بسملة

بسملة

منذ 6 أيام

رَبِحَ الصّائمون، وفازَ القائِمون

رَبِحَ الصّائمون، وفازَ القائِمون
الشيخ حسين كوراني

من أبرزِ مفاتيح القلب في أدعيةِ شهرِ رمضان:
«إِلهِي رَبِحَ الصَّائِمُونَ، وَفازَ القَائِمُونَ، وَنَجا المُخْلِصُونَ، وَنَحْنُ عَبِيدُكَ المُذْنِبُونَ. فَارْحَمْنا بِرَحْمَتِكَ، وَاعْتِقْنا مِنَ النَّارِ بِعَفْوِكَ، وَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا بِرَحْمَتِكَ..».
ربحُ الصَّوم -على علوّ مرتبتِه- دونَ فوز القيام، رغم أن الصَّائمين والقائمين يشتركون معاً في «الإخلاص» و«النّجاة» التي تلازمُه.
المُلفت هذا التَّدرُّج من الرِّبح إلى الفوز فالإخلاص. طبيعيٌّ أنّ في «الرِّبح» و«الفوز» بعض ملامح الإخلاص وخَطَراته. إلّا أنّه بهما يُثَبَت ويستقرّ. قالت الصّدِّيقة الكبرى فاطمة الزهراء عليها السلام: «.. والصَّوم تثبيتاً للإخلاص».

مَن هم الصّائمون؟
نقرأ في مفتتَح أدعية هذه الدّورة الربّانية -دورة الأشهر الثلاثة- «وبلِّغْنا شهرَ الصِّيام، ولا تجَعلْ حظَّنا منه الجوعَ والعطَش».
ليس الإمتناع عن الأكل والشُّرب- وسائر ما يتحقّق به شكلُ الصّوم- إلّا مدخلاً إلى الصّوم الحقيقي.

***

قد يؤدّي هذا المدَخل إلى «التّقوى»، ﴿..لعلّكم تتّقون﴾ البقرة:183.
«التّقوى» إقامةُ العَدل في دولةِ النّفْس. «وفيك انطَوى العالَمُ الأكبرُ».
تتوقّف إقامة «دولة العَدل والقانون» في النّفْس على الثّّورة وإحرازِ النّصر. التقوى توبةٌ وكَدْح، والتّوبةُ ثورة، والكَدْحُ تواصلُ السّعي والجهاد، ﴿يا أيها الإنسان إنَّك كادحٌ إلى ربّك كدْحاً فملاقيه﴾ الإنشقاق:6.
تبلغُ الثّورة مداها بالنَّصر المؤزَّر، والفتح ِالمبين. يتحرّرُ الثائرُ -التّائب- من أَسْر الحيوانيّة والغرائزيّة، وقيود «الكَثَرات» التي هي أوهامُ ثقافات الجَهل والجاهليّة وأوهام عبادة أصنامِها وفراعِنَتها والمترَفين والمَلَأ وعاداتِهم، لينتقل من ثقافة القِشر والظّاهر والعبوديّة لآلِهتِها المَوهومين والمُتشاكسِين، إلى آفاق الحرِّيّة، والأمن النّفسي والسّلامة والإسلام.

***

«الكثَرات» توهُّمُ الحقيقة الأصيلة في كثيرٍ من الظّواهر. هي عالَم الحيوان، وسجنُ «الإنسان» المشدودِ إلى بُعده الحيوانيّ، مُمعِناً في أن يكون من الذين ﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ﴾ الرّوم:7.
لا عقلَ في البُعد الحيواني للإنسان. فَصْل الإنسان وخصوصيّته النُّطق «حيوانٌ ناطق».
بالعقل يتحقّقُ الخروجُ من عالَم الحيوان إلى عالَم الإنسان. إذا غيَّبَ الإنسانُ العقلَ استحالَ حيواناً صامتاً، بلا فكر ولا عقل.
عدوُّ العقل ونقيضُه، الشّهوات والهوى والغرائز الحيوانيّة. كلُّ ما يقوّيها يُضعِفُه فيُمرِضه، أو يصرَعه، أو يأسُره، ويلغِيه.
بمقدارِ غَلَبةِ العدوِّ تكونُ الهزيمة. وبمقدارِها يكون تَغييب العقل، و«الخسارة».
الإقامةُ على تَغييب العقل إقامةٌ على حال: ﴿..صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾ البقرة:171، والمآل: ﴿..إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ الفرقان: 44.

