الملف

الملف

13/02/2019

الولاية المطهِّرة

الولاية المطهِّرة

قراءة في الامتحان الإلهيّ للصدّيقة الشهيدة

 

اقرأ في الملف

 

استهلال                 من أدعية السيدة الزهراء عليها السلام

هذا الملفّ

قراءة في السّنَد والمتن  

التشابة بين اسم السورة ومستهلّ الزيارة

صفة الامتحان الإلهيّ للزهراء عليها السلام                  الشيخ حسين كَوراني

كمال الولاية الصادقة

الطهارة بالولاية

ملتقى الختام بالمطلع     

 

استهلال

من أدعية السيّدة الزهراء عليها السلام

«..يا من لا تَخيبُ عليه مسألةُ السائل، ولا تَنقُصُه عطيّةُ نائل،

لم آتِكَ بِعملٍ صالحٍ قدّمتُه، ولا شفاعةِ مخلوقٍ، رجوتُه، أتقرّبُ إليكَ بِشفاعتِه؛ إلّا محمّداً وأهلَ بيتِه صلواتُكَ عليهِ وعليهِم.

أتيتُكَ أرجو عَظيمَ عفوِكَ الّذي عُدْتَ بِه على الخَطّائين عِند عُكوفِهِم على المَحارِم، فلم يمنَعْك طولُ عُكوفِهم على المَحارِمِ أنْ جُدتَ عليهم بِالمغفرة، وأنتَ سيّدي العوّادُ بالنّعماءِ، وأنا العوّادُ بِالخطأ.

أسألُكَ بِحَقِّ مُحمّدٍ وآلِهِ الطاهرين، أنْ تَغفِرَ لي ذَنبيَ العظيم، فإنّه لا يَغفرُ العظيمَ إلّا العظيمُ،

يا عظيم يا عظيم يا عظيم يا عظيمُ..».

(مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي)

 

هذا الملفّ

من بين المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام، كانت الحُجب التي حالت دون معرفة الزهراء عليها السلام، أكثر من غيرها وأشدّ، ولعلّ السبب أن الخلل المنهجيّ الذي أخضع التعرّف إلى المعصوم للمقاييس المادّية، لم يجد في سيرة الزهراء عليها السلام ما ينسجم مع مقاييسه.

ولقد مَنّ الله تعالى على الأمّة بمرجع دينيّ أعلى وفقيه نوعيّ، هو السيد الإمام روح الله الموسوي الخميني، الذي أعاد تأكيد ثوابت العقيدة والشريعة، فجاء طرحه للإسلام متكاملاً، وظهر الفرق عما انتشر وساد من التحريف العقائديّ، بعد استباحة الغرب للشرق من خلال الغزو الثقافي.

كان الأمر في الحديث عن الزهراء عليها السلام قد وصل إلى ما لا يتناسب مع شأن خادمتها «فضّة»، فإذا بنا نجد في لغة الإمام الخميني على أعتاب الزهراء عليها السلام، ما يتناسب مع آفاق «بضعة منّي»، و«فِداها أبوها»، و«تُبعث فاطمة أمامي»، وهي نفسها آفاق: «لولا عليّ لم يكن لفاطمة كفؤ..»، و«على معرفتها دارت القرون الأولى»، وغير ذلك مما تلقّاه الفقهاء العرفاء -وغيرهم- عبر القرون بأعلى درجات اليقين، لتوفّر أدلّته القطعية اليقينيّة.

***

المقالات الواردة في هذا الملف، مختصرة عن فصول كتاب (الولاية المطهِّرة) لسماحة الشيخ حسين كوراني، وهو شرح تفصيلي لفقرات زيارة الصديقة الشهيدة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، والتي رواها شيخ الطائفة الطوسي في (تهذيب الأحكام)، و(مصباح المتهجّد).

ورد في مقدمة المؤلف -تعريفاً بالكتاب: أنه محاولة جادّة ومتأنّية للتعرّف إلى بعض أشعة أنوار الصدّيقة الكبرى عليها السلام، كمرحلة أوّلية للتدرّج المنهجيّ في آفاق «حقّ المعرفة». يحدو هذه المحاولة اليقين بجملة من الثوابت، في مقدّمها: أنّ البحث عن عظَمة الزهراء عليها السلام، يجب أن يكون في قلب البحث في العظَمة المحمّديّة.

«شعائر»

قراءة في السّنَد والمتن

فرادةُ صيغةٍ لفرادة الموضوع

بعد أن تحدّث عن زيارة رسول الله صلّى الله عليه وآله في المدينة المنوّرة، قال الشيخ الطوسي رحمه الله، في (مصباح المتهجّد: ص 711):

«ثم زُر فاطمة عليها السلام من عند الرّوضة، واختُلف في موضع قبرها، فقال قوم: هي مدفونةٌ في الرّوضة، وقال آخرون: في بيتها، وقال فرقةٌ ثالثة: هي مدفونةٌ بالبقيع، والذي عليه أكثر أصحابنا: أن زيارتها من عند الروضة، ومَن زارها في هذه الثلاث المواضع كان أفضل.

وإذا وقف عليها للزيارة، فليَقُل:

يَا مُمْتَحَنَةُ، امْتَحَنَكِ اللهُ الَّذِى خَلَقَكِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَكِ، فَوَجَدكِ لِمَا امْتَحَنَكِ صَابِرَةً، وَزَعَمْنَا أنَّا لَكِ أَوْلِياءُ وَمُصدِّقُونَ وَصَابِرُونَ لِكُلّ مَا أَتَانَا بِهِ أَبُوكِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وَسَلّمَ، وَأَتَى بِهِ وَصِيُّهُ، فَإنَّا نَسْأَلُكِ إنْ كُنَّا صَدَقَنْاكِ إلاَّ أَلْحَقْتِنَا بِتَصْديِقِنَا لَهُمَا، لِنُبَشِّرَ أَنْفُسَنَا بِأَنَّا قَدْ طَهُرنَا بِوِلايَتِكِ».

