العتبة الحسينيّة في كربلاء

العتبة الحسينيّة في كربلاء

25/11/2011

عَلَماً لا يُدرسُ أثرُه، ولا يُعفى رَسمُه

العتبة الحسينيّة في كربلاء
عَلَماً لا يُدرسُ أثرُه، ولا يُعفى رَسمُه


ـــــ تحقيق: أحمد الحسيني ـــــ


* في رسالةٍ إلى الأجيال، وعلى أبواب رحلة السّبي إلى الكوفة، قالت السيدة زينب عليها السلام -روايةً عن رسول الله صلّى اله عليه وآله- لإمام زمانها الإمام السجاد عليه السلام،: «لقد أخذ اللهُ ميثاقَ أناسٍ مِن هذه الأمّة ".." أنَّهم يَجمعون هذه الأعضاء المُتفرّقة فيُوارونها، ".." ويَنصبون لهذا الطَّفّ عَلَماً لقبر أبيك سيِّد الشهداء لا يدرَس أَثَرُه ولا يُعفى رَسْمُه على كُرورِ اللّيالي والأيّام ".."».
* «كربلاء موضعٌ معروف، بها قبر الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما السلام. رُوي أنَّه عليه السلام اشترى النَّواحي التي فيها قبره من أهل نينوى والغاضريّة بستِّين ألف درهم، وتصدَّق بها عليهم، وشَرَط عليهم أن يرشدوا إلى قبره ويضيفوا مَن زاره ثلاثاً». (الطريحي، مجمع البحرَين)
* يتناول هذا التّحقيق، المراحل التّاريخيّة لعمارة مرقد سيّد الشُّهداء الإمام الحسين عليه السلام، لا سيّما من القرن الهجري الأوّل حتّى القرن الرَّابع، ويُستهلُّ بوقفة مُختصرة عند الوَصْف الحالي للمشهد الشَّريف.


تتكوَّن العمارة الحاليّة للعتبة الحسينيّة المقدّسة مِن صحنٍ واسع تَصِل مساحته إلى حوالي 15000 م2، يُطلق عليه أيضاً إسم الجامع، لاجتماع النّاس فيه لأداء الصَّلوات. وله عشرة أبواب: (1) باب القبلة: وهو مِن أقدم الأبواب، ويُعدُّ المدخل الرَّئيسي إلى الرَّوضة الحسينيَّة، وعُرِف بهذا الإسم لوقوعه إلى جهة القبلة. (2) باب الرَّجاء. (3) باب قاضي الحاجات: عُرِف بهذا الإسم نسبة إلى الإمام المهدي عجّل الله فرَجَه. (4) باب الشُّهداء: يتَّجه الزَّائر منه إلى مشهد العبّاس عليه السلام. (5) باب الكرامة. (6) باب السلام. (7) باب السِّدرة. (8) باب السُّلطانية. (9) باب الرَّأس الشريف. (10) باب الزَّينبيّة: سُمّي بهذا الإسم تيمُّناً بمقام تلّ الزَّينبيّة المقابل له.

وتتوسّط هذا الصَّحن الرَّوضة المقدَّسة بمساحة 3850 م2، وفي وسطها الضَّريح -السُّداسي الأضلاع- المقدّس لِسيّد الشُّهداء وابنَيْه عليّ الأكبر والطّفل الرّضيع عليهم السلام، وتُحيط به أروقة بمساحة 600 م2، ويتصدّره الإيوان الذَّهبي.
أمّا الشُّهداء، فقد دُفنوا في موضعٍ واحد على مقربةٍ من الضَّريح الحسيني إلى جهة الشَّرق، باستثناء الصَّحابي الجليل الشَّهيد حبيب بن مظاهر المدفون في الرّواق المعروف باسمه، وضريحه إلى يسار الدَّاخل إلى الرّوضة مِن الباب القِبلي.
ومِن الأرْوِقة المعروفة، رواق السيّد إبراهيم المُجاب، الآتي ذِكره، ورواق الفقهاء، ورواق الملوك؛ كلٌّ منها نسبةً إلى المدفونين فيها.
وفي داخل الرَّوضة، موضعٌ يُعرف باسم «المذبح»، وهو المكان الذي ذُبِح فيه سيّد الشُّهداء صلوات الله عليه، ويتألَّف من غرفة خاصَّة لها باب فضّي، وأرضيَّتها مِن المَرْمَر النَّاصع، وفيها سرداب يعلوه باب فضّي أيضاً، ويُطلّ من هذه الغرفة شبَّاك على الصَّحن من الخارج.
وتَعلو المشهدَ الحسيني الشَّريف قبَّةٌ شاهقة بارتفاع 37 متراً من الأرض، وتحفّ بها مئذنتان.


