بسملة

بسملة

06/05/2019

كيف نفّذ الاستعمار خطّة "تمليك" فلسطين، والحجاز لليهود؟ -1

كيف نفّذ الاستعمار خطّة "تمليك" فلسطين، والحجاز لليهود؟ -1

بقلم: الشيخ حسين كوْراني

* من هم أعداء الداخل: الآن وقد حَمِيَ الوطيس، والأمّة -بقيادة إيران الإسلام- ماضيةٌ قُدُماً كحدّ السيف في استئصال تداعيات حقبة "سايكس- بيكو" ليتنسَّم عالمنا العربيّ فجر الاستقلال الحقيقيّ، ما أشدّ حاجة شعوبنا إلى معرفة السياسات التي اعتمدها الاستعمار لتنفيذ خطّته التي تقدّم الحديث عنها بالتفصيل.

سيتّضح من مطاوي هذا البحث بجلاء أنّ إحراز النصر في منازلة الأمّة التي تدور رحاها الآن، يتوقّف على معرفة كلّ الأعداء -أعداء الداخل والخارج- فلا تتكرّر نكبة ضياع فلسطين عبر اللجوء إلى أعداء الداخل لمواجهة أعداء الخارج فيبقى المخلصون المجاهدون مكشوفين جرّاء انخداع جمهور الأمّة بتلبيس المستعمر وتدليسه في مجال تلميع صوَر أدواته وعملائه ودُماه، وتقديمهم للأمّة باعتبارهم المنقذين، وأبطال التحرير والاستقلال.

محالُ أن تسعد الإنسانيّة بتحرير فلسطين، إنْ لم يجلجل في الخافقَين هتاف الشعب الفلسطينيّ في كلّ الميادين: "الموت لآل سعود".

محالٌ أن تسقط مؤامرة "صفقة القرن" إذا تُرك الشعب الفلسطينيّ -الظاهرة الفريدة في الصمود والتحدّي- وحيداً بسبب تفويض الشعوب العربية لحكّامها أمر مواجهة مخطّطات الأعداء.

***

* العمود الفقريّ  لتنفيذ خطط المستعمر

يستحكم هذا المحال ويشتدّ إذا بقيَ الجوّ العام في الأمّة جوَّ الثقة بالحكّام العملاء وتصديق ما يصدر عنهم من مواقف وقرارات، كموقف الحاخام سلمان بن الحاخام عبد العزيز المعلَن ضدّ "صفقة القرن"! وكقرارات وزراء الخارجية العرب "ضدّ" صفقة القرن، ونقل السفارة الأميركيّة إلى القدس و"تطويب" الجولان لما يُسمّى "إسرائيل".

جاء موقف سلمان بعد أن جعل دميتَه ابنه يتمادى في التنظير لما بعد "إنهاء" قضيّة فلسطين، وجاءت قرارات وزراء الخارجيّة -وقبلها التصريحات التي صدرت باسم الجامعة العربيّة- لامتصاص نقمة الجماهير، وطمأنة السيّد الأميركيّ من ردّات الفعل الغاضبة.

مع اليقين بانتصار الأمّة في هذه الجولات الخاتمة، لا بدّ من العناية التامّة وبمنتهى الموضوعيّة والأمانة العلميّة، بتظهير أنّ "آل سعود والوهّابيّين" كانوا وما يزالون العمود الفقريّ لتنفيذ الاستعمار خطّته في إقامة الكيان الصهيونيّ والمحافظة على استمراره، وتمزيق العالم العربيّ والإسلاميّ وانشغاله بالخصومات البينيّة والفقر والجهل.

***

أبرز النتائج لمعرفة آليّة وسياسات تنفيذ هذه الخطة، ستّ حقائق محوريّة، هي:

1) أن كلّ حديث عن "الاستقلال" تربّينا عليه وما زلنا نتداوله، هو حديث منقوص مموّه وملتبس، ذلك أن أكثر بلادنا -خصوصاً الحجاز ومشيخات النفط- لم تذق طعم الاستقلال.

