تحقيق

تحقيق

11/05/2020

منازل الركب الرضويّ من المدينة المنوّرة إلى خراسان

«أخرجُ من جِوار جدّي...وأموت في غُربة»

منازل الركب الرضويّ من المدينة المنوّرة إلى خراسان

إعداد: «شعائر»

يتناول هذا التحقيق -المقتبس من غير مصدر، في مقدّمها الجزء الرابع من كتاب (قادتنا كيف نعرفهم) للمرجع الدّيني الراحل السيّد محمّد هادي الميلاني- التعريف بالمسير الذي سلَكه الركب الرضويّ، انطلاقاً من المدينة المنوّرة، وبنزرٍ يسير من الوقائع التي شهدها في المنازل المتعددّة التي اجتازها، وصولاً إلى مرو، عاصمة العباسيّين في مطلع القرن الهجري الثالث.

 

بعد أن قضى المأمون العبّاسي على سلطة أخيه الأمين في بغداد واستوى الأمر له، أخذ يكاتب الإمام الرضا عليه السّلام ليستقدمه إلى خراسان، فاعتذر عليه الإمام بأعذار. فلم يَزَل يكاتبه في ذلك، وتوالى عليه الاستدعاء بعد الاستدعاء، فكان لا بدّ من الرحيل، حفظاً للنفس والأهل، بل حفظاً للدِّين، واستجابةً لأمر الله تبارك وتعالى. فخرج الإمام الرضا من مدينة جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله، وكان ذلك سنة 200 للهجرة، حيث بعث المأمون برجاء بن أبي الضحّاك لإشخاصه، صلوات الله عليه، وقد كتب إليه أن يسير على طريق البصرة -العثمانيّة الهوى- ثمّ الأهواز، ففارس (شيراز).

وحذّره من أن يمرّ على: الكوفة -وهي علويّة الهوى- ثمّ بلاد الجَبَل [أي همدان ونهاوند وطبرستان] وقمّ، «لئلاّ يُفتتَنَ به أهلها».. ذلك أنّ أهل الكوفة من شيعة أهل البيت عليهم السّلام، وكان المأمون يُعرب عن مخاوفه منهم، ويقابل وفدهم بالغلظة والجفاء.

يقول مُحول السجستانيّ: «لما ورد البريد بإشخاص الرضا عليه السّلام إلى خراسان، كنت أنا بالمدينة، فدخل المسجد ليودّع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فودّعه مراراً...كلّ ذلك يرجع إلى القبر ويعلو صوته بالبكاء والنحيب، فتقدّمت اليه وسلّمتُ عليه فردّ السلام... وهنّأته [أي بولاية العهد]، فقال عليه السلام: (ذَرْني، فإنّي أخرجُ من جوار جدّي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأموتُ في غربةٍ...). فخرجتُ متّبعاً لطريقه حتّى مات بطوس، ودُفِن إلى جنب هارون».

ويستعدّ الركب للرحيل، فيدخل الإمام عليه السّلام، على عياله يجمعهم... ثمّ يقول: «أما إنّي لا أرجع إلى عيالي أبداً».

ثمّ نصّ على إمامة ولده أبي جعفر الجواد عليه السّلام، وأشار إليه وأوصى به، قال: «هذا أبو جعفر، قد أجلستُه مجلسي، وصيّرتُه مكاني..».

وهكذا بدأت الهجرة القسريّة من مدينة حبيب الله صلّى الله عليه وآله، وعبر مراحل طويلة، أوّلها في البيت الحرام.

***

 

* مكّة المكرّمة: عن أُميّة بن عليّ، قال: «كنت مع أبي الحسن الرضا عليه السّلام، بمكّة، في السنة التي حَجّ فيها ثمّ صار إلى خراسان، ومعه ابنه أبو جعفر الجواد عليه السّلام. وأبو الحسن عليه السّلام يودّع البيت.

فلمّا قضى طوافه عَدَل إلى المقام فصلّى عنده، فصار أبو جعفر -وعمره الشريف أربع سنوات- على عُنق مُوفَّق الخادم يطوف به، فلمّا صار إلى الحِجْر جلس فيه فأطال، فقال له موفَّق: قُمْ جُعِلت فداك، فقال أبو جعفر: (ما أُريد أن أبرحَ من مكاني هذا، إلاّ أن يشاء الله). واستبان في وجهه الغمّ.