تاريخ المرقد الحسينيّ

القرن الهجري الأوّل: أوَّل مَن أقام رسماً لقبر الإمام أبي عبدالله الحسين هو ابنُه الإمام السَّجّاد عليهما السلام، شاركه في ذلك «بنو أسد» الذين كانوا يَقطنون في «الغاضريّة»، وذلك يوم الثّالث عشر من شهر محرَّم الحرام سنة 61 هجريّة، أي بعد ثلاثة أيّام من واقعة كربلاء.
ويُستفادُ من القرائن أنّ القبر الشَّريف كان في بداية الأمر مرتفعاً وبارزاً قليلاً عن الأرض، كما أنَّ بني أسد حدَّدوا له -في فترة لاحقة- مسجداً وبَنوا عليه سقيفة، ووَضَعوا عليه الرُّسوم التي لا تَبلى (صخور، أو جذوع نخل).

وفي المصادر التَّاريخيّة حديث عن مسجد بُنيَ على القبر الشَّريف ما بين عامَي 61 و63 هجريّة، ويقول الرَّحالة الهندي محمّد هارون إنَّ القبر الشَّريف كان مُحاطاً بصندوق من الخشب عام 64 هجريّة.
وفي ربيع الأوّل من سنة 65 هجريّة، طاف التَّوّابون حول هذا الصّندوق قبل توجُّههم إلى «عين وردة»، فازدَحموا أربعة آلاف رجلٍ حول القبر، «أكثر من ازدحام الحُجّاج على الحجر الأسود عند لَثْمه».
وفي سنة 66 هجريّة، عندما استَوْلى المختار بن أبي عبيدة الثَّقفي على الكوفة، عمَّر على المرقد المقدّس قبّةً من الجصّ والآجر، وقد تولَّى ذلك محمّد بن إبراهيم بن مالك الأشتر، واتَّخذ قرية من حوله، وكان للمرقد بابان: شرقي: يُفضي إلى المشرعة حيث موضع استشهاد ودَفْن أبي الفضل العبّاس عليه السلام، وجنوبي: وهو المدخل الرئيس حتى يومنا هذا. وقِيل بابان: شرقيّ وغربيّ.

القرن الثّاني: يُرجّح الباحثون أنّ القبّة التي شُيّدت في عهد المختار الثَّقفي ظلّت قائمة إلى حين زيارة الإمام الصّادق لقبر جدِّه الإمام الحسين عليهما السلام حوالي عام 132 للهجرة.
هذا  وروى صفوان الجمّال عن الإمام الصّادق عليه السلام: «إذا أردتَ قبر الحسين عليه السلام في كربلاء، فَقِفْ خارج القبَّة وارْمِ بطَرْفك نحو القبر، ثمّ ادخُل الرَّوضة وقُم بحذائها مِن حيث يَلي الرَّأس، ثمَّ اخرُج مِن الباب الذي عند رجلَيْ عليّ بن الحسين عليه السلام، ثمَّ توجَّه إلى الشُّهداء، ثمَّ امشِ حتّى تأتي مشهد أبي الفضل العبّاس، فقف على باب السَّقيفة وسلِّم».
وفي حديث آخر لصفوان عنه عليه السلام: «فإذا أتيتَ باب الحائر فقِف وقُل ".." ثمَّ تأتي باب القبّة وقِفْ من حيث يلي الرَّأس... ».   (أنظر أيضاً: المجلسي، بحار الأنوار: 98 ، ص 171، 177 – 178، 198، 259)
ويَظهر من هذه الرَّوايات أنَّه كان للمرقد المطهَّر في عصر الإمام الصّادق عليه السلام قبّة وسقيفة وباب، أو أكثر. ويَظهر أيضاً مِن قوله عليه السلام: «فإذا أتيت باب الحائر...» أنَّه كان للرَّوضة الحسينيَّة سُور وله أبواب أيضاً، حيث عَبَّر الصّادق عليه السلام عن المساحة المحيطة بالرَّوضة بالحائر، والتي نُعبِّر عنها اليوم بالصَّحن.
وِمن الجدير ذكره أنّ هذا الحائر لم يَرِد ذكره في عهد الإمام الباقر عليه السلام المُستشهَد سنة 114 هجريّة، بل وَرَد ذكره لِأوّل مرّة مع الإمام الصادق عليه السلام في تسعة عشر موقعاً؛ ممّا يدلّ على أنَّ هذا السُّور قد شُيِّد في أواخر الرُّبع الأوّل أو أوائل الرُّبع الثّاني من القرن الثّاني.
يقول إبن إدريس الحلّي في (السَّرائر): «والمُراد بالحائر ما دار سُور المشهد والمسجد عليه».
وقد استَظهَر بعض المعاصرين من روايتَين عن الإمام الصّادق عليه السلام (أنظر: الشيخ الطوسي، مصباح المتهجّد، 731 – 732) أنّ مساحة الحائر الشَّريف 25 في 25 ذراعاً.