2) أنّ العدوّ الأول للأمّة في المنطقة -قبل "إسرائيل"، ومعها- هو الذي مكّن الاستعمار من زرع هذا الكيان الصهيونيّ في فلسطين. العدوّ الأوّل للأمة -مع "إسرائيل"- هم آل سعود من يهود "بني القينقاع" بشهادة بن غوريون وجون فيلبي.

سنجد -ونحن نتتبّع الوثائق السياسيّة البريطانيّة وامتداداتها في المراجع المعتبرة- أنّ ضياع فلسطين بإقامة "الكيان الصهيونيّ" فيها، كان نتيجة ضياع الحجاز وإقامة "الكيان السعوديّ" فيه، وأوّلُ مَن صرّح باعتماد هذه السياسة، هو "ونستون تشرشل"، رئيس الوزراء البريطانيّ الشهير، وقد تحدّث عنها بالتفصيل مع "حاييم وايزمن" كما جاء في مذكّراته، ونقلها عنهما "جون فيلبي" في أكثر من كتاب من مؤلّفاته، منها كتاباه: (مذكراتي السياسيّة مع الملك عبد العزيز) و(الذكرى العربيّة للمملكة العربيّة السعوديّة).

3) أنّ الوهّابيّة هي الدين البريطانيّ المخترَع للإساءة إلى الإسلام والمسلمين في مسارين:

الأول: تقديم نموذج دمويّ متخلّف منحطّ ينفر منه الطبع السويّ والعقل السليم، وتمويه ذلك بلفافات مختارة بعناية من "الإسلام الأمويّ".

الثاني: تكفير الشيعة والسنّة، وإعلان الحرب المفتوحة ضدّهم باسم "أهل السنّة والجماعة"، وهم من هذه الحرب بُرَآء، وإبادة أكبر عدد ممكن منهم باسم جهاد المسلمين ضدّ المشركين.

تكفي نظرة متأنية في قوائم أسماء العلماء السنّة الذين قتلهم آل سعود، وفي عدد المجازر السعوديّة بالمسلمين السنّة والتفنّن في حرقهم أحياء، أو خلْط دمائهم بماء الوضوء في المسجد وغير ذلك -ممّا تجد الكثير منه في (تاريخ آل سعود) للأستاذ ناصر السّعيد - لإثبات أنّ الوهّابيّة هي "الإسلام البريطانيّ" الذي ورّثته لأميركا فصار "الإسلام الأميركيّ".

4) أنّ كلّ حديث عن "الوحدة الإسلامية" لا يُبنى على براءة الإسلام من "آل سعود" الوهّابيّة والوهّابيّين، حديث هباء، يعمّق سقوط الأمّة في شراك الاستعمار الإبليسيّة، ويزيد في تمكين "خائن الحرمَين" من إعمال خنجر حقد يهوديّته في أفئدة المسلمين.

5) أنّ إفشال "صفقة القرن" وما لابسها، يتوقّف على معرفة أنّ "آل سعود" وجلاوزتهم الخليجيّين الذين ينفثون سمومهم باسم "مجلس التعاون الخليجي"، و"جامعة الدول العربيّة"، هم -قبل "إسرائيل"- مصدر الخطر على الأمّة، ولئن تمكّنوا من خداع الأمّة فتسبّبوا بنكبة الـ48، فلن يمكنهم اليوم تمرير طيّ "قضيّة فلسطين".

إنّ فهم الراهن السياسيّ، والعسكريّ، والأمنيّ، يتوقّف على معرفة حقيقة "آل سعود، والوهّابيّة" وملحقاتهما من صبية الإمارات وجلواز البحرين وغيرهم، سواءً مَن شارك في ما سُمّي بالتحالف العربيّ - الإسلاميّ ضدّ الشعب اليمنيّ المعجزة، أو لم يشارك ولكنّه لفرط عمالته والوضاعة والهوان يسجد على أقدام الملك السلطان الحاخام سلمان، وابنه الدّمية الأرعن، كما هو حال السيسي، أو السّبسي وغيرهما.  

6) ومن أبرز نتائج التعمّق في خطّة الاستعمار البريطانيّ، والتعمّق في معرفة السياسات التي اعتُمدت على مشارف الحرب العالميّة الأولى وخلالها وما بعدها، اكتشاف المفاجأة الكبرى في التطابق بين السياسات التي نفّذت بريطانيا خطّتها من خلالها، وبين السياسات التي تعتمدها أميركا في هذا العصر.