فأتى موفّقٌ أبا الحسن الرضا عليه السّلام، فقال: جُعلت فداك، قد جلس أبو جعفر في الحِجر وهو يأبى أن يقوم. فقام أبو الحسن فأتى أبا جعفر عليه السّلام، فقال له: (قُمْ يا حبيبي).

فقال: (ما أُريد أن أبرح من مكاني هذا... كيف أقوم وقد ودّعتَ البيتَ وداعاً لا ترجع إليه؟!).

فقال: قم يا حبيبي! فقام معه».

ومن مكّة المكرّمة تبدأ الهجرة من جديد، نحو:

* البصرة: هنالك عدّة منازل ما بين مكّة والبصرة:

- القادسيّة: تبعد عن الكوفة نحو 25 كيلومتر، فيكون الركب الرضويّ قصدها من مكّة عبر طريق البادية. عن أحمد بن محمّد البزنطيّ، قال: «استقبلتُ الرضا عليه السّلام إلى القادسيّة، فسلّمت عليه، فقال لي: إكْتَرِ لي حجرةً لها بابان: باب إلى الخان، وباب إلى خارج؛ فإنّه أستَر عليك..».

- النِّباج: سار الإمام الرضا عليه السّلام، سار من القادسيّة في ما بعُد عن طريق البرّ حتّى وصل «النِّباج»، وهي قرية بالبادية على طريق البصرة.

* الأهواز: وهو بلدٌ معروف بـ«خوزستان»، كان يُسمّى في ذلك العصر بـ«سُوق الأهواز». عن أبي هاشم الجعفريّ، قال: «كنت بالشرقيّ من آبيدج، فلمّا سمعتُ به –أي بالرضا عليه السلام- سرتُ إليه بالأهواز، وانتسبتُ له، وكان أوّلَ لقائي له..».

* قنطرة أربق: وهي قرية في (رامْهُرمُز) من نواحي خوزستان. عن جعفر بن محمّد النوفليّ قائلاً: «أتيتُ الرضا وهو بـ(قنطرة أربُق)، فسلّمت عليه وقلت: جُعلت فداك، إنّ أُناساً يزعمون أنّ أباك حيّ.

فقال: كذبوا لعنهم الله، ولو كان حيّاً ما قُسّم ميراثه...

فقلت له: ما تأمرني؟

قال: عليك بابني محمّدٍ من بعدي، وأمّا أنا.. فإنّي ذاهبٌ في وجه الأرض لا أرجع منه، بُورك قبرٌ بطوس، وقبران ببغداد..».

* مفازة: يذكر بعض الجغرافيّين والمؤرّخين أنّ الإمام الرضا عليه السّلام، اتّجه نحو فارس (شيراز) ثمّ إلى يَزد.. عابراً على تُستَر (شُوشتَر) و(دزفول)؛ فهناك مساجد كثيرة مُسمّاة باسم الإمام الرضا عليه السّلام، يُظنّ أنّها بُنيت على البقاع التي تشرّفت بصلاته عليها، كما أنّ هنالك أماكن معروفة بـ«موضع القدم المبارك للإمام الرضا عليه السّلام» تسمّى بالفارسيّة بـ«قدَمْگاه»، وأراضيَ عديدة ومقاطعات قد ارتبطت أسماؤها باسمه الشريف.

بعدها لا بدّ أن يأخذ الركب الرضويّ الشريف طريق الصحراء، من يزد إلى خراسان. ولعلّ هذه المنطقة الصحراويّة هي التي يُطلَق عليها في الأخبار بـ«المفازة الكبيرة»، والتي يُقال لها اليوم «كَوِير لُوط» أو «كَوِير نَمَك»..

أمّا الرواية المنقولة الثابتة، والمثبِتة أنّ الإمام الرضا عليه السّلام، مرّ على هذه المنطقة.. فهي رواية محمّد بن حفص الذي قال:

«حدّثني مولى العبد الصالح أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام، قال: كنتُ وجماعة مع الرضا عليه السّلام، في مفازة، فأصابنا عطشٌ شديد ودوابَّنا، حتّى خفنا على أنفسنا، فقال لنا الرضا عليه السّلام: (إيتوا موضعاً -وصَفَه لنا- فإنّكم تُصيبون الماء فيه).

فأتينا الموضع فأصَبنا الماء، وسَقينا دوابَّنا حتّى رَوِيت ورَوِينا ومَن معنا من القافلة، ثمّ رَحَلنا، فأمرَنا عليه السّلام بطلب العين، فطلبناها فما أصبنا... ولم نجد للعين أثراً..».

