إصدارات

إصدارات

14/01/2019

إصدارات

 

الكتاب: نحو الهاوية – قراءة في كتاب (أميركا الحزينة) للصحفي الفرنسي ميشال فلوكيه

ترجمة وقراءة: علي شريف

الناشر: «مركز الرضوان للتأليف»، بيروت 2018م

 

عن «مركز الرضوان للتأليف والنشر»، صدر في بيروت أواخر العام المنصرم كتاب (نحو الهاوية)، وهو عبارة عن قراءة في كتاب (أميركا الحزينة) للصحفي الفرنسي ميشال فلوكيه، المراسل السابق للقناة الفرنسية الأولى، والذي أمضى نحو ستّ سنوات يجوب الولايات المتحدة الأميركية مستكشفاً وجوهها البائسة المخبوءة تحت بريق الحلم الأميركي الزائف.

يقدّم المؤلف فلوكيه «Floquet»، في كتابه  (أميركا الحزينة) «Triste Amerique»، الصادر سنة 2016م عن دار «Arenes»، حقائق صادمة مدعّمة بالوثائق والتواريخ والأسماء، حول الفقر والتسوّل في الولايات المتحدة، وأيضاً وحش المال الذي يدوس على كلّ شيء، غير آبه بالعواقب الكارثية الاجتماعية والبيئية.

النصّ التالي، أحد فصول الكتاب، وعنوانه «لا شفقة على الفقراء».

***

 إنّها قصّة غريبة. كلّ يوم بعد الظهر، تترك سيارات الموظّفين المَرأب الواحدة تلو الأخرى، حيث مكاتبهم. ثم بعد الساعة السابعة مساءً تحديداً، وبعد أن يفرُغ المكان، تصل سياراتٌ أخرى. موديلات أقدم من الأولى. يتوجّهون بدون تردّد إلى أماكنهم، متباعدين بعضهم عن بعض، يتجمهرون حول حوض وردٍ بُنيّ من الأسمنت. إثنتا عشرة (سيارة)، لا أكثر، مسموحٌ لها بأن تمضي الليل هنا.

الساعة السابعة من صباح الغد، يجب أن يرحلوا ولا يعودوا إلا في المساء. هذا ما اصطُلح على تسميته «المرأب الآمن» الذي هو مرأبٌ لا يحقّ للشرطة أن تدخله لطرد روّاده.

يوجد من هذا الطراز 23 مرأباً في مدينة «سانتا باربارا»، في كاليفورنيا، تقدّم لهم البلدية من خمسة إلى خمسة عشر مكاناً في المرأب (للراحة). تمتلئ هذه الأماكن طوال الليل، ولائحة الانتظار تطول ممّن يتمنون الحصول على مرأبٍ آمنٍ مثله.

«ريك سبنسر» يعتبر نفسه سعيداً لأنه يستطيع أن يبيت مع سيارته في هذا المرأب. يبلغ من العمر 67 سنة. إنه محاربٌ قديمٌ في فييتنام. «ريك» كان دائماً يعمل، وجمع العديد من الثروات. كان مديراً لمؤسسة صغيرة لمكبّرات الصوت. اليوم، يقبض راتب تقاعده الذي يبلغ 864 دولار ويعيش في سيارة «أولدزموبيل» صُنعت عام 1980.

بمبيته في هذا المكان، كما يقول، استطاع أن يحتفظ بقدرة على تنظيم نفسه في مساحة صغيرة. في المقعد الخلفي لسيارته، كلّ شيء مرتّب بالميلّيمتر. كلّ شيء في علبة في مكانها: مدفأة، مؤن، ملابس، أدوات الحمام الضروريّة.

نمطُ حياته لا يتغيّر، يترك المرأب قبل الساعة السابعة صباحاً بقليل، يتّجه إلى نادي الرياضة الأقلّ سعراً في سانتا باربارا. بمبلغ 30 دولاراً شهريّاً يستطيع الدخول إلى النوادي الرياضية وحمّامات الاغتسال، وهذا يغير كلّ مزاجه. ثمّ يهيم على وجهه خلال النهار، يفتّش عن مكان يوقف فيه سيارته، بعيداً عن خطر الغرامات، أو أخطر من ذلك يريد إبعادها عن خطر السرقة. ويذهب يومياً إلى ملتقى المحاربين القدامى حيث يمضي من وقته قدر الإمكان، ويستعلم عن ملفّه حول طلبه القديم للحصول على مسكن، وما زال ينتظر الجواب عنه، فلا يوجد أيّ تقدّم في هذا الملف منذ سنوات.

ريك هو صاحب عزّة نفس، وصبور، واقتصادي جدّاً. يعترف بصوتٍ هادئ في لحظة انتهاء حوارنا، أن ما يجري معه هو «مُحبِط»، فيستعمل حتى كلمة «التعذيب»، ولا شكّ في أنه كذلك يعيش حياته.

في أمريكا يمكن أن يكون الشخص موظّفاً، ولكنه فقير ومشرد. وفي هذه الحال هو في أسفل السلّم الاجتماعي، حيث يسمّى هذا النوع من الموظفين «العمال الفقراء».

لأوّل مرة، ينفّذ أُجراء مطاعم الوجبات السريعة إضراباً بدأ بمئتي شخص، ثم توسّعت حركته لتصل إلى 60 مدينة، ثم إلى 150 مدينة عام 2014، إلى أن وصلت المشاركة في الاضراب الى 500 مدينة عام 2015. مطالبهم كانت رفع أجر ساعة العمل من 7.25 إلى مبلغ 15 دولار. وهؤلاء الأجراء هم من أولئك الذين يجري توظيفهم أو صرفهم من الخدمة برمشة عين، فلا نقابة تساندهم أو تدافع عنهم.