وتؤكِّد المصادر أنَّه كانت هناك شجرة سِدْرة أيّامَ الحكم الأموي يُستظَلّ بِفَيْئها، ويُستَدلّ بها على قبر الإمام الحسين عليه السلام، ولذلك سُمّي الباب الواقع في الشَّمال الغربي من الصَّحن -فيما بعد- بباب السِّدْرة.
وقد قطعت هذه السِّدرة في زمن المتوكل على الأرجح، وقيل في زمن هارون المسمَّى بـ «الرّشيد»، وقد استفاض في المصادر ما رواه الشيخ الطوسي في (أماليه): «.. عن يحيى بن المغيرة الرازي قال: كنت عند جرير بن عبد الحميد إذ جاءه رجل من أهل العراق فسأله جرير خبر الناس، قال: تركتُ الرّشيد وقد خرب قبر الحسين، وأمر أن تُقطع السِّدرة التي فيه فقُطعت قال: فرفع جرير يديه وقال: الله أكبر! جاءنا فيه حديث عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال لعن الله قاطع السِّدرة ثلاثاً، فلم نقف على معناه حتى الآن».


وقد كان الهدف من قطع السِّدرة بالإضافة إلى تغيير معالم الأرض أن يخفي هارون موضع قبر الحسين عليه السلام. وفي كربلاء الآن شارع «السِّدرة».
امتدَّ عمر هذا البناء المؤلَّف من السُّور المحيط بالرَّوضة المُقبّبة طوال العهد الأموي، ولم يَجرؤ الأمويُّون على أن يَتَعرّضوا له بِسوء، مع أنَّهم وضعوا المسالح (نقاط مراقبة وتفتيش) لمنع زيارة قبره عليه السلام. ومع ضعف الدَّولة الأمويَّة في أواخر عهدها، كُسِر حاجز الخوف فتَدفَّقت الأفواج إلى زيارة المرقد الشريف.

 وبعد سنة 132 هجريّة، وبالتَّحديد في عهد مؤسِّس الدّولة العبّاسيّة «أبو العبّاس السفّاح»، فُسِح المجال لزيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام، وابتدأ عمران القبر من جديد، ويُحتمَل أنّ السقيفة التي على قبور الشُّهداء بُنِيَت في هذا العام.

لكنَّ المنصور العبّاسي (حكم: 136 – 158 هجريّة) صبّ جام غضبه على العلويِّين وآثارهم، وتَطاول على القبر المُطهَّر، فهدم السَّقيفة عام 146 هجريّة، ليُعاد تشييدها بُعيد موته سنة 158 هجريّة.

وفي عام 187 هجريّة، بَعَثَ هارون العبّاسي إلى خَدَمَة المرقد المطهَّر وكاد يبطش بهم، ولمَّا كانت سنة 193 هجريّة، ضيّق الخناق على زائري القبر وقَطع شجرة السِّدرة التي كانت عنده، وكَرَبَ موضع القبر-كما تقدّم- وهَدَم الأبنية التي كانت تُحيط بتلك الأضرحة المقدَّسة وزرعها، وذلك عَبْرَ والِيه على الكوفة موسى بن عيسى بن موسى.

هذا وقد شهدت الرَّوضة المقدَّسة عمليَّتَي إعمار أُخرَيَين بين عامَي 193 و198 إبّان الحرب بين الأمين والمأمون، الذي اقتضت سياسته مراعاة شعور المُوالين لأهل البيت عليهم السلام، فبُنيَت عليها قبَّة شامخة واستأنف النّاس الإستيطان وبناء البيوت على مقربةٍ منها.