* فالثورة العربيّة الكبرى التي أرادتها بريطانيا أن تكون الإسفين الأخير في نعش الدولة العثمانية دون أن يحصل العرب منها على طائل، ترجمتها أميركا إلى هذا العصر بالربيع العربيّ الذي كانت أميركا تهدف عبره إلى إعادة التموضع في البلاد العربيّة دون أن تحصل الشعوب العربيّة إلا على وهم الثورات، ووهم إسقاط الأنظمة.

* وحركة "الإخوان" التي أرادتها بريطانيا جيش السلفيّين الوهّابيّ الذي ينفّذ بكلّ وحشيّة وانحطاط مهمّتين:

أ) قمع المخالفين وهم جمهور المسلمين والتفنّن في تجزيرهم وإبادتهم.

ب) وتشويهَ الإسلام باسم الإسلام.

هذه السياسة استبدلتها أميركا -محاكاة للخطّة البريطانيّة- بـ"دولة الإسلام في العراق والشام"، وأوحت إلى بعض أذنابها بالتنظير المكتوب لـ"إدارة التوحّش" ورفع شعارات الترهيب والبطش مثل"بالذبح جيناكم" وغيره.

* والاكتفاءُ بالذّرائع الواهية، واللجوء إلى استعمال القوّة لفرض ما تريده بريطانيا، كما فعلت حين فشلت في الحصول على موافقة إسلاميّة أو عربيّة -وعلى نطاق واسع- في التنازل عن فلسطين لليهود، فاكتفت بقصاصة ورقٍ كتب عليها يهوديٌّ يتظاهر بالعروبة هو "السلطان" عبد العزيز عباراته المشهورة التي يأتي توثيقها القطعيّ في الحديث عن المعاهدة الأولى بين بريطانيا عبر "كوكس" مع اليهوديّ القينقاعيّ "عبد العزيز".

هذه السياسة استبدلتها الترجمة الأميركيّة العمليّة للسياسات البريطانيّة بالاكتفاء لفرض "صفقة القرن" وملابساتها المعلنة حتّى الآن، بالموافقة السرّية ليهوديّ يتظاهر بالعروبة هو سلمان بن عبد العزيز وبعض دماه، كابنه وابن زايد وغيره من مشيخات النفط والعار.

***

 

* تقديم النتائج

يجري الحديث عن النتائج عادةً بعد بحث الموضوع الذي يصار الى استخلاص نتائجه، وإنما قدّمت النتائج لسببَين:

الأول: أنّ الموضوع هنا ملتبس، فالسائد أن النظام السعوديّ إسلاميٌّ وطنيّ، وسيثبت البحث في آلية تنفيذ الاستعمار خطّته أنّه "كيانٌ يهوديّ" كان لا بدّ من تأسيسه كمدخلٍ حصريّ لإقامة "الكيان الصهيونيّ"، وفي المواضيع الملتبسة إلى هذا الحدّ ينبغي أن يشرك الباحث القارئ في خطوات الاستنتاج، ليتثبّت القارئ على الوجه الأكمل من حُسن القراءة والاستنتاج.

الثاني: أنّ موضوع البحث هنا متداخل إلى حدّ التماهي مع الراهن السياسيّ -كما مرّت الإشارة- فالآلية التي اعتمدتها أميركا منذ إطلاق دواعشها حتّى الآن، هي نفس الآلية البريطانية التي يجري البحث عنها.

***

* عمدة الأهداف، وخلاصة آلية تنفيذ الخطّة

كانت إقامة "الكيان الصهيونيّ" في فلسطين هدفاً استعماريّاً مزمناً، وقد حاول "نابليون بونابرت" تنفيذه قبل احتلال بريطانيا لبلادنا، فهو، إذاً، في طليعة أهداف المستعمر البريطانيّ، إلا أنّ رأس الأهداف والضامن لتثبيت ما سواه، هو -في ضوء الواقع وما كشفته وثيقة الكابتن براي المطولة جدّاً والتي كتبها عام 1917- "القضاء على الإسلام".

