الملف

الملف

11/05/2020

لمَن لم يحضر الموسم

 

لمَن لم يحضر الموسم

مراقبات العشر الأوائل من ذي الحجّة

  • الشيخ حسين كَوراني*

﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ..﴾ التوبة:36.

حول هذه الآية الكريمة، قال الشيخ الطوسي عليه الرحمة: «بيَّن الله تعالى أمر هذه الاثني عشر شهراً: ﴿..مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ..﴾؛ وهي ذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، ورجب: ثلاثة سَرْدٌ وواحد فَرْدُ، كما يعتقده العرب. ومعنى (حُرُم) أنّه يَعْظُمُ انتهاك المحارم فيها أكثر ممّا يعظم في غيرها...».

ويلاحظ هنا أنّ السرّ في حرمة الأشهر الحرم تربويّ أولاً، يتفرّع عليه الكفّ عن القتال فيها، وأنّ هذا السّر التربويّ مرتبط جذرياً بتهذيب النفوس، لأنّ الكفّ عن ظلم النفس في هذه الأشهر ربما أدّى إلى ترك الظلم بكلّ أشكاله.

العشر الأوائل

تستحق العشر الأوائل أن يهتم بها من لا يوفَّق للحجّ، كما يهتم بها الحجّاج إجمالاً، وإن كان للتفصيل حديث ذو شجون. غير أنّ الاهتمام بهذه العشر وغيرها من مواسم العبادة فرع الاهتمام بهذا اللون من آداب الإسلام، وهنا بيت القصيد.

وهذه الأيام العشر المعلومات، قد روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، في عظمتها ما يجعل المؤدّي للأعمال التي ورد الحثّ عليها في هذه الأيام شريكاً للحجّاج في حجّهم، كما يأتي بيانه بحول الله تعالى.

 وتجمِع كلمات العلماء على فضيلة خاصة للعشر الأوائل من شهر ذي الحجّة، وقد وردت لها أعمال، وتشترك في عظيم فضلها -بالإضافة إلى أعمالها- التي تدلّ على خصوصية، عدة أسباب وهي كما يلي:

1) أنّها الأيام المعلومات التي وردت في القرآن الكريم بناء لروايات منها ما ذكره الشيخ الطوسي عن الإمام الصادق عليه السلام: «الأيّامُ المعلوماتُ هي العشر الأول من ذي الحجّة».

والمقصود في الرواية ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * ليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ الحج:27-28.

2) أنّها العشر التي ورد الحديث عنها في ميقات النبيّ موسى عليه السلام، في قوله تعالى:

أ- ﴿وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً..﴾ البقرة:51.

ب- ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً..﴾ الأعراف:142.

وقد أورد الشيخ الطوسي عليه الرحمة والرضوان، بعض خصائص العشر الأُوَل من ذي الحجة وما يرتبط بها، فقال:

«وعشر ذي الحجّة يسمّى بالأيام المعلومات. والمعدودات ثلاثة أيام بعدها، وتسمّى أيام الذبح والتشريق، وأيام مِنى، ويوم الثامن يوم التروية، والتاسع يوم عرفة، والعاشر يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر وليلة الحادي عشر... والثاني عشر يوم النفر الأول، والثالث عشر يوم النفر الثاني».

وفي كلام الشيخ الطوسي رحمه الله تعالى، التأكيد على المستحب المضيَّع وهو المبيت في منى ليلة التاسع، كما يأتي في محله إن شاء الله تعالى.

ومن المؤسف جداً أن هذه الأيام الفضيلة «المعلومات» مع لياليها الميقات والمقسم بها، تنقضي بالغفلة عنها التي تكاد تكون مطبقة، فمَن يتوجّه إلى الحج ينشغل -عموماً- بأداء المناسك واللقاءات ولا يكاد يتسنّى له التفاعل مع هذا الموسم الإلهي الخاص بالطريقة المناسبة، ومَن لا يتوجّه إلى الحج يظنّ أنّه ليس معنيّاً بالعبادة في «أيام الحجّ» وهو ما يحرمنا -في الغالب- من خير عميم.

وبالإضافة إلى العشر الأوائل، يحتضن شهر ذي الحجّة مناسبات عبادية شديدة الأهمية، ولو لم يكن إلّا عيد الغدير، الذي هو يوم الفصل في كمال الدين وتمام النعمة باستمرار الإسلام المحمّديّ الأصيل، لكفى به سبباً لتشريف الشهر كلّه.