القرن الثالث: الشَّائع على ألسنة الباحثين والمؤرِّخين أنّ كربلاء كانت في القرن الثّالث مملوءة بالأكواخ وبيوت الشَّعر التي كان يُشيّدها المسلمون الذين يَفِدون إلى قبر الحسين عليه السلام، إلى جانب بيوت المجاورين له.
ويبدو أنّ مرقد الإمام الحسين عليه السلام لم يتعرَّض في عهد المعتصم والواثق العباسيَّين إلى الهدم والتَّخريب، كما لم يَتعرَّض الموالون لأهل البيت عليهم السلام للإضطهاد، كلّ ذلك بسبب اضطراب الوضع السِّياسي، وانشغال العباسيّين بخلافاتهم الدّاخليّة.
ولمّا كانت سنة 232 هجريّة، تولّى الحكم المتوكِّل العبّاسي، وكان شديد البغض لعليّ بن أبي طالب عليه السلام؛ وفي بعض المصادر أن قطع السّدرة كان في زمنه.
وقد بالغ لعنه الله بالتضييق على زوار سيد الشهداء عليه السلام، وعَمَد إلى هدم القبر الشريف أربع مرّات.

*المرّة الأولى:
عام 232 هجريّة حيث أنفذ عمرَ بن فرج لهدم ما عُمِّر زمن المأمون العباسي وأمر بتخريب قبر الحسين عليه السلام وحرْثه، لكنّ المؤمنين عمدوا إلى تعمير المرقد الشَّريف رغم الإضطهاد والتَّنكيل.

*المرّة الثّانية: سنة 236 هجريّة، حيث هدم الضَّريح المطهَّر وملحقاته وزرعَه بعد تسوية أرضه، وهدَم ما حوله من المنازل والدُّور، ثمَّ نادى بالنَّاس: مَن وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المُطْبِق (سجن تحت الأرض)، وأوعز مهمّةَ الهدم لرجل يهودّي اسمه إبراهيم الدِّيزج.

*
المرّة الثّالثة: سنة 237 هجريّة، حين بَلَغ المتوكِّلَ أنّ أهل السَّواد (العراق) يجتمعون بأرض نينوى لزيارة قبر الحسين عليه السلام، فيَصير إلى قبره منهم خَلْق كثير، فأَنفذ جماعة مِن قادته لِهَدم  قبر الحسين عليه السلام ومنْع الناس من زيارته، ففعلوا ما أُمروا به. قال الشيخ الطّوسي في (الأمالي): «فثار أهل السواد ".." وقالوا: لو قُتلنا عن آخرنا لما أمسك مَن بقِي منّا عن زيارته، ورأوا من الدلائل ما حملَهم على ما صنعوا..».

وفي سنة 240 هجريّة توجّه محمّد بن الحسين الأشناني (مِن كبار علماء الكوفة وكان المتوكِّل قد حبسه مدَّة) إلى زيارة قبر الحسين عليه السلام سرّاً، وجعل يَتَحرّى مكانه حتّى عَثَر عليه؛ وذلك لكثرة ما كان قد مُخِر وحُرِث حوله، فنَصب حول القبر علاماتٍ شاخصة في عدّة مواضع.
وتدلُّ أعمالُ الهدم المتكرّرة وما يَتْبَعها من تعميرٍ سريعٍ للقبر، على مدى القوَّة في عقيدة الرَّأي العام المسلم الذي كان يَأبى يومذاك إلَّا أن يُخلِّد الحسينَ الشَّهيد عليه السلام، ويعمِّر ضريحَه ويقدّس تربته.

*
المرّة الرّابعة: سنة 247 هجريّة، فقد بلغ المتوكِّلَ مرّة أخرى مسيرُ النّاس مِن أهل السَّواد والكوفة إلى كربلاء لزيارة قبر الحسين عليه السلام وأنّه قد كثُر جمعهم لذلك، وصار لهم سوق كبير، ما يَدلّ على نشاط الحركة العمرانيّة والتَّوطُّن في كربلاء، فأَنفذ قائداً في جمعٍ كثيرٍ مِن الجُنْد، وأمر منادياً يُنادي ببراءة الذِّمّة ممَّن زار قبره، وحَرَث أرضه، وعمل على تتبُّع آل أبي طالب والشِّيعة، فقَتَل منهم جمعاً كثيراً.
وانتشر ظُلم المتوكِّل وذاع خبر هدمه قبرَ سِبْط الرَّسول صلّى الله عليه وآله بين النّاس، فتألَّم المسلمون لذلك وكَتَب أهل بغداد شتمه على الحيطان، وهَجاه الشُّعراء ومنهم دعبل الخزاعي، وابن الرُّومي وغيرهما.
إضافة إلى ذلك، فقد وَضَع المتوكِّل يده على أوقاف الحائر وصادر أموال خزينة الحسين عليه السلام، ووَزَّعها على جنوده، وبقي الأمر على حاله حتّى هلك عام 247 هجريّة قتلاً على فراشه. 


