الفصل الثالث:  النص، تراث أم وحي؟ موقع السرائر

      النص المعصوم
         الظاهر
            والباطن
              الثابت والمتحول

                 الإستغراب
                      الزخرف


النص المعصوم

والمراد به النص القرآني، ونص المعصوم، فعندما يكون المتحدث "لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى" فنصه أيضاً معصوم.

وكذلك عندما يكون المتحدث من ثبت له ما ثبت لرسول الله صلى الله عليه وأله ما عدا المختصات.

والفرق كبير جداً بين التعامل مع النصوص الدينية من هذا المنطلق، وبين التعامل معها باعتبارها "التراث"!

* ليس الإسلام تراثاًً:
تثبت النظرة الفاحصة الموضوعية:
1- أن خلاصة ما توصل إليه الفكر البشري في مجال الإجتماع السياسي ليس جديداً على الإسلام وإن كانت للإسلام مقاربته المتميزة لكل المحاور الفكرية التي نتوهم حداثتها بالمعنى الإستهلاكي للحداثة. تؤكد ذلك مقاربات كبار الإختصاصيين في النص الديني.
2- كما أنه لا تعارض بين الإسلام والذرى العلمية.
3- وأن النص المعصوم هو المنجم للبحث عن كل جديد.
(1)

وهذا ما يتيح التوكيد على رفض توصيف الإسلام بأنه تراث.

هذا التوصيف يفتقر إلى الموضوعية، عندما يطلق على حقيقة هي فوق أن ينال من توهجها الزمان.

هل يصدق هذا التوصيف على نهر الحياة المتدفق في الشرايين والأوردة والوجود، وعلى الهواء والماء والشمس والقمر؟

وهل نهر المعرفة، بل بحار الحقيقة، أقل شأناً وأهون قدراً من أيٍّ من هذه الحقائق المتوهجة بنور الحقيقة المحمدية: الإسلام؟

أي ثقافة تسمح للفرد مهما علا كعبه أن يجعل من نفسه وعصرها ودورته المحدودة مفصلاً بين الحديث والقديم الرجعي والمتجدد، بل مقصلة تندر عليها أعناق كل الحقائق التي جهلها، فإذا هي لديه خرافات! وهو -لا غيره- يردد: نصف العلم: لا أدري! كل ما طرق سمعك فذره في بقعة الإمكان! إذا جاء الإحتمال بطل الإستدلال!

وأعظم ما هنالك أن يكون وصف فكرٍ ما بـ"التراث" يعني أنه توأم البدائية وعدم النضج أو حتى الأسطورة والخرافة.

الأنبياء رسل إلى البشرية لتفتح آفاقها على الغيب الذي لا يمكنها اكتناهه بدون تدخل إلهي، وليس المستقبل في هذه الدنيا إلا شوطاً من المستقبل كله، والنص المعصوم معني به عنايته بالمصير، يوليه أهمية قصوى باعتباره الشوط الذي يتحكم بالنتائج رغم قصر المدة.

ويريد لنا هذا اللون من "النخب" أن نتعامل مع الدين باعتباره تراثاً، أي أن نقفل عقولنا عن التفاعل معه إلا بمنطق الفولكلور!

ونحن في الغالب لا نعرض الدين إلا بما يعزز هذه الفرية، الأمر الذي يفضح تناقضنا، حيث أن معنى الدين يستبطن أجلى خصائص الحقيقة، وهو كونها أكبر من الزمن: الماضي منه، والحاضر، والمستقبل.

ومعنى التراث يستبطن - عادة - الخضوع لدورة الزمن.

ومن شاء الدخول في جدلٍ لغوي تقني فذلك شأنه، إلا أني أستشهد موضوعيته ليكتشف من خلال المركوز في ذهنه السائد في استعمالاتنا لمفردة التراث، أن المراد دائماً هو المعنى الإنتقاصي الذي ذكرت.

* السمات:
وفي التفاصيل: نجد أن للنص المعصوم، سمات ومرتكزات.

أما السمات فهي كما يلي:

1- أن الفارق بين النصوص القطعية، وبين كل ما حفلت به حقول المعرفة البشرية، هو الفارق بين الحقيقة، ومحاولات الوصول إليها أو الإبتعاد عنها عريضاً، وهو الفارق بين المعصوم وسائر الناس، بل حيث إن المعصوم لا "ينطق عن الهوى" بل يبلغ عن الله تعالى فإن الفارق بين النص المعصوم وغيره كالفارق بين الله تعالى وخلقه.