وتتلخّص آلية تنفيذ الخطّة الاستعماريّة لتحقيق هذين الهدفَين وسواهما -كالتّحكّم بثرواتنا وغيره- في "تمليك" الحجاز لسلالة يهوديّة بالبيان الذي تقدّم توضيحه في الحديث عن "خطّة المستعمر".

* كيف نفّذ الاستعمار البريطانيّ هذه الآليّة؟

أقصر الطرق للإجابة على هذا السؤال، وأقواها حجةً، وأوضحها دلالة، التأمّل في أمرين:

الأول: وقائع جلسة توقيع أول اتفاقية بين بريطانيا -عبر السير كوكس- وبين عبد العزيز "ابن السعود" التي عقدت عام 1915م. والمفاجأة الجديدة في هذه الوقائع هي توثيق النصّ المتداول بخطّ عبد العزيز عن تنازله عن فلسطين "حتّى تصيح الساعة"، وإثبات أن عبد العزيز كتبه في هذه الجلسة.

الثاني: بنود هذه المعاهدة، التي ما تزال روحها سارية حتّى اليوم.

سنجد بوضوح كيف أنّ التنازل عن فلسطين كان الشرط الأبرز، كمدخل إلى "تمليك" سلالة يهوديّة لرقاب المسلمين، والحرمَين الشريفَين، وسائر الحجاز بعد تسميته "السعوديّة".

* وقائع جلسة توقيع أول معاهدة

في كتابه النوعيّ المجهول القدر، (تاريخ آل سعود) كتب الأستاذ ناصر السعيد، معتمداً شهادة "جون فيلبي" الذي كان حاضراً في هذه الجلسة:

"توجّه الكولونيل السير "برسي كوكس" المعتمد البريطانيّ في سواحل الخليج العربيّ سنة 1915 حيث قابل الأمير عبد العزيز بن السعود في "مخيم العقير" لأول مرّة، (ويقول الكولونيل برسي كوكس): لقد كانت أوّل مرّة لي أقابل فيها أميرنا عبد العزيز بن السعود، ولقد أُعجبت به ولم يخب ظنّ أحدنا بالآخر وقلت له: إنك شخصية قويّة يا عبد العزيز،

فردّ عبد العزيز بقوله: أنتم الذين كوّنتم لي هذه الشخصيّة وهذا الجاه، ولولا بريطانيا العظمى لم يكن يعرف أحد أن هناك شيئاً اسمه عبد العزيز آل سعود، لولاكم كنت أُقيم لاجئاً في الكويت، إنّني بكم وصلت إلى لقب الأمير عبد العزيز بن سعود وسوف لن أنسى لكم هذا الفضل مدى حياتي وسأبقى لكم خادماً مطيعاً منفّذاً لما تريدون.

 ويقول "جون فيلبي" الذي حضر هذا الاجتماع: وردّ "السير برسي كوكس" قائلاً: "نحن لم نمنحك لقب أمير فقد كنتَ أميراً بطبيعتك، أمّا اللّقب الذي سأُقلّدك وسامه الآن باسم بريطانيا العظمى فهو لقب السلطان عبد العزيز سلطان نجد والأحساء والقطيف والجبيل"، فقلّده وسام السلطنة البريطانيّة، وقال: "وفي المستقبل القريب سنقلّدك وسام سلطنة "حائل" بعد القضاء على خصومنا، ثمّ سلطنة الحجاز ونجد لتصبح سلطان نجد والحجاز وملحقاتهما، ثمّ نجعل منك ملكاً بعد تسليمك "عسير" وبعض الإمارات الأخرى لنطلق عليها اسمكم فتصبح (المملكة السعودية)".

وهنا استفسر عبد العزيز وهو يقبّل جبين الكولونيل "كوكس" ويدُه اليمنى ترتعش من شدّة الفرح ويردّد: (الله يقدّرنا على خدمتكم. الله يقدّرنا على خدمة بريطانيا. ماذا تعني بالإمارات يا سيّدنا برسي؟