وروى في (تهذيب الأحكام:6/10)، بإسناده المنتهي إلى إبراهيم بن محمّد بن عيسى بن محمّد العريضي، قال:

«...حدثنا أبو جعفر عليه السلام، ذات يوم، قال: إذا صرتَ إلى قبر جدّتك فاطمة عليها السلام، فقل: [ثُمّ أورد نص الزيارة المتقدّمة] وفي آخرها: إلاَّ أَلْحَقْتِنَا بِتَصْديِقِنَا لَهُمَا بِالبُشْرَى لِنُبَشِّرَ أَنْفُسَنَا..».

ويلاحظ إضافة كلمة «بالبشرى»، ولم ترِد في رواية (مصباح المتهجّد) المتقدمة.

والزيارة أوردها المجلسيّان والفيض الكاشاني، على التوالي، في (روضة المتقين:5/343)، و(بحار الأنوار:97/194)، و(الوافي:14/1369)، كلّهم عن (تهذيب) الشيخ الطوسي.

ونقل المجلسيّ الأول عقب إيراد الزيارة، عن الشيخ الطوسي قوله: «هذه الزيارة وجدتها مرويّةً لفاطمة صلوات الله عليها، وأما ما وجدت أصحابنا يذكرونه من القول عند زيارتها عليها السلام، فهو أن تقف على أحد الموضعين اللّذَين ذكرناهما [البيت والروضة] وتقول: السلامُ عليكِ يا بنتَ رسول الله، السلامُ عليكِ يا بنتَ نبيّ الله...». [انظر: مفاتيح الجنان، زيارتها عليها السلام، عقب زيارة النبيّ صلّى الله عليه وآله]

وقد استظهر المجلسي رحمه الله، أن هذه الزيارة «يا ممتحنةُ..»، دعاءٌ بعد الزيارة، فقال في (لوامع صاحبقراني:8/511) -وهو الشرح الفارسي لـ(فقيه) الشيخ الصدوق- ما ترجمته:

«والظاهر أنّ هذا دعاءٌ، يُقرأ بعد الزيارة... والأفضل قراءة الاثنين». أي الزيارة التي تبدأ بعبارة: «السلام عليكِ يا بنت رسول الله..»، وهذه الزيارة: «يا ممتحنةُ..».

وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى نقطتين:

الأولى: أنّ ألفاظ هذا النصّ لا تُشبه ألفاظ الدّعاء، وإن كانت أيضاً تختلف عن صِيَغ الزيارات، إلا أنها إلى الزيارة أقرب.

الثانية: أنّ امتياز النصّ عن صيغ الزيارة والدعاء، فرادةُ صيغةٍ لفرادة الموضوع، ثمّ إنّ تميّز متن الزيارة، يكمنُ -على ما يكشفه التحقيق- في انطباق مضامينها مع المضامين المماثلة المرويّة بأسانيد صحيحة، بل مع الأسس الاعتقادية المستنبطة من القرآن الكريم والحديث الصادر، التي قامت عليها أقوى الأدلة والبراهين.

السنَد

* ساق الشيخ الطوسي في (تهذيب الأحكام)، سند هذه الزيارة على النحو التالي:

«محمّد بن أحمد بن داود، عن محمّد بن وهبان البصريّ، قال: حدثنا أبو محمّد الحسن بن محمّد بن الحسن السيرافي، قال: حدثنا العباس بن الوليد بن العباس المنصوري، قال: حدثنا إبراهيم بن محمّد بن عيسى بن محمّد العريضي، قال: حدثنا أبو جعفر عليه السلام، ذات يوم، قال: إذا صرتَ إلى قبر جدّتك فاطمة عليها السلام، فقُلْ...»،

* وقال المجلسي الأول: «روى الشيخ (الطوسي في التهذيب) في القويّ (سَنَداً) عن إبراهيم بن محمّد العريضي قال: «حدّثنا أبو جعفر الثاني صلوات الله عليه ذات يومٍ، قال: إذا صرتَ إلى قبر جدّتك فقُل: يا مُمتحَنة...». الزيارة

وينبغي، في السياق، ملاحظة التالي:

أ) أن هذه الكنية «أبو جعفر» تنصرف عند الإطلاق إلى الإمام الباقر عليه السلام.

ب) أنّ المجلسيّ الأول استظهر أنّ المراد به هو الإمام الجواد عليه السلام، فأضاف كلمة «الثاني».

ت) أنّ سبب الاستظهار أن نسبة «العُريضي» الواردة في آخر اسم الراوي الذي سمع من الإمام عليه السلام، ترجّح أو تعيّن أن المراد هو الإمام الجواد عليه السلام، فكنية «أبي جعفر» هنا ليست مطلقة لتحمَل على الإمام الباقر عليه السلام.

ث) الدليل على ذلك أنّ «العُريض» اسم منطقة كانت في ضواحي «المدينة المنوّرة»، وصارت الآن منها، وأول من عُرف بهذه النسبة هو جدّ الراوي، والجدّ هو ابن الإمام الصادق عليه السلام، العالم الجليل «عليّ بن جعفر» المشهور أنه مدفون في قمّ، والمرجّح -إن لم يكن الصحيح- أنه مدفون في هذه المنطقة «العُريض» التي نُسِب إليها، لأنه سكنها واشتهر بالنسبة إليها بعد شهادة الإمام الصادق عليه السلام، حيث كان عمره عند شهادة الإمام سنتين.

في المقابل، ثمة من المحدّثين الأجلاء من نسب هذه الزيارة الى الإمام الباقر، والصواب هو ما تقدّم، أي أنها مروية عن أبي جعفر الجواد صلوات الله عليه.