 

قبول العمل بشرط التولّي

إنْ كفلتَ يتيماً فأنت والرسول في الجنة كهاتين، فما هو مقام كافل الرسول؟!!

من الأولويات في موسم الحج سواء للحاج أو لغيره، التدقيق في مدى اتّباعه لرسول الله صلّى الله عليه وآله، فليس الإسلام ولا الإيمان إلّا حُسن اتّباع مَن أمر الله تعالى باتّباعه. قال تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ الله..﴾ آل عمران:31.

ومن الواضح في سياق هذه الآية المباركة أن نحبّ مَن أحبّ رسول الله ونعادي عدوّه، لأنه لا سوء عاقبة أشد من أن تقود الغفلة قلباً أعمى إلى حبّ أعداء رسول الله، ومعاداة مَن أحبّه، أو أمَر المصطفى بحبّه.

أبو سفيان تجسيد العداء لرسول الله صلّى الله عليه وآله، ومعاوية ويزيد تجسيد العداء لأهل بيت رسول الله الذين أمر الله تعالى ورسوله بحبّهم، وليس عداء معاوية ويزيد وأضرابهما من الأمويين لأهل البيت إلّا حقداً دفيناً على المصطفى الحبيب الرؤوف الرحيم بما آتاه الله تعالى.

وفي المقابل النقيض كان أبو طالب تجسيد الحبّ لرسول الله صلّى الله عليه وآله، وقد لاقى من قريش وأبي سفيانها والأمويين بالخصوص أقسى الأمرَّين، دفاعاً عن رسول الله، ولو لم يكن إلّا حصار الشِّعب لكفى.

وتروي جميع المصادرالمعنية بلا استثناء عظيم بلائه وشديد تفانيه بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله، كما تروي شِعره الجمّ الوافر المتميّز بلغة التوحيد، والاعتقاد الصريح بنبوّة محمّد صلّى الله عليه وآله.

وكان ابنه عليّ بن أبي طالب بشهادة كلّ الخلق من الإنس والملائكة وغيرهم، وكما عبّرت الصدّيقة الكبرى الزهراءعليها صلوات الرحمن: «كلّما فَغرت فاغرة للحرب فاها، قذف [الرسول] أخاه في لَهَواتِها، مكدوداً في ذات الله» والدفاع عن رسول الله صلّى الله عليه وآله؛ يقيه بنفسه من محاولات أبي سفيان والأمويين وسائر القرشيين، حتى كانت سيرته كلّها وقاية لنفس المصطفى بنفسه، وهي نفسه، كما كان الحال ليلة المبيت على فراشه ليلة الهجرة.

والسؤال المركزيّ:

هل ثمّة سوء عاقبة أشدّ قبحاً من أن يجد مدّعٍ للتوحيد واتّباع الرسول، نفسه في حضن أبي سفيان ومعاوية ويزيد أو في مجلسهم أو على أعتابهم، أو محبّاً لهم، أو غير مصحِر بالبراءة منهم، ومجاهر بأعلى الصوت بلعنهم.

وهل ثمّة حسن عاقبة ودليل اتّباع للمصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله، أكثر بهاء، وأمضى حجّة من أن يجد المسلم نفسه مُوادّاً لمن وادّ الله ورسوله، محاداً لمَن حادهّما؟

ومَن لم يحفظ حقّ أبي طالب على كلّ مسلم في التفاني وبذل المهجة ردءاً لرسول الله صلّى الله عليه وآله، فلن يهتدي السبيل إلى الوفاء لابنه عليّ الذي لا يُذكر اسمه إلّا مع أبي طالب.

وللحاجّ بالخصوص أقول:

عرّج على مقابر قريش، وزرِ المولى عبد المطّلب والمولى أبا طالب وسيّدة أمهات المؤمنين خديجة، وافتح في قلبك صفحة نور، عنوانها: حبّ رسول الله صلّى الله عليه وآله، وسطرها الأول: حبّ كافله، ولا تُضحِك الشيطان عليك، يقنعك بأنّك إنْ كفلت يتيماً فأنتَ والرسول في الجنة كهاتين، ولكن كافل الرسول في ذلك الضحضاح المفترى والمزعوم!!!

