العنفُ المسلّح، وكمُّ الأفواه

العنفُ المسلّح، وكمُّ الأفواه

25/12/2011

العنفُ المسلّح، وكمُّ الأفواه

العنفُ المسلّح، وكمُّ الأفواه

الشيخ حسين كوراني

* أكره أن أبدأهم بقتال. الإمام الحسين عليه السلام


يجب تظهيرُ الفرق الكبير جدّاً بين روح الثورة والشهادة، وبين اعتماد العنف المسلّح أو العنف غير المسلّح المتمثّل بالقمع ومصادرة الرأي وكمِّ الأفواه.
من أبرز نتائج هذا التظهير اكتشاف «نظام الحكم والإدارة في الإسلام» بما يشمل السّعي إلى الحكم على اختلاف مراحل هذا السّعي من تشكُّل وبناء الجماعة، وبما يشمل أيضاً تطوير الإدارة، وتثبيتها، سواءً أكانت إدارة جمعية أم تنظيمٍ أم دولة.
من الإمعان في التسطيح الخَلط بين وجوب العمل لإقامة العدل، وبين مشروعيّة أساليب العنف. يزداد الأمر غرابةً عندما يكون مَن يعتقد ذلك لا يؤمن بأنّ «الغاية تبرّر الواسطة».
كان «شمر بن ذي الجوشن» في كربلاء عيناً على الأرعن الكافر «عمر بن سعد»، وقد أمر ابنُ زياد «الشِّمر» أن يرغمَ «ابن سعد» على قتل الحسين، فإنْ تلكّأ، فَلْيَقتله، ثمّ يقتل الحسين.
وصل «الشّمر» إلى كربلاء في اليوم التاسع من محرّم، وأدرك «ابنُ سعد» أنّ مُلك «الرّيّ» قد يفلت من يده، فقد قال «ابن زيادٍ» للشِّمر: «أُخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد، فَلْيَعرض على الحسين وأصحابه النُّزولَ على حُكمي، فإنْ فعلوا فَلْيَبعث بهم إليَّ سِلْماً، وإن هم أبَوْا فَلْيقاتلْهم، فإنْ فعلَ فاسمعْ له وأَطِع، وإنْ هو أبى فقاتِلهم فأنت أميرُ الناس، وثِبْ عليه فاضرِب عُنقَه، وابعث إليَّ برأسه».
وفي اليوم العاشر كانت المعركة بعد أن كادت تنشب عصر اليوم التاسع.
كان «الشِّمر» -إذاً-  القائدَ الفعليّ للحرب في كربلاء، وبوصوله بدأت ساعةُ الصِّفر، ومع ذلك لم يسمح الإمام الحسين باغتياله صبيحةَ عاشوراء، عندما أُتيحت فرصةُ الخلاصِ منه.
نادى الشِّمرُ بأعلى صوته: يا حسين، استعجلتَ النَّار في الدُّنيا قبل يوم القيامة؟!
فقال الحسين: من هذا؟ كأنّه شمرُ بن ذي الجوشن! فقالوا: نعم أصلحكَ الله، هوَ هو، فقال: يا ابنَ راعيةِ المعزى! أنت أولى بها صِلِيّاً. فقال له مسلمُ بن عوسجة: يا ابنَ رسول الله! جُعِلتُ فداك. ألا أرميه بسهم، فإنّه قد أَمْكَنَني، وليس يسقط (لي) سهم، فالفاسقُ من أعظم الجبّارين. فقال له الحسين: «لا تَرْمِه، فإنّي أكره أن أبدأَهم بقِتال».
وقبل ذلك، عندما التقى الحرّ في ألف فارس، الحسين عليه السلام، لِيَمنعوه من دخول «الكوفة»، أقبل على الحسين بن عليّ رجلٌ من أصحابه يُقال له «زُهَيْر بنُ القَيْن البَجَلي»، فقال له: يا ابنَ بنت رسول الله، ذَرْنا حتى نقاتل هؤلاء القوم، فإنّ قتالَنا الساعة نحن وإيّاهم أيسرُ علينا وأهون من قتال مَن يأتينا مِن بعدهم، فقال الحسين: «صدقتَ يا زهير، ولكن ما كنتُ بالّذي أنذرهم بقتال حتّى يبتدروني».

***

لو كان العنف المسلّح والقتل والقتال عند الحسين لتسجيل نصرٍ ظاهريّ، أو للوصول إلى السلطة لكان اغتيالُ «الشِّمر» أو قتال ألفٍ كانوا مع «الحُرّ» من نوادر الفرص التي تُغتَنم.
أمّا إذا كان النصرُ المُبتغى هو النَّصر في ساحةِ القِيم الفاضلة وإقامة الحقّ والعدل، فإنّ ساحته هي النَّفس البشريّة، وسلاحه الدليل والبرهان والكلمة. لا يصل الأمر في مدرسة الحسين المحمّديّة إلى السلاح إلّا لمواجهة مَن بدأ الحرب للدفاع عن الحقّ وأهله، ومن الدفاع إزالةُ العقبات التي تُموّه الحقّ وتُلبِسُه لبوسَ الباطل، فتَحجبه عن «المستضعفين».
وفي صبيحة العاشر خطبَ الإمامُ الحسين في  ذلك الجيش مرّتين -وقدّم بعضَ أصحابه ليُكلِّموا القوم- ولقد بذل عليه السلام غايةَ الجهد وبمُنتهى الحنان النبويّ لإنقاذ مَن يُمكن إنقاذه -وكانوا قلّةً ربّما بلغت مع الحُرِّ الرِّياحي الثلاثين- على قاعدة أنّ الإستصلاح هو الهدف، وليس القتل.

«قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: بعثَني رسولُ الله صلّى الله عليه وآله إلى اليمن وقال لي: يا عليّ، لا تُقاتِلنَّ أحداً حتّى تدعوه، وَأَيْمُ اللهِ لَأن يهدي اللهُ على يديك رجلاً خيرٌ لك ممّا طلعت عليه الشّمسُ وغربت..».

وقال الإمام الصادق عليه السلام: «كان أمير المؤمنين صلوات الله عليه لا يُقاتل حتّى تزول الشّمسُ ويقول: تُفتَح أبوابُ السماء وتُقبِل الرَّحمة وينزل النّصر، ويقول: هو أقربُ إلى اللّيل، وأجْدَرُ أن يَقِلَّ القتل، ويرجع الطالب ويفلت المُنهزم».

 لم يأذن الإمام الحسين عليه السلام بالحرب  في اليوم العاشر إلّا بعدَ أن رمى المخذولُ «ابن سعد» بسهمٍ قائلاً: «إشهدوا لي عند الأمير، أنّي أوّلُ مَن رمى بسهم»، وتتالت النّبال إلى مُعسكر الحسين، فقال عليه السلام: «هذه السِّهام رُسُلُ القوم إليكم».


***


الدروس التي يجب استخلاصها -مما تقدّم- كما يلي:

الأوّل: أنّ مضاء عزيمة المجاهد رهنُ وضوح البصيرة في مَن يحاربُه، ولا يتحقّق ذلك -والمراد هنا داخل الدائرة الإسلاميّة بعمومها- إلّا بإقامة الحجّة والإعذار إلى الله تعالى في أنّه لم يبقَ سبيلٌ إلّا الحرب، عندها يُسَطِّر المجاهدون الملاحمَ التي تبقى نبراساً يُلهم الأجيال، رباطة الجأش وثبات العزم، ومقارعة جبالِ الحديد.

الثاني: أنَ رسالة المجاهد ثقافيّة فكريّة عقائديّة يَحميها بالسّلاح والعمل العسكري، ولا يجوز أن تُضعِفَ حركةُ العمل العسكري تبليغَ الرسالة ومخاطبةَ العقول والقلوب.

الثالث: أنّ الحراك الشعبي المعاصر الذي سُمِّيَ بـ «الربيع العربي» يُحسِن صنعاً حين يعتمد الخيارات السلميّة رغم انعدام الحسّ الإنساني في الأنظمة الإقليميّة والعالميّة، ومؤسسات الأُمم، وحقوق الإنسان. إلّا أنّ دوام سلامة ذلك رهنُ المُضيِّ قدُماً كحَدِّ السيف والسِّكَة المُحماة، مع أتمِّ الجهوزيّة للمنازلة إنْ تَعيَّنَتْ، بل وتسطير الملاحم الكربلائيّة البدريّة بأجلى صورِها.

الرابع: أنّ سلامةَ أيِّ منهج، أو أسلوبٍ تربويّ، رهنُ نقاء الطّوِيَة وفيض الحبِّ والحنان، بحيث يكون المربِّي يكره العُنف والقَمْع وكمَّ الأفواه. يستوي في ذلك الوالدان في الأُسرة، وكلُّ مسؤولٍ عن جماعةٍ قلّت أو كثُرت، وصولاً إلى السعي لإقامة الحكم، والحراك الشعبيِّ العريض.
الخامس: أنّ المسار التربوي، أو التغييري في المجتمع، والمسار الجهادي لإقامة العدل يُنافي التساهل في حفظ موازين الثقافة التي هي «الأحكام الشرعيّة»، فالتَّربية والتغيير والحسم العسكري جميعها مقدِّماتٌ لإقامة «الحدود المُعطّلة»، و«ما دَرَس من معالم الدين».

مقياسُ الوفاء للثوابت العقائديّة التغييريّة، «حراسة حدود الله». وتعاظُم «الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر». تضيع البوصلة عندما تغلب التنازلات، ويُخيّم صمتُ المقابر عن ترادف انتشار المُنكر واتّساع دوائره إلى حيث يستبيحُ ما يُفترض أنّه في صُلب المسار التَّربوي والتغييري.


اخبار مرتبطة

  آلُ محمّد صلّى الله عليه وآله  بين الحُبِّ والنّصب

آلُ محمّد صلّى الله عليه وآله بين الحُبِّ والنّصب

  سببُ ازديادِ حُبِّ الدّنيا

سببُ ازديادِ حُبِّ الدّنيا

  دوريات

دوريات

25/12/2011

دوريات

نفحات