الصبرُ على ولاية الله ورسوله

دلالات التشابه بين اسم السورة القرآنية ومستهلّ الزيارة

قد يتبادر إلى الذهن تساؤلٌ حول إمكانية التطابق بين اسم سورة «المُمتحنة» في القرآن الكريم، وبين مفردة «مُمتحَنة» في الزيارة، ومن ثمّ الدلالات التي ينبغي التأمل فيها، متى ثبت ذلك.

وبالرجوع إلى القرآن الكريم، نجد أنّ مشتقّات الجذر «مَحن»، وردت:

* في الآية الثالثة من سورة الحجرات: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى...﴾. والمعنى أنه تبارك وتعالى اختبر قلوبهم. تقول: امتحنتُ الذهب والفضّة: إذا أذبتَهما لتختبرهما.

* وفي الآية العاشرة من سورة المُمتحنة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ...﴾. أي فاختبروا إيمانهنّ وتوثّقوا منه.

وطبيعيّ أن يربط الباحث بين تعبير ﴿..امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى..﴾، في الآية الأولى، وبين مفردة ﴿فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾ في الآية الثانية.

وبالنظر إلى شأن نزول الآيتين، نجد أن من أبرز القواسم المشتركة بينهما: «الردّ على الله تعالى وعلى رسوله».

* أما في سورة «الحجرات»، فإنّ المحور الذي تعالجه الآيات الخمس الأولى منها، هو «الجرأة على الله تعالى»، من خلال الجرأة على رسوله صلّى الله عليه وآله، وصولاً إلى تحديد أن المؤمنين الذين يتأدّبون مع الله تعالى ورسوله هم الذين ﴿امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾.

ومن الواضح مدى علاقة مضمون هذه الآيات بموضوع الردّ على رسول الله، وأن الرادّ عليه رادٌّ على الله تعالى. وفي (تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 4/213)؛ و(الدرّ المنثور للسيوطي: 6/84)، تصريحٌ بأن هذه الآيات نزلت لمّا تمارى عمر وأبو بكر حتى ارتفعت أصواتهما بمحضرٍ من رسول الله صلّى الله عليه وآله.

* وأما سورة «الممتحنة» -ومن أسمائها أيضاً سورة الامتحان أو سورة المودّة: نجد في (مجمع البيان)، وغيره، أنها نزلت عقب «صلح الحُدَيْبِيَة»، وكان من شروطه أن مَن جاء المسلمين هارباً من المشركين، ردّه المسلمون إلى أهل مكّة. أما من أتى المشركين هارباً من المسلمين، فليس لأهل مكّة أن يردّوه إلى المسلمين. وفي البَين، وقعت حادثتان:

الحادثة الأولى: جاءت سبيعة بنت الحرث الأسلمية، مسلمةً بعد الفراغ من كتاب الصّلح، فأقبل زوجها في طلبها، وكان كافراً، فقال: يا محمّد! أردُد عليّ امرأتي، فإنك قد شرطتَ لنا أن تردّ علينا مَن أتاك منّا، وهذه طينةُ الكتاب لم تجفّ بعد.

فنزلت الآية: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ..﴾ من دار الكفر إلى دار الإسلام ﴿فَامْتَحِنُوهُنَّ﴾.

وامتحانُ المرأة المهاجرة الهاربة من المشركين، أن يستحلفها رسول الله. ولهذا كان صلّى الله عليه وآله يأمر أن تقول المرأةُ المُمتحَنةُ: «باللهِ الّذي لا إلهَ إلا هو، ما خرجتُ من بُغض زوج. باللهِ ما خرجتُ رغبةً عن أرضٍ إلى أرض. باللهِ ما خرجتُ التماسَ الدنيا. باللهِ ما خرجتُ إلا حبّاً للهِ ورسولهِ».

فاستحلف رسول الله سبيعةَ المذكورة، فلمّا حلفتْ، أعطى صلّى الله عليه وآله وسلّم زوجَها مهرَها، وما أنفقَ عليها، ولم يردّها عليه.

الحادثة الثانية: هرب أبو جندل بن سهيل بن عمرو، من مكّة، فلجأ إلى المسلمين وأخذ يستغيث. وكان قد عُذِّب عذاباً شديداً. فجاء أبوه سهيل يستردّه، متذرّعاً بشرط كتاب الصلح. فألحّ رسول الله على أبيه أن يقبل إجارته في ابنه، فتعنّت الأبُ رفضاً.

فأقبل عمر بن الخطاب على رسول الله، فقال: ألستَ نبيَّ الله؟ فلِمَ نُعطي الدنِيّةَ في ديننا، إذاً؟!

فأجابه صلّى الله عليه وآله: إنّي رسولُ الله، ولستُ أَعصيه، وهو ناصري.

وفي (الدرّ المنثور للسّيوطي: 6/77)، و(الإحكام لابن حزم: 4/424)، وغيرهما: عن عمر بن الخطاب أنه قال: «واللهِ ما شككتُ مذ أسلمتُ إلا يومئذٍ»!

تشابه في الردّ، واتحاد الرادّ

لا تنحصر دلالات التشابه بين لفظ «ممتحنة» في الزيارة، وبين اسم سورة «الممتحنة» في التشابه اللفظيّ، بل يشترك موردا التسمية في «الردّ على الله تعالى والرسول»، كذلك باتحاد الرادّ وهو «عمر بن الخطّاب»، كما تصرّح بذلك المصادر السنيّة التي لا تصدر من تحاملٍ عليه، بل تصدر من روح البحث الموضوعيّ والأمانة في نقل الحقائق.

توضيح ذلك: أن امتحان المرأة المهاجرة، كان يتضمّن أن تقول: «.. باللهِ ما خرجتُ إلا حبّاً للهِ ورسوله».

يلفت ذلك إلى أمرين هامّين:

1) أن «التّولّي والتّبرّي» محورُ سورة «الممتحنة»، وهما عبارة عن حبّ الله ورسوله، أو الردّ عليهما.