سلامة العقيدة أولاً، ولا سبيل إليها إلّا بِحُسن اتّباع الرسول.

عندها يبلغ القلب معقد الأمل في أن يتقبّل منه العمل، فيؤدي عمل كلّ يوم من العشر الأوائل، وهو حيث أراد له المصطفى الحبيب أن يكون، في خطّ طاعة الله تعالى والسير في مدارج رضاه عزّ وجلّ.

الحجّ مع الحسين عليه السلام

من المهم للحاج وغيره، الاستفادة القصوى من خصوصية يوم التروية كمحطة استعدادٍ لأعظم أعمال الحجّ، وهو الوقوف بعرفة. ومن الواضح أنّ الثواب العظيم الذي يحظى به هذا الوقت القصير وهو نصف نهار، لا يختص بمَن حضر الموقف في عرفة، بل هو ثواب عظيم جداً لمن زار الإمام الحسين عليه السلام في هذا اليوم، كما هو ثواب نوعي لمَن عرف حرمة هذا الوقت، وتفرّغ فيه لعبادة الله تعالى في أيّ مكان وُجد.

وما يجب أن يعرفه الجميع هو الآتي:

1) أن ليلة عرفة عنوان مستقل، عن يوم عرفة.

2) أن ثواب يوم عرفة أعظم من ثواب ليلته.

3) أنّ العنصر المشترك بين عمل الليلة واليوم هو زيارة الإمام الحسين عليه السلام، في أيّ مكان كان المؤمن، في الحج أو كربلاء، أو غيرهما.

4) ويرتبط بذلك، التنبيه على أنّ الحج الواجب يبقى واجباً ولا تغني عنه زيارة الإمام الحسين عليه السلام، ولا يجوز تركه إطلاقاً، ولو زار كربلاء ما زار، إلّا أنّ هذا في نفس الوقت لا يعني أنّ الحجّ المستحب والتواجد في الموقف في عرفة لمَن أدّى الحج الواجب سابقاً، أفضل من زيارة الإمام الحسين في يوم عرفة، بل إنّ زيارة واحدة لسيّد الشهداء يوم عرفة لا يمكن أن يقاس بها الحج المستحب بالغاً ما بلغ.

والفائدة العملية أن يتنبّه القلب إلى أن هذا العنصر المشترك في عمل ليلة عرفة ويومها، وهو زيارة سيد الشهداء عليه السلام، شديد الأهمية، لأنّه يوصل القلب إلى أعتاب خير خلق الله المصطفى الحبيب صلّى الله عليه وآله.

يضاف إلى ذلك أن يوم التروية هو يوم خروج الإمام الحسين عليه السلام من مكّة، ويوم شهادة القائدين الكبيرين مسلم وهانيء، وهل يجتمع الوفاء لرسول الله صلّى الله عليه وآله والمودة في القربى إلّا بمواكبة القلب الدائمة للخطى المحمّدية في الطريق إلى محرّم وكربلاء.

يوم التروية حسيني، وليلة عرفة ويومها حسينيان، وليس وِرد المؤمن في يوم عرفة إلّا دعاء الحسين، في يوم ملوّن بلون الدم الحسيني. أوَ يعقل مع ذلك كله أن لا يكون القلب حسينياً، ثمّ يدّعي حب رسول الله صلّى الله عليه وآله؟

الحج دورة إبراهيمية مهدوية في السياق الإلهي الذي شاءه تعالى فيضاً محمّدياً.

الحجّ توحّد السعي والطواف، والرمل والهرولة، والعام والخاص، والحلق والرمي والذبح -بكل معانيه- على عتبة التوحيد، وفي محراب عظمة الله العليّ القدير الواحد الأحد الفرد الصمد، تقدست آلاؤه، وجلّ ثناؤه.

والمدخل الحصري لسلامة الحج وكلّ قصد: اتّباع المصطفى الحبيب، والقيام لله، طوافاً حول الكعبة التي جعلها الله تعالى ﴿..مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا..﴾ البقرة:125، ليحرموا مخبِتين، و«قياماً لهم» ليحلّوا قائمين بانتظار القائم عجّل الله تعالى فرجه الشريف.

________________

* مختارات من كتاب (الأيام المعلومات) لسماحته

 

اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  إصدارات

إصدارات

11/05/2020

إصدارات

نفحات