* نيسابور وحديث «سلسلة الذهب»:

خرج الركب الرضويّ من فارس إلى المفازة الكبيرة، مُتّجهاً نحو خراسان.. فدخل نيسابور: وكانت تُعرف بـ(أبْرشهر)، وهي مدينة سهلة، خرّجت من العلماء كثرة، ونشأ بها على مرّ الأيّام من الفقهاء مَن شُهر اسمه.

ولمّا دخلها الإمام عليّ الرضا عليه السّلام، كان لأهل نيسابور لقاءات طيّبة معه، لعلّ أهمّها اللقاء الذي فاض به عليهم بحديث «سِلسلة الذَّهَب».

وفي (تاريخ نيسابور) أنّ الإمام الرضا عليه السلام، دخلها فشقّ سوقها وعليه مظلّة لا يُرى من ورائها، فتعرّض له الحافظان أبو زرعة الرازي، ومحمّد بن أسلم الطوسي، ومعهما من طلبة العلم والحديث ما لا يُحصى، فتضرّعا إليه أن يريهم وجهه ويروي لهم حديثاً عن آبائه، فاستوقف الركبَ وأمَر غلمانه بكفّ المظلّة، وأقرّ عيون تلك الخلائق برؤية طلعته المباركة... والناس بين صارخٍ وباكٍ ومتمرّغٍ في التراب، ومقبّلٍ لحافر بغلته، فصاحت العلماء: معاشرَ الناس أنصِتوا، فأنصَتوا، واستملى منه الحافظان المذكوران.

فقال: (حدّثني أبي موسى الكاظم، عن أبيهِ جعفر الصّادق، عن أبيه محمّد الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن أبيه الحسين، عن أبيه عليّ بن أبي طالب [ عليهم السلام ]، قال: حدّثني حبيبي وقرّةُ عيني رسولُ الله صلّى الله عليه [ وآله ] وسلّم، قال: حدّثني جبريلُ، قال: سمعتُ ربَّ العزّةِ يقول: لا إلهَ إلاّ اللهُ حِصني، فمَن قالها دَخلَ حصني، ومَن دَخلَ حِصني أَمِنَ مِن عذابي).

ثمّ أرخى السّترَ وسار، فعُدّ أهل المحابر والدّوى الذين كانوا يكتبون، فأنافوا على عشرين ألفاً».

وفي (توحيد) الشيخ الصدوق، جاء في تتمّة الخبر، عن إسحاق بن راهويه، قال: «فلمّا مرّتِ الراحلة نادانا: بشروطها، وأنا من شروطها».

أي أنّ من لوازم صِدق التوحيد الإقرار للمعصومين الاثني عشر من أهل البيت عليهم السلام، بأنهم أئمّة من قِبل الله عزّ وجلّ على العباد، مفترضو الطاعة عليهم.

ورُوي أن الإمام الرضا عليه السلام، لمّا دخل نيسابور نزل محلّةً يُقال لها «الفروينيّ»، وكانت هناك عينٌ قد قلّ ماؤها، فأقام عليها مَن أخرج ماءها، واتّخذ من خارج الدرب حوضاً ينزل إليه بالمراقي إلى هذه العين، وهي العين المعروفة بـ«عين كَهْلان»، يقصدها الناس إلى يومنا هذا.

* قرية الحمراء: وهي التي يُقال لها اليوم: «دِهْ سُرْخ». ولمّا قرُب منها، قيل له: «يا ابن رسول الله، قد زالت الشمس، أفلا نصلّي؟

فنزل عليه السّلام فقال: إيتوني بماء. فقيل: ما مَعنا ماء.

فبحث عليه السّلام بيده الأرض، فنبع من الماء ما توضّأ به هو ومَن معه.

قال الشيخ الصدوق: وأثره باقٍ إلى اليوم».

ومن قرية الحمراء إلى رباط سعد... ومنها تمضي القافلة تطوي الطريق حتّى تبلغ :

* سناباذ: لمّا دخل عليه السّلام سناباذ استند إلى الجبل الذي [ صارت ] تُنحت منه القُدور، فقال: «اللّهمّ انفَعْ به، وبارِكْ في ما يُجعَل فيه وفي ما يُنحَت منه».

ثمّ أمر عليه السّلام فنُحت له قدور من الجبل، وقال: «لا يُطبخُ ما آكُله إلّا فيها..».