2) أن امتحان الزهراء عليها السلام في الدنيا، هو في الصبر على مواقف من لم يَرعوا في حقّها حبَّ الله تعالى وحبَّ الرسول صلّى الله عليه وآله، أي لم يرعوا واجب التولّي، فآذوا رسول الله صلّى الله عليه وآله من خلال إيذائها عليها السلام.

يقودنا الجمع بين الأمرين إلى أنّ التشابه بين لفظ «مُمتحَنة» في الزيارة، وبين اسم سورة «المُمتحنة» مقصودٌ، بعناية بالغة، للإشارة الحكيمة إلى هذه المعطيات العقائديّة.

 

فرعٌ على الميثاق الأخصّ  للحقيقة المحمّدية

قراءة في صفة الامتحان الإلهيّ للزهراء عليها السلام

يستدعي البحث في الامتحان الإلهيّ للزهراء عليها السلام، تقديم البحث في عموم الامتحان الإلهيّ لكلّ الناس، وسينتهي بنا المطاف -من خلال البحث القرآنيّ والروائيّ- إلى أن الامتحان، أو الميثاق الإلهيّ، على ثلاثة أقسام:

1) الميثاق العامّ، وهو لكلّ البشر :

هو الميثاق الذي أخذه الله تعالى على كلّ بني آدم عليه السلام، بالتوضيح الذي تضمّنته آية الميثاق: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ...﴾. (الأعراف:172)

2) الميثاق الخاصّ للأنبياء والأولياء:

قال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾. (الأحزاب:7)

وفي تفسير الميزان للسيد الطباطبائي، قال: «..الميثاق المأخوذ من النبيّين ميثاق خاصّ من حيث إنهم نبيّون، وهو غير الميثاق المأخوذ من عامة البشر..»، وهو المشار إليه في الآية 172 من سورة الأعراف، المتقدّم ذكرها.

ومفاد الروايات، أن هذين الامتحانين، لعامة البشر ولخصوص الأنبياء، كانا في مرحلة «عالَم الذّرّ».

وبديهيّ أن ميثاق النبيّين عليهم السلام، أعمّ وأشمل من ميثاق سائر الخلق. ومن عناوينه، ما رواه الفخر الرازي في (تفسيره: 8/123)، عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال: «إنّ اللهَ تعالى ما بعثَ آدمَ عليه السلام -ومَن بعدَه من الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام- إلا أخَذَ عليه العهدَ: لئِن بُعث محمّدٌ عليه الصلاة والسلام، وهو حيٌّ، لَيُؤمِنَنّ به ولَيَنْصُرَنّه..».

وهذه الرواية تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾. (آل عمران:81)

3) الميثاق أو الامتحان الإلهيّ الأخصّ للحقيقة المحمّديّة:

المقصود من «الحقيقة المحمّديّة»، الخمسة أصحاب الكساء، والتسعة المعصومون من ذريّة سيّد الشهداء عليه السلام. والامتحان الإلهيّ للحقيقة المحمّدية متقدّمٌ زمنياً -أي قبل مرحلة عالَم الذّرّ- على امتحان سائر النبيّين، وفي سياقه يقع امتحان الصدّيقة الكبرى الزهراء عليها السلام.

وفي حشدٍ كبيرٍ جداً من الروايات تصريحٌ بأن النبيّ صلّى الله عليه وآله، خُلق قبل النبيّ آدم بدهرٍ طويل، وأنه صلّى الله عليه وآله أوّل النبيّين خَلقاً، وأنه سرّ الخلق، وأن الملائكة تعلّمت التهليل والتسبيح منه ومن آله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

من هذه الروايات، ما رواه ابن حنبل في (مسنده) عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، قال: «كنتُ أنا وعَلِيّ نوراً، بين يدَي الله، قبلَ أن يخلقَ آدمَ بأربعة عشرَ ألف سنة..».

[انظر: كشف الغطاء: 1/10؛ طرائف ابن طاوس: ص 16؛ شرح إحقاق الحق: 5/243]

ولا يخفى أن هذا الامتحان الإلهيّ للحقيقة المحمّدية، هو الأول، وعلى أساسه كان الخلق وعالَم الذّر، وسائر عوالم الإنسان.

وتشارك الزهراءُ عليها السلام، مَن هي بضعةٌ منه صلّى الله عليه وآله. وبهذا تلتقي دلالة عبارة الزيارة «امْتَحَنَكِ.. قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَكِ»، وما ورد من قولها عليها السلام، عن أبيها صلّى الله عليه وآله: «وأشهدُ أنّ أبي محمّداً عبدُه ورسولُه، اختارَه قبلَ أن يجتبِلَه، واصطفاهُ قبلَ أن يبتعِثَه، وسمّاهُ قبلَ أن يستنجِبَه».

ومعنى أن الحقيقة المحمديّة هي سرّ الخلق -«لَولاكَ ما خلقتُ آدم»- أنّ نجاح سيد النبيّين وآله صلوات الله وسلامه عليهم، في الامتحان كان قد تحقّق، فثبتتْ به «جدوى مشروع الخلق». وفي هذا الأفق والعالَم، كان امتحان الزهراء عليها السلام الذي تتحدّث عنه الزيارة.

خصوص الامتحان الإلهيّ للزهراء عليها السلام

يُفهم من كلمات العلماء أنه لا يصحّ الفصل بين الامتحان الذي تعرّضت له الزهراء عليها السلام، في هذه الحياة الدنيا، بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله، وبين امتحانها الإلهيّ في عالَم الذرّ. هذا الامتحان هو ذاك، والنجاح فيه هنا، هو ما كان قد ظهر في عِلم الله تعالى في عالَم الذرّ، أو النشأة الأولى.

ما يلي، أبرز ما ورد في كلمات العلماء حول طبيعة الامتحان الإلهيّ للصدّيقة الكبرى عليها السلام.