2- وأن ذلك في حد ذاته يؤدي إلى حقيقة شديدة الخصوصية المعرفية، فالغيب بكل ما يمكن للإنسان أن يعرفه عنه، والشهادة بكل أطيافها، في متناول الإنسان، لم يحجب عنه الله تعالى إلا ما لا يمكن أن يحيط به بحكم تركيبته الأرضية-السماوية، وجميع ذلك كامن في القرآن الكريم وما آتى الله تعالى علمه للمعصومين، وهذا يؤكد أن في هذه النصوص من الكنوز المعرفية ما لا يخطر على قلب بشر من غير المعصومين.(2)

3- وأن النص المعصوم من مظاهر "كرامة الإنسان" التي يتوقف عليها إخراج طاقاته الهائلة من عالم القوة إلى الفعل، بمعنى تكامل الإنسان، لينتقل من "مشروع إنسان" إلى إنسان حقيقي.(3)

4- وأن الدنيا بكل عصورها والقرون، هي المدى الذي لابد منه لبلوغ البشرية مرحلة متقدمة في فهم الخزين المعرفي الكامن في هذا النص، والإلتزام العملي به.

ولا ينافي ذلك أن يتمكن بعض الناس في كل عصر من التفاعل مع الحقائق بدرجة متقدمة على عصرهم، فالحديث هنا عن تحول التفاعل مع الخزين المعرفي - الذي يحمل النص المعصوم رسالته - إلى حالة عامة مستقرة.

وفي هذا السياق يقع التدرج في الرسالات السماوية، وصولا إلى خاتمتها المتمثلة في الإسلام، ووصولاً بعد ذلك إلى مرحلة "ليظهره على الدين كله" وتحقُّقِ العولمة الحقيقية، بقيام حكومة العدل العالمية.

ولتوضيح فكرة التدرج هذه، يكفي استحضار ما بذلته البشرية من جهود فكرية دؤوب ومعاناة وعذاب ودماء، لإدراك قيمة الحرية، ومع ذلك فالبشرية اليوم تعاني من الظلم والإستبداد، مما يكشف عن الحاجة إلى المزيد من بلورة مفهوم الحرية نظرياً، بالإضافة إلى جهود مضنية لتثبيتها في الواقع العملي.

أو استحضار شديد وضوح مبدأ المساواة بين أفراد النوع الإنساني نظرياً وبين البعد الهائل عن ذلك عملياً، فالتعامل مع الأسود لا يمكن له أن يكون في سلوكنا والتعاطي، كما هو الحال بالنسبة إلى الأبيض.

إن المعرفة، غير اكتمال المعرفة، وهو أيضاً غير نضج المعرفة، وهو بدوره البداية الحقيقية لتحول العارف إلى معرفة.(4)

* المرتكزات:
وأما مرتكزات النص المعصوم فترجع جميعاً إلى الرؤية الكونية التوحيدية التي يصدر منها - والتي تتبلور في تحديد الموقف من الله والإنسان والكون، أو فقل من المكوِّن، والمكوَّن وهو على قسمين: الإنسان وماعداه، الهدف والوسائل أو (المسخَّر، والمسخَّر له)- ومن (المرتكزات) انطلاقاً من هذه الرؤية، ما يلي:

* من الغيب وإليه
1- يرتكز الخزين المعرفي في النص المعصوم إلى حقيقة أن الإنسان جاء من الغيب وهو راجع إليه لا محالة، والأصل في تكامله الإنساني هنا، أن يكون عند رجوعه إلى عالم الغيب، إنساناً كاملا، يمكنه أن يحيا الحياة الطيبة بكل أبعادها وتجلياتها.

يقول الإمام الخميني:

"يبني الإسلام إنساناً تواقاً إلى العدل، ملتزماً بتنميته، متحلياً بمكارم الأخلاق، متصفاً بالمعارف الإلهية، بحيث إنه عندما يغادر هذه الدار، وينتقل إلى عالم آخر، يكون في صورة إنسان: آدمياً"(5)

وهكذا تتخذ الدنيا "عالم الشهادة" الموقع الوسطي في رحلة الإنسان، فهي مرحلة بين مرحلتين من الغيب، تتم فيها التوأمة بين العلم والعمل، بين المعرفة والعارف، لتحقيق التكامل الإنساني عبر التأسيس على ما حمله من مرحلته الأولى "الخلق" و "فطر عليه" من طاقات ومؤهلات، ونقلِها إلى حيز الفعل بالتوأمة المذكورة، ليتم التأسيس على ذلك كله في مرحلة ما بعد الرجوع إلى الغيب.

وهذا يعني ببساطة أن النص المعصوم لا يشطر الوجود ليأخذ شريحة الدنيا ويحللها وينظِّر على أساسها، كما تفعل جميع النصوص الأخرى، فإن ذلك بمثابة تحليل ساق الشجرة بمعزل عن جذورها والتربة والشمس والهواء والماء، ووارف الأغصان والظلال والثمرة.