فاهتدى الناس إليه من ذلك اليوم، فظهرت بركةُ دعائه فيه. ويقع هذا الجبل جنوب مدينة مشهد، ويعرف بـ «كُوهْسَنگى» -أي الجبل الصخريّ- ويُستفاد منه في كثيرٍ من الصناعات اليدوية الصخرية.

* طوس: يذكر بعض المؤرّخين.. أنّ المأمون حينما بلغه وصول الإمام الرضا عليه السّلام، إلى مدينة طوس فرح كثيراً، واطمأنّ إلى أنّ مؤامرته توشك أن تؤتي ثمارها. فأمر القوّاد وأمراء الجيش، والعلماء والفضلاء بالذهاب إلى طوس واستقبال الإمام على مشارف المدينة. فلمّا كان اللقاء، ترجّل الكثير منهم وأدّوا السّلام عليه، ثمّ أخذوا يقبّلون يديه ورِجليه، بعد ذلك خرجوا معه من طوس بكلّ إعزازٍ وإجلال. وما ترك الإمام عليّ الرضا عليه السّلام هذه المدينة حتّى كانت له فيها كرامات ومعاجز مشهودة. وبعد طوس يقف الرحل عند بستان حميد بن قحطبة وداره.

* دار حميد بن قحطبة: ثمّ دخل دار حميد بن قحطبة الطائيّ، ودخل القبّة التي فيها قبر هارون الرشيد، ثمّ خطّ بيده إلى جانب قبر هارون، ثمّ قال: «هذه تُربتي وفيها أُدفَن، وسيجعل اللهُ هذا المكانَ مختلَفَ شيعتي وأهلِ محبّتي. واللهِ ما يزورني منهم زائرٌ، ولا يسلّم علَيّ منهم مسلّم.. إلاّ وجب له غفران الله ورحمته، بشفاعتِنا أهلَ البيت».

ثمّ استقبل القبلة فصلّى ركعات، ودعا بدعوات، فلمّا فرغ سجد سجدة طال مكثه فيها، ثم انصرف.

* سرخس: قال بعض أهل نيسابور: «لمّا قدِم عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام نيسابور أيّام المأمون، قمتُ في حوائجه والتصرّف في أمره ما دام بها، فلمّا خرج إلى مرو شيّعته إلى سرخس، فلمّا خرج من سرخس أردت أن أُشيّعه إلى مَرو، فلمّا سار مرحلةً أخرج رأسه من العماريّة، وقال لي: يا أبا عبدالله، انصرفْ راشداً، فقد قمتَ بالواجب، وليس للتشييع غاية..».

* في مدينة مرو: مرو مركز السلطة العباسية يومذاك، وهناك يكون المأمون بانتظار الإمام الرضا عليه السّلام وقد أحضره بظاهر الإكرام، ولكنّه يجيء به إلى خراسان كالأسير المُحتجَز، لينفّذ ما كان يهدف إليه.

ويُنقل أمران عند ورود الإمام الرؤوف عليّ الرضا عليه السّلام مدينة «مرو »:

الأول: روى المحدّث القمّي لقاءه عليه السّلام برجلٍ كان جمّالاً له عند توجّهه إلى خراسان، فلمّا أراد الرجل الانصراف، قال له: «يا ابن رسول الله، شرّفْني بشيءٍ من خطّك أتبرّك به. وكان الرجل من العامّة، فأعطاه المكتوب، وكان فيه هذه الكلمة له سلام الله عليه: (كُنْ مُحبّاً لآلِ محمّدٍ عليهم السّلام وإنْ كنتَ فاسقاً، ومُحبّاً لِمُحبّيهم وإن كانوا فاسقين)».

الثاني: الاستقبال المفتعَل الذي هيّأه المأمون لقدوم الإمام الرضا سلام الله عليه.. فلمّا وصل عليه السّلام إلى مدينة «مَرو» بالَغَ المأمون في إكرامه، ليُوهِم الناسَ أنّه استدعاه رغبةً في لقائه، وأنّه كان صادقاً مخلصاً في التنازل له عن الخلافة، ثمّ في إسناد ولاية العهد إليه. وقد كان ورود الإمام عليه السّلام إلى مرو سنة مائتين من الهجرة النبويّة المباركة.

اخبار مرتبطة

  تاريخ و بلدان

تاريخ و بلدان

نفحات