* الصبر على الابتلاءات المرتقَبة: سُئل المرجع الراحل الشيخ جواد التبريزي، حول تفسير الامتحان قبل الخلق، وكونها عليها السلام صابرة، الوارد في متن الزيارة: «امتحَنكِ الّذي خلقَكِ قبلَ أن يَخلُقَكِ، فوَجَدَكِ لِما امتحنَكِ به صابرةً».

فأجاب رحمه الله (صراط النجاة): «لعلّ الامتحان راجعٌ إلى عالم الذرّ، وخلْق الأرواح في الصوَر المثالية قبل خلق الأبدان، واللهُ العالم».

وقال في مكانٍ آخر: «الامتحان المذكور في زيارة الزهراء سلام الله عليها، فالمراد به: عِلمُ الله بما يجري عليها، وصبرُها على جميع الابتلاءات السابقة على وجودها المادّي الخارجيّ، ما أوجب إعطاءها المقام الخاصّ بها..».

* حبسُ النفْس على مرضاة الله: يقول المرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني (الحقّ المبين، ص 305): «عندما نقرأ في زيارتها سلام الله عليها: يا ممتحنةُ، امتحنكِ اللهُ الّذي خلقَكِ قبلَ أن يخلقَكِ، فوجَدَكِ لِما امتحَنَكِ صابرة. نعرف أنّها بلغت مقامها العظيم بامتحان الله تعالى لها، لكنّا لا نعرف إلا القليل عن ذلك الامتحان وكيف نجحت فيه بالصَّبر، وكيف حبست نفْسها على مرضاة الله تعالى حتّى رحلت من هذه الدنيا».

* الاجتباء قبل الخلق أمارة على خصوصيّةٍ في الذوات المطهّرة: يقول العلاّمة الشيخ محمّد السند (الإمامة الإلهية، تقرير دروسه، ص 199): «إنّ الامتحان في رتبة العلم الربوبيّ والاصطفاء والاختيار والانتجاب في أفق العلم الإلهيّ قبل خلق النبيّ صلّى الله عليه وآله وقبل خلق الزهراء عليها السلام، يدلّ على وقوع العلم الإلهيّ على خصوصيّةٍ في تلك الذوات المطهّرة التي حباها الله بختم النبوّة والحجّية على الخلق».

* الصبر على حمل الأسرار الربانية: قال الشيخ محمّد فاضل المسعودي (الأسرار الفاطمية، ص 54): «والذي يظهر من هذه الزيارة المخصوصة للصدّيقة الشهيدة أنها امتُحنت من قبل الباري عزّ وجلّ قبل خلْقها، أي عندما كانت نوراً من الأنوار التي خلَقها الله تعالى قبل الخلق بألف عام، والتي كانت بعرشه مُحْدِقة، و كان الامتحان لها لأجل إظهار مقامها السامي، ومنزلتها الحقيقية، حيث كانت نتيجة الامتحان أنها صابرة.

 والمعروف عند العرف العقلائي أن الشخص يمتحَن ليُعرف مدى استعداداته وقابلياته. والزهراء سلام الله عليها امتُحنت في حمل العلم والأمانة الربانية، فوجدها الباري عزّ وجلّ صابرة على حمل العلم والأمانة الربّانية، لذا استحقّت حمل الأسرار الربّانيّة».

 

كمال الولاية الصادقة

ثباتٌ على اليقين بما جاء به النبيّ وأوصياؤه

نقرأ في زيارة الصدّيقة الشهيدة الزهراء عليها السلام: «وَزَعَمْنَا أنَّا لَكِ أَوْلِياءُ وَمُصدِّقُونَ وَصَابِرُونَ لِكُلّ مَا أَتَانَا بِهِ أَبُوكِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وَسَلّمَ، وَأَتَى بِهِ وَصِيُّهُ».

زعمُ الولاية مصطلح قرآنيّ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ..﴾ (الجمعة:6).

 والزّعم في اللغة: «اعتقادٌ لا يُبتنى على أساسٍ موثّق»، فهو ، إذاً، ادعاءٌ، قد يكون حقاً، وقد يكون باطلاً.

والخطورة في كلّ «زعمٍ» بحسبه، إلا أنها تبلغ أعلى مراتب الخطر، عندما يتعلق الزعمُ بأمرٍ عقائديّ، كما هو الحال هنا في «زعْم الولاية».

كيف نحذر الولاية المزعومة

في ما يخصّ التدقيق في ولايتنا للزهرء عليها السلام ينفعنا جداً أن نستحضر أنّ الله تعالى يرضى لرضاها عليها السلام، ثم نقيس كلّ اعتقادٍ من اعتقاداتنا، وكلّ عمل، بل كلّ نيّة بمقياس رضاها عليها السلام. وحتى لا تكون ولايتنا زعماً باطلاً وادعاءً مردوداً، يجب الحذر من المخاطر التالية:

1) الإقامة على معصية: بمعنى أن تكون هناك معصية -ولو واحدة- يقع فيها الشخص عن سابق عمدٍ وإصرار.

2) العمل بلا تقوى: وهو أن يبني المرء تديّنه بناءً ضعيفاً ﴿عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾، يعمل الكثير ولكنْ بلا تقوى. يأتي بالطاعات، ولكن متى لاح له شيءٌ من الحرام، خرج إليه يسعى. (التوبة:109)

3) عدم الحذر من سوء العاقبة: ومنشأه الفهم الخاطئ لـ«ولاية الزهراء عليها السلام»، واعتبارها مجرّد انتماء يحدّد هويّة الفرد الدينيّة الواقعيّة والأبديّة، والصحيح أن ولايتها عليها السلام ليست شيئاً آخر غير الالتزام الدينيّ السليم. ولاية الزهراء عليها السلام تجلّي ولاية الله تعالى.

4) لا تُخرج نفسك من حدّ التقصير: عن أبي الحسن الكاظم عليه السلام، قال: «..لَا تُخْرِجَنَّ نَفْسَكَ مِنَ حَدِّ التَّقْصِيرِ فِي عِبَادَةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وطَاعَتِه، فَإِنَّ اللهَ لَا يُعْبَدُ حَقَّ عِبَادَتِه».