ولمّا استقرّ الحُكم للمنتصِر -إبن المتوكِّل الذي أعان الأتراك على قتل أبيه- توجه «الأشناني» إلى كربلاء ومعه جماعة مِن الطَّالبيّين والشِّيعة، فأعادوا للقبر الشَّريف معالمه القديمة، ونُصِب عليه علم طويل لِيَهتدي النَّاس إليه، فانتَعَشت المنطقة المحيطة به وكثُر المقيمون فيها، وفي مقدّمهم السيّد إبراهيم بن محمّد العابد بن الإمام الكاظم عليه السلام الملقّب بالمُجاب؛ سمُي بذلك لأنَّه قال عند وصوله إلى الرَّوضة: السَّلام عليك يا جدَّاه، فَسَمِع الجواب من داخل القبر الشَّريف.

وفي سنة 273 هجريّة تهدّمت بناية الأشناني، ومات جمع كثير من الزَّائرين لازدحام الرَّوضة بالزُّوَّار؛ لأنّه صادف سقوطه في يوم عرفة أو عيد الأضحى. وقيل: إنَّ الموفَّق العبّاسي حفيد المتوكّل كان وراء ذلك.
حينها قام محمَّد بن زيد الحسني بزيارة الحائر، فأمر بتشييد قبّة شامخة، وبناء إيوانين وسورٍ للحائر، ومنازل للزّائرين والمجاورين، فتمّ البناء كاملاً بحلول سنة 280 هجريّة.

القرن الرّابع: يطول الحديث عن الوقائع المُرتبِطة بالعتبة الحسينيّة المقدّسة في القرن الهجري الرّابع، ذلك أنَّ البويهيّين (حُكم: 322 – 447 هجريّة) لم يدّخروا جهداً في إحياء الشَّعائر الحسينيّة وعمارة المرقد الشَّريف، وما زالت آثارهم العمرانيّة في كربلاء وغيرها من المُدُن المقدّسة في العراق وإيران ماثلة حتّى اليوم.
إلّا أنّ أبرز حدَثَين سُجِّلا خلال هذا القرن كانا في العامين 352 و369 للهجرة.
في عام 352 هجريّة، عمد معزّ الدَّولة البويهي إلى إقامة العزاء على الإمام الحسين عليه السلام في بغداد وذلك في يوم عاشوراء، ولعلّ ذلك كان أوّل مجلس تُقيمه سلطة زمنيّة حتّى تاريخه، غير أنّ مجالس العزاء الحسينيّة كانت معروفة وعامِرة ومُتَوارثة في الأوساط الشعبيّة منذ شهادة الإمام الحسين سنة 61 للهجرة، وفي جميع الأمصار الإسلاميّة، وإنْ بدرجات متفاوتة من حيث الضَّخامة والجَهْر، وفق ما كانت تقتضيه الظُّروف السِّياسيّة والأمنيّة التي خضع لها المسلمون والموالون لأهل البيت على وجه التّحديد.
* وفي سنة 367 هجريّة جعل عضد الدَّولة البويهي زيارته للمرقد الشَّريف عادة سنويّة، ثمّ أَمَر سنة 369 بتجديد بناء القبّة والرّوضة، وبنى الأروقة حول المرقد، وأوقف الأراضي لاستثمارها لصالح إنارة الحرمَين الشَّريفَين، واهتمَّ بإيصال الماء إلى سكّان المدينة، وعَصَمها بالأسوار العالية، وبالغ في تشييد الأبنية والأسواق فيها، كما بنى المدرسة العضديَّة الأولى، وإلى جنبها مسجد رأس الحسين عليه السلام. وعلى أَثَر ذلك تضاعف عدد المُجاورين لِلمَرقد المقدَّس.

