الملف

الملف

11/05/2020

أهل البصائر

 

أهل البصائر

رغم أنّ في النفس شيئاً من أن يصدر هذا الوصف من أعمى البصيرة، الموغِل في العداوة والضّعة، ولكن الله تعالى قد يجري نشر فضيلة وليّه على لسان عدوّه، ثم إنّ ابن الحجّاج، وإن كان قد وشجتْ على الغدر عروقه، إلا أنّه كان حتّى ما قبل شهر من الزمن، من ثوابت مجلس الشهيد هانئ بن عروة، وكان لمثل هذا المصطلح في ذلك المجلس من قوّة الحضور بما يكفي أن يتلقّفه ولو ببّغاء، ثم إنّ هذا التعبير، وتعبير: «فقد اخضرّ الجَناب، وأينعتِ الثّمار، وطمّت الجمام» من وادٍ واحد، فلماذا نثبت ذاك، وننفي هذا؟

والبصيرة هي رؤية العقل والقلب للأمور كما هي، وعلى حقيقتها.

ويقوي صدور هذا التعبير من ابن الحجّاج، أنّ تعبير «البصائر» قد استعمل بنفس معناه في النصوص الجاهلية، وقد عزّز القرآن الكريم هذا المعنى إلى حدّ جعل «أهل البصائر» مصطلحاً قرآنياً بارزاً  كان متداولاً في صدر الإسلام، بل وطيلة القرن الأول الهجريّ قطعاً، وعلى نطاق واسع، وكان يستعمله الصالح والطالح نتيجة الجوّ الثقافيّ العام، وسعة التداول والانتشار.

ومن الواضح أنّ من لوازم البصيرة، الثبات على الموقف مهما كان الثمن، فالبصيرة واليقين متلازمان، وهنا يكمن الربط بين التحذير الكوفيّ من أصحاب سيّد الشهداء باعتبار أنّهم أهل البصائر.

ولا بدّ أن نستوضح أنّ من دلالات هذا المصطلح في الوسط الذي يعيش مفاهيم القرآن الكريم أو تستجيب حركته الثقافيّة التلقائيّة لهُداه، أنّ مصاديقه هم القيمة العليا في المجتمع، والصفوة التي تنحني أمامها كلّ الهامات.

في ضوء ذلك يمكننا أن نقارب أحد أبرز الملامح الحقيقيّة لطبيعة المواجهة في كربلاء، وكيف كان معسكر الإمام تجسيد رسول الله والبررة من أصحابه، وكيف كان معسكر الكفر ركاماً بلا روح، وغثاءً بلا صفوة.

وكما يقود الشيطان خطى الفرد العارف بالحقّ في دروب التمرّد عليه، والطغيان، والتنكّر لمعرفته، عبوديةً للهوى والنزوات، فإنّه يقود خطى الجمع كذلك، مع فارقٍ نوعيٍّ في الشراسة والإسفاف ينشأ من استقواء كلّ فرد بغيره، فعبادة الهوى وعبادة الناس من حندسٍ واحد، لتكون النتيجة أنّ المقابل الطبيعي لأهل البصائر، هم جُند إبليس، الذين يستجيبون «لهتاف الشيطان الغويّ».

 

* من مشاهد الفرز، ليلة العاشر

من أفضل النصوص تصويراً لما جسّده المعسكران، ما أورده الطبري في وقائع الليلة العاشرة، حيث قال:

«قال أبو مخنف: ...فلمّا أمسى حسين وأصحابه، قاموا اللّيل كلّه يصلّون، ويستغفرون، ويدعون، ويتضرّعون... فتمرّ بنا خيلٌ لهم تحرسنا، وإنّ حسيناً ليقرأ: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ..﴾ (آل عمران:178-179)

 فسمعها رجلٌ من تلك الخيل التى كانت تحرسنا، فقال: نحن وربّ الكعبة الطيّبون، ميّزنا منكم.

 قال [الراوي]: فعرفته، فقلت لبرير بن خضير: تدري من هذا؟

 قال: لا. قلت: هذا أبو حرب السبيعي، عبد الله بن شهر.