والضرر في إخراج النفس من «حدّ التقصير» في معرفة العقائد الحقّ، والالتزام بها، أشدّ من خطر إخراج النفس من التقصير في سائر العبادات.

الولاية الحقيقيّة هي الصبرُ الحقيقيّ

حاصل معنى فقرة «وَزَعَمْنَا أنَّا لَكِ أَوْلِياءُ»، هو: شكوى الموالي، وخوفه من أن تكون ولايته للزهراء عليها السلام ولاية مزعومة، وهذه الشكوى وهذا الخوف مبنيّان على خوفه من عدم الصّدق في ادعائه وزعمه التصديق بما جاء به النبيّ والوصيّ صلّى الله عليهما وآلهما، وخوفه من عدم الصدق في استعداده الحقيقيّ للصبر.

هكذا يتضح أنّ الولاية الحقيقيّة تقوم على التصديق، بدلاً من التصوّر الذي يقترن بالزعم. ويثبت التصديقُ بالصّبر.

وعليه، يُصبح حاصل معنى الولاية الحقيقية: التصديقُ بما جاءَ به النبيّ والوصيّ صلّى الله عليهما وآلهما، تصديقاً تامّاً كاملاً، لا تقوى كلّ مراراتِ الدنيا أن تخدشَ الصّبرَ عليه، فضلاً عن أن تنالَ منه.

وعليه أيضاً، يكون حاصل هذا الحاصل أن الولاية الحقيقيّة هي الصبرُ الحقيقيّ.

صبر الموالي دليل التصديق

إذا دقّقنا في هذه الزيارة للزهراء عليها السلام، سنجد أن الحديث فيها عن صنفين من الصبر:

1) صبرُ المولى: «امْتَحَنَكِ اللهُ الَّذِى خَلَقَكِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَكِ، فَوَجَدكِ لِمَا امْتَحَنَكِ صَابِرَةً».

2) وصبر الموالي: « وَزَعَمْنَا أنَّا لَكِ أَوْلِياءُ وَمُصدِّقُونَ وَصَابِرُونَ لِكُلّ مَا أَتَانَا بِهِ أَبُوكِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وَسَلّمَ، وَأَتَى بِهِ وَصِيُّهُ..».

وتعبير «أتى بالشيء» أعمّ من الإتيان باللفظ وبالفعل، فكلّ ما صدر من النبيّ صلّى الله عليه وآله -ومن وصيّه عليه السلام- من قولٍ أو فعلٍ، وهو موردٌ للتصديق وللصّبر، فإنّ الواجب على الموالي أن يصدّق به، ويصبرَ عليه.

التصديق والصبر عامّان

وجوبُ التصديق عامّ، لا يُستثنى منه أيّ مورد، فمن لا يصدّق بطول عمر الإمام المهديّ عجّل الله تعالى فرجه الشريف، أو بأصل الرّجعة، فقد حُرم من كمال الولاية، وإذا كان عدم تصديقه بمعنى الإنكار الذي بلغ حدّ الاعتراض، فقد خرج من الولاية، إنْ كان قد دخلها، وحُرم من الوصول إليها إنْ كانت لم تتحقق فيه وله بعد.

ووجوب الصبر عامّ، لا يقصَد بصبر المولى صبرٌ خاصّ في موردٍ أو موارد. واجب الموالي هو الاقتداء بالمعصوم، والتدرّج في مراتب الصبر وصولاً إلى حيث يكون الصبر خُلُقاً يتخلّق به وسجيّة راسخة، رغم بالغ اختلاف الدرجات بينه وبين المعصوم، وبين حالات الموالي نفسه.

زادُ الموالي في هذه الرحلة الأشقّ، أن الله تعالى وعد أن يُفرغ الصبر على من يطلبه بصدق: ﴿.. رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً..﴾. وإفراغُ الصبر ينادي بالوفرة والإغداق. فهل يُحسن القلبُ الطلب؟ وهل يعي أن طلب الوصول إلى الطلب الحقيقيّ، طلبٌ! (البقرة:250)

خطورة عدم التصديق

الخطورة العظمى، حين يكون المطلوب من الموالي التصديق بما صبر عليه المولى، فيسقط من يريد أن يكون موالياً، في الامتحان. ووجه الخطورة، انتفاءُ إمكانيّة الولاية، بحيث لا يبقى مجالٌ حتى لزعمها والادّعاء.

مثال ذلك: أنْ لا يتمكّن الموالي من التصديق بـ«إسقاط المحسن» -جنين الزهراء عليها السلام، الذي سمّاه رسول الله صلّى الله عليه وآله يوم سمّى الحسنَين- رغم توفّر الأدلة القطعيّة على ذلك، كما ثبت في محلّه من المصادر السنّيّة قبل الشيعيّة، فيلجأ إلى التنظير المبنيّ على الأوهام، من قبيل: وهل يُعقل أن يحصل ذلك بمرآى من الإمام عليّ عليه السلام، ومَسمع؟!

إن السبب الحقيقيّ لعدم التعقّل هذا، هو عدم القدرة على فهم أن يكون في «إسقاط الجنين» حكمة تقتضي الصبرَ عليه.

[راجع مثلاً: كتاب (المحسن السبط، مولودٌ أم سقط؟ للسيد محمّد مهدي الخرسان]

يؤدّي سوء الفهم إلى عدم التعقّل، والمآل عدمُ التصديق بوقوع ذلك، وإنكارُه، ولا يكتفي المنكِر بذلك، بل يعلن الحرب حتى على من يتحدّث به بيقين، فلا يبقى مجالٌ لاستلهام دروس الصّبر والعِبَر من صبر المعصوم على أهوال المعاناة التي تعجز عن حملها الرواسي.

 

الطهارة بالولاية

سلامة الفِكر والعقل والمسلك

الطهارة بولاية الزهراء عليها السلام، هي محور البحث في هذه العبارة من الزيارة «.. بِأَنَّا قَدْ طَهُرنَا بِوِلايَتِكِ».