* أكبر من الدنيا
2- يقودنا ذلك تلقائياً إلى حقيقة أن من مرتكزات النص المعصوم الحصرية احترام الإنسان، فهو لديه أكبر من الدنيا، وأعظم من أن يهرم فيموت ويتحلل ثم يتحول إلى جماد، كما ترى الطروحات المادية المتخلفة التي تدعي رفع راية الإنسان والإنسانية.

يمتاز النص المعصوم عن كل ما عرفته البشرية من أطياف المعرفة بالتزامه مبدأ أن الإنسان خلق ليبقى، وإنما ينقل من عالم إلى آخر.

* مقياس الربح والخسارة
3- يؤسس ما تقدم وما قبله مباشرة للتعامل مع الإنسان في الدنيا على قاعدة أنه في مرحلة جنينية - هي وسطية الدنيا كما تقدم- فلابد أن يحظى بالعناية القصوى، بلحاظين: الفعلي بكل مستلزماته من الإختيار والمعرفة والقانون الذي يحقق تطبيقه العدالة، والمستقبلي - بعد ولادة الروح المعبر عنها بالموت أي موت الجسد- بكل مستلزماته - أي المستقبلي- من مقومات الحياة الطيبة، والنعيم الدائم المعنوي أولاً والمادي ثانياً وفي سياقه: "ورضوان من الله أكبر".

وهذا يعني أن شوط الربح والخسارة، والنجاح والفشل، والإحجام والإقدام، لا يقاس بهذه المرحلة التي هو فيها، فهي الممر إلى المستقر، وليست نهاية المطاف فضلاً عن أن تكون كله.

ومن الواضح أن لهذا الأصل حضوره القوي في جميع مجالات حياة الإنسان في الدنيا، العلمي منها والعملي.

* النية، والعمل
4- ويرتكز النص المعصوم إلى قاعدة رئيسة هي التفاعل بين النفس والخارج، بل بين النية والنفس، بلحاظ أن النية جسر النفس إلى الخارج، سواء اتخذت النية شكلها العملي، أو بقيت في حيز النفس، لأنها حتى في هذه الحال أيضاً ستكون حاضرة في التعاطي مع الخارج، ولو بشكل غير مباشر.

أ‌- وتكتسب النية عظيم منزلتها من كونها الفعل الإستراتيجي للإنسان الذي أمر الله الملائكة بالسجود له.

والمراد بوصف الإستراتيجي أن النية ثمرة كل ما أسهم في بناء شخصية صاحبها، وتراكم لديه من معرفة وقناعات، فهي "عقيدته" و "دينه" الحقيقي في مجالها، ويشكل مجموع نواياه حقيقة عقيدته ودينه بشكل عام.

ب‌- ولئن كانت البذرة المادية تنمو وتتحول إلى شجرة ربما عمّرت طويلاً، فإن بذرة النية أبعد خطراً من كل بذرة، وبما لا مجال معه للمقارنة.

ولئن كانت تربة البذرة جماداً من تراب، ومناخها ظواهر طبيعية من هواء وحرارة وماء، فإن تربة النية النفس التي انطوى فيها العالم الأكبر، ومناخها العقل والهوى والبصيرة والعمى، والنور النور، والظلمات الظلمات.

"ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه وإلى الله المصير" "وما يستوي الاعمى والبصير" "ولا الظلمات ولا النور" "ولا الظل ولا الحرور" [فاطر18- 21]

ت‌- والنية بعدُ من العمل الروح، فلا غرو أن تكون للعمل في رؤية النص المعصوم حياته التي هي فيض من حياة الإنسان كما أراده الله تعالى مسؤولاً عن اختياره.

وتبلغ حياة العمل وكيانيته - بلحاظ النية التي يصدر منها - حد إعادة صياغة النفس، فإما أن يفجر طاقاتها الكامنة فيما ينفع الناس وينفعه، ويمكث في الأرض، ويجده صاحبه حاضراً في غده الآتي في عالم الغيب، وإما أن يفجرها في ما يلحق الضرر بنفسه ويشوِّهها وينشر الفساد في الأرض.

ث‌- ومن خصائص هذا الموجود الحي الذي هو العمل أنه إذا كان صالحاً فهو "براق" تقدم صاحبه نحو الهدف "التكامل الإنساني" وإن كان سيئاً، فإنه يحيط بصاحبه ويحيق به، يمنع تقدمه ويقضي عليه.

ويرجع الأمر في الموردين إلى حسن الإختيار وسوئه.