***

الصّوم الحقيقيّ استجابةٌ للنَّبيِّ في استِثارةِ دَفينة العقل «..ويُثيروا لهم دفائنَ العقول» في مسار ﴿..استجيبوا لله وللرّسول إذا دعاكم لما يحييكم..﴾ الأنفال:24.
بكَسرِ العادة، وكفِّ النَّفس عن الهَوى والشَّهوات، تبدأ رحلةُ التّوازن بين بُعدَي الإنسانيّة والحيوانيّة، لتثبيتِ حكومةِ العقل.
بمقدارِ تعزيزِ العقل وتثبيتِ سُلطانِه يكون الصَّومُ حقيقيّاً. تعزيزُ العقلِ بالصّومِ درَجات، لأنَّ كسْرَ العادة وكفَّ النَّفس درَجات.
قال العلماء: أقسامُ الصّوم ثلاثة: صوم العوامّ: (وهو الكفُّ عن الطّعام والشّراب) -والعوامُّ هم المُقيمون على المعاصي، وإنْ كانوا في العرْف من النُّخَب- وصومُ الخواصّ: (وهو الكفُّ عن المحرَّمات كلِّها)، وصومُ خواصِّ الخواصّ (وهو الإعراضُ عمّا سوى الله تعالى).
يجِدُ الصّائم مسَّ الجوع، فإنْ كان فقيراً حافظَ على ما سَلِمَ له من بُعدِه الإنساني، وترسَّختْ فيه روحُ القِيَم والمَعنى، وإنْ كان غنيّاً غادرَ قُمقمَ الأنا ليكتشفَ بعضَ معاناةِ الفقير، فتنبض في قلبِه مشاعرُ الإنسانيّة بوتيرةٍ مختلفة.

***

يشتركُ كسْرُ العادة وكفُّ النّفْس ووَمضاتُ تعزيزِ العقل في التقاطِ مرآة القلب بعضَ ملامح الأحجام الحقيقيّة للنَّفْس والآخر، والفَرد والجماعة، والملذَّات الظاهريَّة والمعنويّة، والدُّنيا والآخرة، وهو ما يُتيح للصائم التَّعامل بطريقة مختلفة -وإنْ بمستوى الوَمضات والخَطَرات- مع عظَمة الخالق ومحدوديّة المخلوق، فإذا الصّائمُ أمام لَمَعاتِ «الإخلاص» وبوارقِه.
بمقدارِ عُمقِ «النيّة» وصقْل مرآةِ القلب، وتدريبِ الجوانِح والجَوارح على حكومةِ العقل وحاكِميّته، يتحقّقُ تحريرُ العقل من طغيان الغرائز فيربو بذلك ربحُ الإخلاص ويتراكم، لتكتملَ ملامحُه، وتَتعمَّق أبعادُه، فيَثْبُت ويستقرّ، فإذا الصّائم أهلٌ لصَوم الخواصّ، ويتعاظم إخلاصُه ويترسّخ، فيُمنَح وسام «خواصّ الخواصّ».
عُمقُ النّيّة، بالإسرار والتِّكرار، ودوامِ الغوص في جوهر الذّات، والحفْر في عمقِ الباطن.
الإسرار، بحفظها من شَوْب الرِّياء السّابق، والمقارن، واللّاحق. والتِّكرار، بتعدُّد العبادات والإكثار. «كَثْرةُ تلاوة القرآن. كثرة الصّلاة. كثرة الصّوم. كثرة الذِّكر». ﴿..قياماً وقُعوداً وعلى جُنوبِهم..﴾ آل عمران:191.
مواصلةُ الحفرِ والغَوْص، بالإصرار في بلوغ غاية العبوديَة ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ الله..﴾ النَّحل:53. ﴿..مَا شَاءَ الله لَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله..﴾ الكهف:39.
صَقْلُ مرآةِ القلب، بصدقِ النِّيَّة وحِفْظها من حُجُب النّور، وحظِّ النّفْس، فضلاً عن خَطرات العُجْبِ حالَ العبادة، أو بعدَها.
تدريبُ الجوانح، بمراقبةِ طهارة السِّر، ورعاية أدبِ محضر الله تعالى، المعبَّرِ عنه بأَدبِ المحاضَرة. وتدريبُ الجوارح، بوَقْفِ القبضِ والبَسْطِ على طاعةِ الربِّ ومخالفةِ الهَوى.
لا ينفصلُ الصّومُ الحقُّ عن القيام. القائمونَ الفائزون، صائمونَ لم يقِفوا على عتبة الكفِّ بل قرَنوا ربحَ الصّوم بفعلِ القيام، وهو من الجامعيّة في السّنام الأعلى ﴿..أن تقوموا لله..﴾ سبأ:46، ﴿..قياماً للنّاس..﴾ المائدة:97، ﴿..وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ الحج:26.



اخبار مرتبطة

  أيّها العزيز

أيّها العزيز

  دوريات

دوريات

منذ 4 أيام

دوريات

  كتب أجنبيّة

كتب أجنبيّة

منذ 4 أيام

كتب أجنبيّة

نفحات