فتكلّم المستشار عبد الله الدّملوجي مسابقاً الكولونيل بقوله: إنّ الكولونيل يعني بالإمارات الأخرى مثل البحرين والكويت وقطر والشام وفلسطين والعراق واليمن، فقاطعه السير برسي كوكس بكلمة حاول فيها إخفاء ملامح الغضب من وجهه بابتسامة استخفاف قائلاً: كلا….كلا إنّما أقصد: نجد، وحائل، والحجاز، والأحساء، والجوف، لأننا لا نضمن وقوف آل رشيد أو استمرار الحسين بن علي معنا، ولذلك سننقل الحسين بن علي لتعيينه إذا أراد وأولاده ملوكاً على العراق وسوريا، ولكننا نعتقد أنّ الحسين سيرفض الاستجابة لتعيينه في منصب أصغر ممّا يتخيّله في عقله، وحينها سنضطر إلى نفيه بعيداً، أما أولاده فنتوقّع موافقتهم، أما إمام اليمن فنحن نمدّه الآن لمحاربة الأتراك في اليمن، وسنضع حدوداً لكلٍّ من ممالككم ونحن نحارب توحيد البلاد العربية تحت حكم رجلٍ واحد حتّى ولو كان ملكاً، لأن هذا ليس في صالح بريطانيا، فالتوحيد سينتج عنه ذوبان الأقاليم وتلاشي التبعيات وبذلك يصبح العرب قوّة كبرى تقف في وجه مصالحنا المشتركة، كما أن وضع البلاد العربية تحت حكم شخص واحد سيضعف هذا الشخص في يوم من الأيام، فتحدث بعد ذلك ثورات قد تؤدّي إلى قيام جمهورية عربية واحدة، ثم إن عندنا الآن مشكلة اليهود وفلسطين، إننا نريد حسمها لنمكّن اليهود من العيش بسلام في وطن لهم بعد هذا التشرّد الطويل، ونريد أن يساعدنا ملوك العرب بصفتهم يمثّلون الشعوب العربية التي ستعارض فكرة إعطاء اليهود أرضاً في فلسطين، فما هو رأي السلطان عبد العزيز؟

فاستفسر عبد العزيز عن رأي السير كوكس بقوله: ماذا تعني بهذا الكلام؟

فخشي السير كوكس من أن يكون عبد العزيز بسؤاله هذا قد استاء من موضوع إيجاد اليهود في فلسطين، فرأى أن يمهّد لما يريد من عبد العزيز إجابةً عليه، فقال السير كوكس: إنني واثقٌ منك يا عبد العزيز بأنك سوف لا تردّ لنا طلباً، وإنّ الحياة كلّها مصالح مشتركة، فلولا مصالح بريطانيا لا يمكن لنا أن نساعدك يا عبد العزيز.

ولو لم تكن أيّها السلطان موضع ثقةٍ منّا لما دعمناك وحاربنا من أجلك، والذي أريد أن أقوله هو هل يمكن في ما لو طلبنا منك أن تعترف لنا بجعل فلسطين وطناً قوميّاً لليهود أن نطمع بالموافقة؟ أعتقد أنّ في هذا ضمانة لبقائك كما هو من صالح بريطانيا أن يكون لليهود كيانٌ ووطن، وما هو صالح لبريطانيا لا شكّ في صالحك.

ويتابع جون فيلبي قوله: فضحك عبد العزيز ساخراً من هذا الطلب.

وألقيْت نظرة فاحصة على وجه الكولونيل كوكس وإذا به قد امتعض لا شكّ أنه خشيَ مثلما خشيتُ أنا أيضاً أن تكون ضحكة السلطان عبد العزيز الساخرة بداية للخروج عن الطاعة ورفض الطلب الذي لم يسبق للسير كوكس أن تفوّه به لأحد قبل عبد العزيز، بل لا يمكن أن يتفوّه به السير كوكس لو لم يكن مكلّفاً ببحثه في دائرة المخابرات العامّة في لندن، وبذلك توقّعنا تلك اللحظة أن نخسر عبد العزيز ويخسر هو نفسه، ويكون "لورنس" قد انتصر في إصراره على رأيه القائل بأن الحسين بن عليّ كان أصلح لبريطانيا من عبد العزيز بن السعود.

ولكن سرعان ما تبدّدت أوهامنا وتحقّق صواب رأيي في صاحبي العزيز عبد العزيز الذي طالما دافعت عنه.

قال السير كوكس بسخرية: لماذا تضحك من قولنا يا عظَمة السلطان عبد العزيز؟!