يكشف التأمل في تفسير الآيات القرآنية حول الإيمان، وحول الولاية، وفي الروايات حولهما، أنّ الإيمان بالله تعالى هو الإيمان بولايته سبحانه، بما تعنيه الولاية من حبّ وطاعة.

وعليه، فإنّ كلّ ما ورد حول أن الإيمان مطهِّر، يدلّ على أن الولاية مطهِّرة، لأنَ الإيمان هو الولاية.

يؤكّد حقيقة وحدة الإيمان والولاية أنّ الإيمان هو التولّي والتبرّي، ولا يُلحظ التبرّي إلا لاكتمال التولّي، فالإيمان هو التولّي أو «الولاية».

قال الله عزّ وجلّ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِي ما شَجَرَ بَيْنَهُمْ..﴾. [النساء:65]

ومن الروايات الدالة على أنّ «الولاية» أعلى مراتب الإيمان، ما رواه الشيخ المفيد قي (المقنعة)، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله: «أَوْثَقُ عُرَى الإيمانِ الحبُّ في الله، والبُغْضُ في الله، والولايةُ لأولياءِ الله، والعداوةُ لأعداء الله».

بناءً على حقيقة أن الإيمان هو الولاية والولاية هي الإيمان، فإن كلّ النصوص التي تدلّ على أن الإيمان مطهِّر، تدلّ على أن الولاية مطهِّرة.

التطهير بالإيمان

من النصوص الدالة على التطهير بالإيمان:

* ما قالته الصدّيقة الكبرى عليها السلام، في خطبتها في المسجد النبويّ: «..ففرضَ اللهُ الإيمانَ تطهيراً من الشِّرك».

فإذا تنبّهنا إلى أن الإيمان هو الولاية، أدرَكنا أن معنى قولها عليها السلام: «..الإيمان تطهيراً من الشرك» هو : «الولاية تطهيرٌ من الشِّرك»، وهو ما يدلّ عليه قوله عليه السلام، في الزيارة: «قَدْ طَهُرنَا بِوِلايَتِكِ».

* ويكفي التأمل في إجماع الفقهاء على أن الكافر نجِس، ويطهُر بالإسلام، أي بالإيمان بالله تبارك وتعالى. قال في (الجواهر: 2/52) «.. ثبتَ أن الاسلام مطهِّرٌ من النجاسة الكُفريّة..».

التطهير بالولاية

ومن النصوص الصريحة في التطهير بالولاية:

* هذه الفقرة من زيارة أئمّة البقيع عليهم السلام، أوردها الشيخ الطوسي في (مصباح المتهجّد: ص 714): «..وطيَّبَ خَلْقَنا بما مَنَّ به عَلينا من ولايتِكم..».

* وفي الزيارة الجامعة: «.. وجعلَ صلاتَنا عَليكم ومَا خصَّنا بهِ من ولايتِكم طِيْبَاً لخَلْقِنا، وطهارةً لأنفُسنا، وتزكيةً لنا..».

قال العلامة المجلسي في (ملاذ الأخيار: 9/265)، يشرح عبارة «طِيباً لخَلقنا:

1) بالفتح -لخَلقِنا- إشارة إلى ما ورد في الأخبار الكثيرة: أن ولايتهم وحبّهم علامةُ طِيب الولادة.

2) أو بالضم -لِخُلُقنا- أي: جعل صلاتَنا عليكم، وولايتنا لكم سبباً لتزكية أخلاقنا واتّصافنا بالأخلاق الحسنة، وبركةً لنا».

الفكر الطاهر، مطهِّر

معنى أن الإيمان مطهّر، وهو الولاية، وأن الولاية مطهّرة، أن العقيدة الإسلامية تطهّر المؤمن الذي اكتملت ولايتُه.

ومعنى أن «العقيدة» مطهّرة، أن «الفكر الطاهر» مطهِّر.

وينبغي التنبّه بعناية إلى قيد «الطاهر»، فليس الفكرُ بالمطلق طاهراً، فضلاً عمّا يُظنّ أنه فكرٌ وليس به، كما هو الحال في الماء، وفي ما يظنّ أنه ماء، كالإدرار، أو الماء المضاف.

يتفرّع على هذا الأصل الأصيل -أي أن «الفكر الطاهر مطهِّر»- عدة حقائق مركزيّة، منها:

1) موقع الفكر في الدين، هو الموقع الأعلى الذي تتقوّم به قيمة الإنسان.

2) القول بطهارة الإنسان بالمطلَق، يحطّ من قيمة الفكر والإنسانية والإنسان.

3) السائد الثقافيّ على مستوى العالم، هو الخلط بين الفكر السليم أي الطّاهر، وبين أمرين: الفكر النّجِس، والمزاج الغرائزيّ الذي يُظنّ أنه فكرٌ، وهو «النّكراء»، و«الشَّيطنة».

4) هذا الخلط بين الفكر السليم، أي الطاهر، وبين غيره، نتيجة طبيعية لمرض الخلط بين العقل السليم، وبين الغرائز وهَواها.

سُئل الإمام الصادق عليه السلام (الكافي:1/11 ح 3): «.. ما العقل؟ قال: ما عُبِدَ به الرّحمنُ واكتُسِبَ به الجِنان.

 قال الراوي: فالذي كان في معاوية؟ فقال عليه السلام: تلك النّكراء، تلك الشّيطَنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل».

 

 

الطهارة بالولاية، طهارة فكر وعقل

يتّضح مما تقدّم أن «الطهارة» المقصودة بقوله عليه السلام «قَدْ طَهُرنَا بِوِلايَتِكِ»، هي طهارة فِكر، ناتجة عن سلامة العقل وطهارته، ومطهّريته.

وتكشف سلامة العقل بدورها -بالإضافة إلى طهارة الفكر والثقافة- عن طهارة السلوك.