في العصور اللَّاحقة:
نقف هنا عند إطلالة عامّة على أهمّ محطات إعمار المرقد الشريف أو تعرّضه للتخريب والهدم:
* عام 412 هجريّة تولَّى الحسن بن المفضل بن سهلان (من وزراء البويهيّين) تجديد بناء الحائر الحسيني. وقد تحدَّث الرَّحالة إبن بطوطة عن هذه العمارة في رحلته إلى كربلاء سنة 727 هجريّة، مشيراً إلى أنَّها بقيت حتّى خلافة المُسترشد بالله العبّاسي سنة 526 هجريّة، حيث عاد الإرهاب من جديد ليُصيب الشِّيعة، واستولى المُسترشد على نفائس وأموال الحائر المقدَّس، فأنفَقَها على جيوشه.

* وفي سنة 767 هجريّة، اهتمّ السُّلطان أويس بن الحسن الأليخاني الجلائري (مِن سُلالة المغول الذين اعتَنَقوا الإسلام) بعمارة المشهد الحسيني، وهي العمارة الموجودة حاليّاً، ما خلا الإضافات والتَّحسينات التي لحقتها في العصور التَّالية.
وكان سبقه -سنة 703 هجريّة- إلى العناية بالمشهد الحسيني وغيره من المشاهد الشَّريفة أولغايتو محمّد خدا بنده، الذي زار النَّجف الأشرف واعتنق الإسلام على يد العلّامة الحلّي، الحسن بن يوسف بن المطهّر.
 


* وقد عَمد جميع الأمراء والملوك من السًّلالات الحاكمة في إيران والعراق طوال العصور اللَّاحقة إلى العناية بعمارة المشهد الشَّريف، وتنافسوا في صيانته وتطويره بما يَتناسب مع الإزدياد المطّرد في أعداد الزُّوّار الوافدين إلى كربلاء المقدَّسة، وبقي الأمر -إجمالاً- على هذا النَّحو حتى أواخر ستِّينيّات القرن المنصرم، مع وصول حزب البعث إلى السلطة في العراق، حيث بدأ عهدٌ أسود من التَّضييق على المؤمنين وعلى إحياء الشَّعائر الحسينيّة، رافق ذلك تراجعٌ وضمور نسبيّ (قياساً إلى الفترة الممتدة من العام 1967 حتّى العام 2003 م) في عمارة العتبة الحسينيّة.
* في الأوّل من شهر أيّار لسنة 1801م (18 ذي الحجّة 1216 هجريّة) تعرّضت مدينة كربلاء والحرم الحسيني المقدّس لهجوم عسكريّ بقيادة سعود بن عبد العزيز -مؤسّس الدّولة السعوديّة- الذي استغلَّ ذهاب معظم أهالي كربلاء إلى النّجف الأشرف لزيارة ضريح أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام في يوم الغدير.
* في العام 1991 وعقب «الإنتفاضة الشعبانيّة» ضدّ الطاغية صدّام، عَمد صهره المدعو حسين كامل إلى قصف المرقد الشَّريف بقذائف الدَّبابات، ما أدَّى إلى تَضرُّر القبَّة وأجزاء واسعة من الحَرَم المقدَّس.
ومع سقوط النِّظام الصدَّامي البائد، سارَعَت المرجعيَّتان الدِّينيّتان في إيران والعراق إلى العناية بعمارة العتبة الحسينيّة، وتعاهدها بالرِّعاية والإهتمام من خلال المشاريع العمرانيّة كتَوسعة الحرم الشَّريف الذي بات يستقبل خمسة أضعاف العدد السَّابق، وإنشاء مدرسة الإمام الحسين عليه السلام الدِّينيّة، وتوسعة التلّ الزَّينبي، وإعادة احياء المكتبة ودار المخطوطات. بالإضافة إلى عشرات المشاريع الفنيّة كإنشاء مُسقّفات ما بين الحرمَين،  والأسيجة الأمنيّة، والمظلّات الواقية، والنّوافير المائيّة وغير ذلك من المشاريع التي تُسهم في إحياء الشّعائر الحسينيّة المعظّمة.





 

اخبار مرتبطة

  أنا قتيلُ هذا الغربِ المُتوحِّش

أنا قتيلُ هذا الغربِ المُتوحِّش

  القلب والحظوظ الدنيويّة

القلب والحظوظ الدنيويّة

  دورياات

دورياات

26/11/2011

دورياات

نفحات