فردّ عظمته قائلاً: شيء مضحك فعلاً!. شيء مضحك أن تطلبون (كذا) منّي أن أوافق على إقامة وطنٍ لليهود في فلسطين بينما اليهود موجودين (كذا) في فلسطين فعلاً والإنكليز يحكمون فلسطين فعلاً، وبإمكان الإنكليز إعطاء اليهود ما يشاؤون من هذه الأرض التي يحكمونها، هذا ما يُضحكني. ويضحكني أيضاً أن يُنشئ الإنكليز ممالك وملوك (كذا) وسلاطين ومع ذلك يطلبون أخذ الموافقة ممّن أقاموهم بأيديهم من هؤلاء السلاطين والملوك، ثم أضحك أيضاً ممّاذا يستفيد الإنكليز من موافقة واحد مثلي يرجو عوْن الإنكليز ويمدّ إليهم يده كلّ شهر ليتقاضى معاشه من الإنكليز، ويستطيع الإنكليز رفع مرتّبه أو تخفيضه أو قطعه وإسقاطه شخصياً أو إنجاحه!..

قال كوكس: إنّ ما تقوله يا عظمة السلطان كلّه صحيح، ونحن لم نمنحكم ألقاب السلاطين والملوك ونُمدّكم بالعون والنجاح إلا لتكونوا ممثلين للشعوب العربية، وبذلك يكون لاعترافكم قيمة وشرعيّة، فأنتم محسوبون من الإنكليز ووجود الإنكليز أو إسرائيل في فلسطين أو أيّ بلدٍ عربيٍّ يعتبر انتهاكاً لحرمة هذا البلد. هذا ما يقال وما هو واقع، أليس كذلك يا عظمة السلطان؟

فردّ عبد العزيز قائلاً: نعملا شكّوإذا كان لاعترافي هذه الأهمية عندكم فأنا أعترف ألف مرّة بإعطاء اليهود وطناً في فلسطين أو غير فلسطين، وهذا حقّ وواقع وهنا دسَّ عبد العزيز يده وأخرج ورقة صغيرة كانت في جيبه المتدلّي من أعلى صدره إلى أسفل بطنه، وكتب السلطان بخطّ يده يقول:

"أنا السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود أقرُّ وأعترف للسير برسي كوكس مندوب بريطانيا العظمى، لا مانع عندي من إعطاء فلسطين لليهود أو غيرهم كما ترى بريطانيا التي لا أخرج عن رأيها حتّى تصيح الساعة"!

انظر في آخر الكتاب وثيقة بخطّ يد عبد العزيز وختْمه يعطي بها فلسطين لليهود وقّعها للسير برسي كوكس، واستحصلنا عليها من كتاب فيلبي أرسله للملك سعود يهدّده فيه بنشرها في حال عدم (عودته) من منفاه في بيروت إلى "وطنه" السعودية. ( ناصر السعيد)

* يشير المؤلف إلى ما تحدّث عنه بالتفصيل في كتابه حول أخْذه رسالة فيلبي التي ذكرها من أمير سعودي ماجن يبدو أنه لم يقرأها رغم حساسيتها.

* حوار فيلبي وعبد العزيز. (الوثيقة الأخطر)

وتابع السعيد ذكر بقية وقائع هذه الجلسة، فقال:

وقال فيلبي: بعد انفضاض هذا الاجتماع، أخذت أمازح عبد العزيز متسائلاً وقلت: كيف تبصم يا عظمة السلطان بهذا الشكل؟.

ألا تتوقع أن يغضب العرب على عظمتكم في ما لو عثروا على هذه الوريقة؟ فقال باستهزاء: العرب؟!…

العرب، (وين العرب)؟ نحن سلاطين العرب يا حاج فيلبي لورنس اسمه ملك العرب وفيلبي اسمه شيخ العرب ولو انتظرنا رأي العرب ما أصبحنا سلاطين كما ترى.. وما دامت بريطانيا راضية فلا يهمّ إنْ غضب العرب أو رضوا، وما دام هذه الورقة عند كوكس فهي في مأمن.