في نيويورك يوجد حوالي 50 ألف شخص من المشرّدين، أكثريّتهم من عائلات مشرّدة بأكملها. بين كل أربع عائلات من المشرّدين يوجد عائلة، على الأقل، فيها شخص موظف. نسبة 16% من العزّاب المشرّدين هم موظفون. منهم رجال أمن، وحرّاس مرأب، أو باعة في مخازن كبيرة، أو موظّفو مطاعم وجبات سريعة.

والذي ينطبق على نيويورك موجود أيضاً في آخر البلاد. لوس أنجلوس هي عاصمة المشرّدين، حيث وصلت نبستهم إلى 12% من السكان بين عامي 2013 و 2015 بسبب تضخّم الإيجارات. آلاف الأشخاص وجدوا أنفسهم بلا مأوى. وفي كل مكان نرى أن ارتفاع نسبة العاطلين من العمل ليس سبب كثرة المشرّدين، بل إن انخفاض الرواتب هو السبب الحقيقي. الفقر وصل في الولايات المتحدة إلى مستوى ضجّت من وطأته مدنٌ وولايات ومؤسّسات، وحتّى كيانات سياسية.

يوجد ما يقارب 50 مليون شخص في الولايات المتحدة الأميركية، يعيشون تحت عتبة الفقر. ويتغيّر هذا الرقم بين سنة وأخرى وفق الحدّ الأدنى المعتمد للأجور، ووفق الحالة الاقتصادية للبلاد. والأمر الصادم هو أن هذا الرقم الذي تضخّم مع الركود الذي حصل في سنوات 2008-2011، لا يتحسّن مع تحسّن الوضع. إضافة إلى الخمسين مليون هؤلاء، يعيش مثلهم على «حساء الفقراء» التي يسمّونها هناك «برنامج الغذاء الإضافي المساعد».

الوضع متدهور لدرجة أن كلّ المدارس الحكومية تقدّم يومياً وجبة الفطور مجاناً، وهذه الوجبة هي الوجبة الرئيسية عند الكثير من التلامذة. وفي الشمال والغرب من البلاد، وللمرة الأولى أصبح الأطفال الفقراء هم الأغلبية من التلامذة. وإضافة إلى الفطور تقدّم المدارس الرسمية وجبة طعام بتعرفة منخفضة. ولد من اثنين في تكساس يحقّ له تناول تلك الوجبة، في كاليفورنيا 54% من الأطفال، و60% في الميسيسيبي يحقّ لهم الحصول على تلك الوجبة.

هذه المساعدات الغذائية تكلّف الدولة ثمناً باهظاً. (الوجبات للفقراء) التي تسمّى «food stamps» بلغت 74 مليار دولار عام 2015، بينما كانت 38 مليار دولار عام 2008، أي قبل الأزمة. هذا التضخّم في المصاريف يقلق الجمهوريّين، وقد وصف أحدهم باراك أوباما في الحملة الإنتخابية عام 2012 بـ «food stamp president»أي (رئيس وجبات الفقراء). وطبعاً السود هم أكثر المستفيدين من تلك الوجبات، لأنهم الأكثر فقراً.

لم يستفد من النهوض إلا الأغنياء، يُقَدّر أن 95% من الأرباح منذ نهاية الأزمة، ذهبت إلى فئة الـ 1%، لا بل إنّ 60% من هذه الأرباح ذهبت إلى شريحة الـ 0.1% من الشعب. باراك أوباما وبعد سبع سنين في البيت الأبيض، قال في خطاب له عام 2015 حول الفقر، أنّ رؤساء الشركات الكبرى يقبضون أكثر من كل معلمي الروضات في البلاد. النتيجة أن مدخول العائلات لا يتحسن ونسبة الفقراء لا تنخفض.

في واشنطن، من أصل ألف منزل صُودِر عشوائياً، يوجد 200 منزل فقط صودر بسبب ديون أصلية (ديون ما عدا فوائدها) تبلغ أقل من 1000 دولار. أكثرية الضحايا هم من المتقدمين في السنّ، الذين يعيشون غالباً وحيدين. وزيادة على ما يحصل لهم، شهدنا قضاة ينطقون بحكم مصادرة منازل خلال وجود أصحابها في المستشفيات، عاجزين عن الدفاع عن أنفسهم.

إذا كان هناك بلدٌ يسحق الفقراء، فهي الولايات المتّحدة الأميركية. مبدأ «الكفالة» يدير كل السلسلة القضائية، ابتداءً من الجرم البسيط لغاية جريمة القتل يجري حلّها بالمال. عدد من القضاة يتململون من هذه الحالة. وبعض الجمعيات تشنّ حرباً على واقع القضاء بالمال، مثل (اتحاد الحريات المدنية الأميركية) «American Civil Liberties Union». هذه الجمعيات تلاحق المدن والمؤسسات التي تمارس التمييز العنصري ضد الفقراء لمجرّد أنهم قصّروا في دفع محضر ضبط أو لمجرد ارتكابهم جرماً بسيطاً مثل عدم استطاعة جمع مبلغ الكفالة. ولكن في بلد يكون فيه الغنى فضيلة، من يكن فقيراً يكن قد ارتكب إثماً عظيماً.

 

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  تاريخ وبلدان

تاريخ وبلدان

نفحات