 وكان مضحاكاً بطّالاً، وكان شريفاً [أي وجيهاً] شجاعاً فاتكاً، وكان (سعيد بن قيس) ربما حبسه في جناية.

 فقال له برير بن خضير: يا فاسق، أنت يجعلك الله في الطيّبين.

 فقال له: من أنت؟ قال: أنا بُرَيْر بن خضير.

 قال: إنا لله، عزَّ عليَّ، هلكتَ والله، هلكت واللهِ يا بُرير.

 قال: يا أبا حرب، هل لك أن تتوب إلى الله من ذنوبك العِظام؟ فوالله إنّا لنحن الطيّبون، ولكنكم لأنتم الخبيثون.

 قال: وأنا على ذلك من الشاهدين.

 قلت [أي الراوي]: ويحك أفلا ينفعك معرفتك؟

 قال: جعلت فداك فمن ينادم يزيد بن عذرة العنزي؟-من عنز بن وائل- ها هو ذا معي.

 قال: قبّح الله رأيك على كلّ حال، أنت سفيه. ثم انصرف عنّا».

 

* أهل البصائر تجلّي الحقيقة

أهل البصائر إذاً، هم السابقون في ميادين اليقين الذي لا يشكّل يقين الموقف وثباته كالراسيات إلّا بعض تجليّاته الظاهرية، وأبعاده الترابية، التي يعجز الطين المسكون بحمأه المسنون عن إدراكه.

أهل البصائر بعدُ تجلّي الحّق الذي يصرّ الباطل وأهله على تنكّبه رغم الإقرار بأنّه الحقّ، تماماً كما رأيت هذا المضحاك البطّال ينحني إجلالاً للشهيد بُرير، مذعناً بأنه ومَن معه الخبيثون، وأنّ بريراً ومن معه الطيبون، ليؤكد بذلك أنّ الهوة بين النظرية والتطبيق، هي بعينها بين برير وسائر أصحاب الحسين عليه السلام، وبين أمثاله وكلّ اليزيديّين.

* خصائص أهل البصائر

ويسجّل الشهيد حبيب بن مظاهر للأجيال، شهادته في أصحاب الحسين عليه السلام، ليضيء على مصدر البصيرة عند أصحاب الحسين عليه السلام أهلِ البصائر، مبيّناً أنه العبادة والتهجّد والذكر الكثير، وقد جاءت شهادته رضوان الله تعالى عليه، حين تحدّث مع «عزرة بن قيس» ومَن معه من طليعة الجيش المهاجم، عشية التاسع من محرم.

قال الطبري:

«فقال له حبيب بن مظاهر: أما واللهِ لبئس القومُ عند الله غداً، قومٌ يقدمون عليه قد قتلوا ذريّة نبيّه عليه السلام، وعترته، وأهل بيته صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وعُبّادَ أهل هذا المِصر، المتهجّدين بالأسحار، والذاكرين الله كثيراً.

 فقال له عزرة بن قيس: إنك لتزكّي نفسكَ ما استطعت.

 فقال له زهير [بن القين وكان حاضراً]: يا عزرة، إنّ الله قد زكّاها، وهداها، فاتّقِ الله يا عزرة، فإنّي لك من الناصحين. أُنشِدكَ الله، يا عزرة، أن تكون ممّن يُعين الضُّلّال على قتل النفوس الزكية».

ويمكن التعامل مع نصّ الشهيد حبيب باعتباره مؤيّداً بامتياز لصدق وصف «أهل البصائر» على الأبدال الكربلائيّين، أصحاب الحسين عليه السلام.

قال الكشّي: «وكان حبيب من السبعين الرجال الذين نصروا الحسين عليه السلام، ولقوا جبال الحديد، واستقبلوا الرماح بصدورهم... والسيوف بوجوههم، وهم يعرَض عليهم الأمان والأموال فيأبون، ويقولون: (لا عذرَ لنا عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إنْ قُتل الحسين ومنّا عينٌ تَطرف) حتى قُتِلوا حوله».

 

اخبار مرتبطة

  أيها العزيز

أيها العزيز

نفحات