قلت للسلطان: ربّما يسبّب هذا التوقيع تشريد شعب فلسطين بكامله من فلسطين فردّ عبد العزيز عليّ بقوله وهو يضحك بصوت مرتفع: "ألا ترى أننا قد شرّدنا من جزيرة العرب الكثير من أهلها وسنشرّد الكثير أيضاً وتعلم أننا كَفّرنا العرب المسلمين وهم ليسوا كفّاراً إرضاءً لبريطانيا، فهل تريد أن أُغضب بريطانيا لأنّ عدداً من أهل فلسطين سيُشرّد؟ أهل فلسطين لا يستطيعون حمايتي إذا لم تحميني (كذا) بريطانيا من الأعداء ولتحترق فلسطين بعد هذا مَن يعرف أنّ في نجد شيئاً اسمه السلطان ابن سعود لو رفضت التوقيع أو عارضت أوامر سيدنا كوكس أنت تمزح (ولّا) صادق يا فيلبي؟"، قلت وأنا أبتسم: لا يا عظمة السلطان إنني أمزح لأرى ما تقول وبعد ذلك قرّر السير برسي كوكس رفع مرتّب السلطان عبد العزيز بعد أن تظلّم السلطان من ضآلة مرتّبه عن مرتبته، ورفعه من/500/ جنيه استرليني في الشهر إلى/5000/ ومن ثمّ وضعنا معاهدة للحماية وقّعها كل من كوكس وعبد العزيز وهذا نصها".

* نص أول معاهدة بين بريطانيا وعبد العزيز آل سعود

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه معاهدة بين الحكومة البريطانية من جهة، وبين عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود أمير نجد والأحساء والقطيف وجبيل وجميع المدن والمرافئ التابعة لهذه المقاطعات من جهة أخرى.

الحكومة البريطانية باسمها، وعبد العزيز باسمه وباسم ورَثته وأخلافه ورجال عشيرته، عيّنت الحكومة البريطانية الكولونيل السير برسي كوكس معتمدها في سواحل خليج العجم مفوّضاً لأجل أن يعقد معاهدة مع عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود ضمن المقصد الآتي.

توطيد وتوكيد الصداقة الموجودة بين الطرفين منذ زمن طويل وتأييد منافعهما المتقابلة:

إنّ الكولونيل السير برسي كوكس، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود المعروف بابن السعود اتّفقا وتعاقدا على المواد الآتية:

أولاً: إن الحكومة البريطانية تعترف وتقبل بأنّ نجداً والأحساء والقطيف وجبيل وملحقاتها، التي تُعيَّن هنا، والمرافئ التابعة على سواحل خليج العجم، كلّ هذه المقاطعات هي تابعة للأمير سعود وآبائه من قبل، وهي تعترف بابن سعود حاكماً مستقلّاً على هذه الأراضي، ورئيساً مطلقاً على جميع القبائل الموجودة فيها، وتعترف لأولاده وأعقابه الوارثين من بعده، على أن يكون خليفته منتخباً من قبل الأمير الحاكم، وأن لا يكون مخاصماً لإنكلترا بوجه من الوجوه، أي أنه يجب أن لا يكون ضدّ المبادئ التي قبلت في هذه المعاهدة.

ثانياً: إذا تجاوزت إحدى الدول على أراضي ابن سعود أو أعقابه من بعده دون إعلام الحكومة البريطانية ودون أن تمنح الوقت المناسب للمخابرة مع ابن سعود لأجل تسوية الخلاف فالحكومة البريطانية تعاون ابن سعود ضدّ هذه الحكومة، وفي مثل هذه الظروف يمكن للحكومة البريطانية بمساعدة ابن سعود أن تتّخذ تدابير شديدة لأجل محافظة وحماية منافعه.

ثالثاً: يتعهّد ابن سعود أن يمتنع عن كلّ مخابرة أو اتفاق أو معاهدة مع أية حكومة أو دولة أجنبية، وعلاوة على ذلك فإنه يتعهّد بإعلام الحكومة البريطانية عن كلّ تعرّضٍ أو تجاوز يقع من قبل حكومة أخرى على الأراضي التي ذُكرت آنفاً.

