوا.
أن يتكلّم صبيٌّ في المهد، هذا أمر معجز يستثير الإهتمام، ولكن أن يكون هذا الصّبي يحمل مشروع مواجهة الحاكم الطّاغية، وكلّ مَلئِه والبناء السياسي والإجتماعي، فهذا بُعدٌ آخر في هذه المعجزة، يجعلها مُستهدَفة بما يتناسب مع الخطر الذي تشكِّله على مَن جاءت المعجزة لوضع حدّ لتضليلهم النّاس واستعبادهم، ومصادرة حقّهم في الحياة والحقيقة والعيش الكريم.

الظّرف السِّياسي لمعجزة الإمام الجواد عليه السلام

حيث إنَّ الحديث هنا عن فرادة الإعجاز في إمامة الإمام الجواد عليه السلام، فلنستحضر الظَّرف السِّياسي لبدء هذه المعجزة لندرك بعض أبعاد تقصير الأمّة بأجيالها في التّعامل مع هذا اللُّطف الإلهي الذي شمل الأمّة المحمَّديّة، بل الإنسانيّة كلّها بأجيالها المتعاقبة، من خلال تجديد بعثة الرَّسول الأكرم صلّى الله عليه وآله على يد حفيده، تاسع الأئمّة الإثني عشر من أهل البيت عليهم السلام.
كان الظَّرف السِّياسي في زمن الإمام الجواد المعجزة بالغ الحساسيّة والتّعقيد -وتلك أهمّ خصائص زمن المعاجز- فقد دارت دورة الألف شهر من انتزاء آل أبي العاص وأميّة على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله، بما قام على أساسه ذلك من محاولات طمس فضائل أهل البيت عليهم السلام، وتهميشٍ لموقعهم في قيادة الأمّة واستمرار خطّ النبوة، وقد سالت الدماء غزيرة، وملَّت المشانق والمطامير، وضاقت الأرض بما رَحبت بكلِّ مَن قرَّر المحافظة على دِينه.

كان الظَّرف السِّياسي في زمن الإمام
الجواد المعجزة، بالغ الحساسيّة والتّعقيد،
وتلك أهمّ خصائص زمن المعاجز.

وحين ظنَّت الأمّة أنَّ زوال ملك بني أميّة سيُعيد الحقّ إلى نصابه وسيقود أهل البيت عليهم السلام الأمّة من جديد كما نصَّ القرآن الكريم وبلَّغ النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله، سرعان ما اتّضح أنّ العباسيِّين تستَّروا بشعار أهل البيت عليهم السلام للتسلُّق إلى الحكم ومنبر رسول الله صلّى الله عليه وآله.

بغداد عاصمة «القطب الأوحد»

ثُنيت الوسادة لسلاطين العباسيِّين الأُوَل، فخاطب هارون «السَّحابة» أن تُشَرِّق أو تُغَرِّب، فأينما أمطرَت ففي «مُلْكه»! وسيعود «إليه» بعض فوائدها.
وعندما هلك المسمَّى بـ«الرّشيد» واحتدم الصِّراع بين ولدَيه الأمين والمأمون، إتّضح أنّ موالاة الأمّة لأهل البيت الحقيقيّين هي الكفّة الرّاجحة، فكان من أمر «ولاية العهد» ما استثمره الإمام الرِّضا عليه السلام لتثبيت دعائم التّوحيد، والعقيدة الصّافية.
عاصرت إمامة الإمام الجواد بقيّة مُلك المأمون، ثمّ ملك أخيه المعتصم، ومن الواضح أنّهما ورثا عن أبيهما هارون سلطة مترامية الأطراف، يصدق في وصفها آنذاك مصطلح «القطب الأوحد» الذي يُطلق اليوم على «أميركا».
هذا السُّلطان العريض، كان أصحابه «العباسيّون» يدركون أنّهم تسلّلوا إليه باسم أهل البيت، وعمّا قريبٍ أمكنهم -بعد مخاض عسير زاغت معه الأبصار، وبلغت القلوب الحناجر- أن يتخلّصوا من الإمام الرضا عليه السلام، الذي كان مجرّد وجوده إيذاناً بزوال الإمبراطوريّة العباسيّة، وها هو ابنه الإمام الجواد في السابعة من عمره -أو حواليها- يتصدّر مجلس «البيت الأبيض» في بغداد عاصمة الدُّنيا.
زاد الطِّين بِلّة أنّ المأمون هو الذي دعا هذا «الصّبي» إلى أن يكون في قلب المعادلة «العباسيّة»!
ولك أن تقدِّر أيّ استثارة شكَّلها ذلك لِدَهاقنة بني العبّاس وجيش الملإ من المُترفين وعبيد الدُّنيا، وأيّ استنفار تُحتِّمه هذه الإستثارة.
في ضوء هذا التّقدير، يمكن تفسير لجوء العباسيّين إلى قاضي القضاة يحيى بن أكثم، وإلى أهمّية ذلك المجلس «الرّسمي» الحاشد، والآمال العراض التي كان أركان النّظام يعلِّقونها على نتيجةٍ لم يكن يخطر ببالهم أنّها لن تتحقَّق، بل سَتَرتدّ كلّ محاولاتهم عليهم بالخيبة وعضِّ اليدَين من فرط الحقد والخَيبة.

تعدُّد مجالس الإختبار والتّحدّي

ولم تقتصر المحاولات في مواجهة الإمام الجواد المعجزة، على هذا المجلس، ولا على المجالس التي أعدَّها النّظام وأركانه وعلماء بلاطه، بل امتدّت المجالس لتشمل خواصّ الأئمّة السّابقين خصوصاً الإمامَين الكاظم والرضا عليهما السلام، فقد كانوا موزّعين على أطياف فَهْم مختلفة، وكان القليل منهم يوقن بإمامة هذا «الصّبي» الذي أوتي الحكمة، أمّا أكثرهم فكانوا يريدون أن يسمعوا من الإمام الجواد نفسه ما يجعلهم يوقنون بأنّه عليه السلام «شبيه عيسى عليه السلام»، وفي هذا السِّياق تقع المجالس واللّقاءات التي كانت تهدف إلى اختبار عِلم الإمام الجواد عليه السلام.

وممّا ينبغي الوقوف عنده طويلاً في معجزة صغر سنِّ الإمام الجواد، هو أنّه عليه السلام لم يُعمِّر طويلاً، فقد استُشهد في الخامسة والعشرين من عمره الشَّريف، وهذا يعني أنَّ كلّ فترة عمره كانت تحدّياً منه لخصومه، وتحدّياً من خصومه له، فمن الواضح أنَّ درجة التّحدّي هذه     -من الطّرفَين- تخفّ تدريجيّاً مع تقدّم عمر الصّغير في السِّنّ، الذي تجلّت فيه المعجزة.
نستنتج أنَّ فرادة إعجاز إمامة الإمام الجواد عليه السلام، في المرتبة الأولى بين المعجزات الخاصّة جداً، وأنّها كانت في معرض التّحدّي والإختبار طيلة عمر الإمام عليه السلام.


اخبار مرتبطة

  مجلة شعائر الـعدد الثامن عشر-شهر ذو القعدة 1432 - تشرين الأوّل 2011

مجلة شعائر الـعدد الثامن عشر-شهر ذو القعدة 1432 - تشرين الأوّل 2011

نفحات