إنّ معنى «العقل ما عُبد به الرّحمن»، أنّ العقل السليم يتلازم مع السلوك المستقيم، وهو صريحُ قول الإمام الصادق عليه السلام (الكافي:1/11 ح 6): «مَنْ كَانَ عَاقِلاً كَانَ لَه دِينٌ، ومَنْ كَانَ لَه دِينٌ دَخَلَ الْجَنَّةَ».

السلوك ثمرة ثقافة، وهي ثمرة قناعة، والقناعة ثمرة فكر، والفِكر ثمرة عقل.

الصّدق في ولاية الزهراء عليها السلام

يتّضح -في ضوء ما تقدّم- أنّ الصدق في ولاية الزهراء عليها السلام، هو جوهر العقيدة الإسلامية وروحها. به يثبت صدق اعتقاد المؤمن برسول الله صلّى الله عليه وآله، وبوصيّه عليه السلام، أي بالنبوّة واستمرارها وهو الإمامة، وبهما يثبت صدق توحيد الله تعالى، فتجب «البُشرى بالطّهارة»، وتلزم.

وكما لا توحيد إلا باتّباع النبيّ، ومن بعده الوصيّ، فلا اعتقاد سليماً بالنبوة والإمامة إلا بصدق ولاية الزهراء عليها السلام.

يعني ذلك بوضوح: لا توحيدَ إلا بالصّدق في ولاية الزهراء عليها السلام. مَن شهدتْ له بصدق القول في ما زعم من ولايتها عليها السلام، والتصديق بكلّ ما أتى به النبيّ والوصيّ، والصّبر على ما أتيا به  صلّى الله عليهما وآلهما، شهدتْ له عملياً:

1) بإلحاقه بالبُشرى، أي ألحقَتْه الزهراء عليها السلام، بمقام البُشرى.

2) أو بإلحاقه بالنبيّ والوصيّ صلّى الله عليهما وآلهما، أي ألحقَتْه الزهراء عليها السلام بهما صلّى الله تعالى عليهما وعليها وآلهم أجمعين.

وكلاهما حقيقة واحدة، والنتيجة كذلك واحدة، وهي: ليُبشّرَ نفسَه بالطهارة بولايتها عليها السلام.

ملتقى الختام بالمطلع

التّصديق، فالصَّبر...

يلتقي ختام الزيارة: «لِنُبَشِّرَ أَنْفُسَنَا بِأَنَّا قَدْ طَهُرنَا بِوِلايَتِكِ»، مع مطلعها: «يَا مُمْتَحَنَة»، ومادّة التلاقي بينهما، هي الصّبر: ﴿.. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة:155).

أما النتيجة العملية المركزيّة التي يجب أن يخرج بها الزائر من هذه الزيارة، فأمران:

الأمر الأول: أنّ الصّبر هو المدخل إلى سلامة الولاية وحُسن العاقبة. فالصبر بُراق هذا السفر مِن زَعْم الولاية إلى صِدق الولاية، أي من الإسلام بمعناه العامّ إلى الإيمان. والجهاد الأكبر لا يستقيم إلا بالصَّبر. ومتى قلتَ «الصبر»، قلتَ «عمودَ عمودِ الدين»، والدليل: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾. (البقرة:45)

يتضح أن قوله عليه السلام في الزيارة «وَصَابِرُونَ»، هو متمِّمُ العلّةِ المقوِّمُ، وليس مجرّدَ جزءِ العلّة، إذ به يتّصلُ صبرُ الموالي بصبر الوليّ. يلتقي معنى «وَصَابِرُونَ» مع ما سبق من قوله عليه السلام: «فَوَجَدكِ لِمَا امْتَحَنَكِ صَابِرَةً».

الأمر الثاني: أنّ المدخل إلى الصبر هو التصديق، بل اليقين بيوم الحساب. هذا اليقين هو المحور واللّبّ والعمود الفقريّ، في ما جاء في الزيارة مقدّماً على الصَّبر، في قوله عليه السلام: «وَمُصدِّقُونَ وَصَابِرُونَ لِكُلّ مَا أَتَانَا بِهِ أَبُوكِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلهِ وَسَلّمَ، وَأَتَى بِهِ وَصِيُّه..».

عند بدء حضور «الآخرة» في متْن الوعي والذهن، يبدأ التصالح مع الصّبر، ويُتاح التدرّج في الاستعانة بالصبر، وصولاً إلى المحافظة على الصلوات الخمس، لا الأربع، كما هو محلُّ ابتلاءٍ على نطاقٍ واسع.

وعند بدء الالتزام بأداء صلاة الصبح عند الفجر -ولو بالاقتصار على الواجب، ثم مواصلة النوم- يبدأ التفكير الجادّ بالاستعانة بالصلاة.

يعني ذلك أنّ المدخل الحصريّ إلى التدريب على الصّبر، هو الإيمانُ بالآخرة. قال تعالى: ﴿..فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾. (النحل:22)

وسرُّ الإيمان بالآخرة، هو «العرضُ على الله تعالى» و«الحساب» على كلّ صغيرة وكبيرة.

قال السيد الطباطبائي (تفسير الميزان: 16/367): «الرادع الوحيد عن المعصية والداعي إلى الطاعة، هو الإيمان بالآخرة، وليس (مجرّد) الإيمان بالله ورسوله؛ كما قال تعالى: ﴿..إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾..».

 

اللّهمّ صلِّ على محمّدٍ وآله

اللّهمّ إنّي أسألُكَ بحقِّ فاطمةَ وأبيها

وبَعْلِها وبَنيها، والسّرِّ المستودَعِ فيها

أن تُصلّيَ على محمّدٍ وآل محمّد

وأن تفعلَ بي ما أنت أهلُه، ولا تفعَل بي مَا أنا أهلُه.

 

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

  شعر

شعر

  تاريخ و بلدان

تاريخ و بلدان

نفحات