رابعاً: يتعهّد ابن سعود بصورة قطعية أن لا يتخلّى ولا يبيع ولا يرهن ولا بصورة من الصور ولا يقبل بترك قطعة أو التخلّي عن الأراضي التي ذُكرت آنفاً، ولا يمنح امتياز(اً) في تلك الأراضي لدولة أجنبية أو لتبعية دولة أجنبية دون رضى الحكومة البريطانية، وأنه يتبع نصائحها التي لا تضرّ بمصالحه.

خامساً: يتعهّد ابن سعود بأن يبقى الطرق المؤدّية إلى الأماكن المقدّسة مفتوحة، وأن يحافظ على الحجّاج أثناء ذهابهم إلى الأماكن المقدّسة ورجوعهم منها.

سادساً: يتعهّد ابن سعود كما تعهّد والده من قبل بأن يمتنع عن كلّ تجاوز وتداخل في أرض الكويت والبحرين وأراضي مشايخ قطر وعمان وسواحلها وكلّ المشايخ الموجودين تحت حماية إنكلترا والذين لهم معاهدات معها.

سابعاً: الحكومة البريطانية وابن سعود يتّفقان في ما بعد بمعاهدة على التفصيلات التي تتعلّق بهذه المعاهدة .

3 يناير سنة 1915

التوقيع: الكولونيل السير برسي كوكس معتمد بريطانيا في ساحل خليج العجم

التوقيع: السلطان عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل سعود خادم الدين والدولة

***

بمنهى اليسر يُمكن الجزم من خلال هذه المعاهدة وما دار في جلسة توقيعها، بالخطوات التنفيذية التالية:

1) "تمليك" بريطانيا "الحجاز" لأسرة لا لفرد، ولهذه الأسرة علاقة ببريطانيا "منذ مدّة طويلة".

2) أن استبدال اسم الحجاز بالسعوديّة، قرارٌ بريطانيّ، أما أن السبب في اختيار هذه الأسرة هو "يهوديّتها" فيأتي الاستدلال عليه من خارج نصّ وقائع هذه الجلسة ونصّ المعاهدة، ويكفي دليلاً قاطعاً على ذلك ما نقله "جون فيلبي" عن "بن غوريون" حول "ابن عمّه عبد العزيز"، وتوضيح "فيلبي" بأن "عبد العزيز" من يهود "بني القينقاع"، وقد تقدّم، ويأتي المزيد.

3) أنّ الشخص الأوّل المتعاهد معه من هذه الأسرة "عبد العزيز آل سعود" مستعدّ للتنازل "عن فلسطين وغيرها" ولا يعير أدنى اهتمام لتشريد الشعب الفلسطينيّ، وضياع فلسطين بل يقول: "ولتحترق فلسطين"!

4) كما يُمكن الجزم بمنتهى اليُسر بأنّ "عبد العزيز" لم يكن معتقداً بالوهّابيّة حين كفّر المسلمين، وأباد من أباد منهم وشرّد مَن شرّد، بل كان ينفّذ رغبة بريطانيا، وفي هذا الاعتراف الصريح منه مستمسكٌ بالغ الأهمّية لإثبات أن الوهابية ليست "الإسلام الأموي" بل هي "الإسلام البريطانيّ المموّه بالإسلام الأمويّ".

5) أنّ كلّ الحروب التي نُسبت إلى "عبد العزيز" هي في التجهيز والتخطيط والقيادة الميدانيّة، حروب بريطانيا، ولذلك يقول عبد العزيز آل سعود: "لولاكم كنت أقيم لاجئاً في الكويت".

هذه الحقائق وغيرها، يأتي -بحوله تعالى- تقديم المزيد الوفير من الأدلّة القطعية عليها.

***

كلمات في الختام إلى معجزة الصمود، الشعب الفلسطينيّ الصابر المحتسب: لا تفسحوا المجال لسلمان بن عبد العزيز ودميته ابنه، لتكرار ما فعله أبوه عبد العزيز في إجهاض جهادكم وتضييع حقّكم.

علامة سلامة مسار جهادكم، أن يطبّق أرجاء فلسطين ويملأ سماءها دويّ حناجركم الصادحة بالبراءة من آل سعود.

اخبار مرتبطة

  إصدارات

إصدارات

07/05/2019

إصدارات

نفحات