ج‌- وعندما يموت الجسد فإن العمل باق على حياته، فهو فعل روح لا جسد، وهو في الحقيقة ثمرة الإعتقاد الذي هو روح الروح، ولذلك فإن الروح به تعرف، وعلى أساسه تقيم، وبه تثاب أو تعاقب، إنه نفسه الجزاء "هل تجزون إلا ما كنتم تعملون" "ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحدا " "أحاطت بهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون" "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه"(6)

فالعمل يَرفع إلى أعلى عليين ويُنزل إلى أسفل سافلين، وهو محور التقييم وهو بعدُ الجزاء، والسبب في ذلك أنه فعل "النية" التي هي إرادة "الإنسان" وعزمه، فهو ثمرة تفاعل في بوتقة النفس بين النفس والنية، وبين النية والعمل، قبل التنفيذ وأثناءه وبعده.

ح‌- ومن تجليات عظيم مكانة الإنسان في النص المعصوم اعتبار نيته - وبالتالي عمله- سبباً يمكنه أن يجعل الإنسان أكبر من عصره الذي يعيش فيه - التزاماً في الخطط التفصيلية مع السياسات العامة التي قضت كما تقدم بأن الإنسان أكبر من الدنيا- فهو بواسطة النية السليمة، أو العمل الصادر عنها في خط العقل، يتصل بكل بحر النوايا السليمة عبر القرون السالفة والآتية، يضيف رصيده إلى رصيدهم، ليصبح "اعتباره" مرتكزاً إلى رصيد كل مواكب النور والخير.

وليس هذا الإتصال مجازياً، وإنما هو معنوي حقيقي، والدليل أنه يجعل صاحبه شريكاً حقيقياً في نياتهم وأعمالهم.(7)

"من أحب عمل قوم حشر معهم، ومن أحب عمل قوم أٌشرك في عملهم"

"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" [النساء 69]

ويدل على الإتصال عبر النية بالعصور القادمة، قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، لمن تمنى أن يكون أخوه حاضراً في ساحة الجهاد في البصرة:
 أهَوى أخيك معنا؟ فقال: نعم. قال: فقد شهدَنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان، ويقوى بهم الإيمان .
(8)

وبناءً عليه فإن هذا البعد يجب أن يلحظ كأحد أهم أسس مرتكز النية، الذي يؤسس عليه النص المعصوم في جميع مفردات عملية التنمية، الثقافية، والتربوية، والأخلاقية والسياسية، والتعبوية عموماً، فلا يصح التعاطي مع خزين التجارب البشرية من منطلق أنها - في أحسن الحالات- مادة للإعتبار، بل هي لكل فرد منطلق لتحديد الموقف مما يجري في عالمه الآن، وتحديد الموقف أيضاً من كل مراحل الماضي والمستقبل.

ويظهر أثر ذلك جلياً في تنمية حس المسؤولية الإجتماعية في الفرد، فعندما يكون مطلوباً منه تحديد الموقف من كل ما شهدته البشرية وستشهده من منعطفات سيكون تعاطيه مع الشأن العام المعاصر في المستوى المتقدم الذي لا تقوى معه كل الصوارف على ليِّ ذراعه وثنيه عن الإهتمام والتصدي.

إن هذا البعد في النية يضيء بتوهج على بعد المسؤولية في الإنسان كما أراده الله تعالى، وهو يكشف بجلاء عن منزلة الإنسان نفسه، لأن خطير المسؤولية التي تقوم على العدل يكشف عن عظمة المسؤول.

وإذا بحثنا بموضوعية عن التربية التي ينبغي اعتمادها لتظهير الإحساس بالمسؤولية الإنسانية في الفرد، فلن نجد أروع من "منظومة النية والعمل" كما يقدمها النص المعصوم، بدءً بالتنبه إلى المصير "الرجوع إلى الله تعالى" مروراً بأن المستقبل هو نفس مجموعة الخيارات في الدنيا، فمن حسنت خياراته حسن مستقبله، والعكس صحيح، وأن النية هي المحور، وأن الإنسان أكبر من أن يحشر في زاوية من زوايا الكرة الأرضية، بل هو أكبر من الدنيا، وهي إنما وضعت في خدمته. وأن البون شاسع جداً بين "شبه" الإنسان المنصرف إلى متع الجسد، وبين الإنسان المسؤول عن كل أحداث عصره، وجميع العصور.

عندما يكبرالهدف كثيراً - على قاعدة العدل- يصبح الوصول إلى بعض مراحله ممكناً أكثر.

عندها يصبح بالإمكان أيضاً مطالبة الإنسان بحمل هم كل ما تواجهه الدنيا من ظلم الفراعنة واستعمار المستعمرين، ويصبح مفهوماً ما معنى أن قوم النبي صالح عليه السلام أُهلكوا بفعل شخص منهم، لم يواجهوه بالإنكار، بل رضوا بعمله "فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها" [الشمس 14]

* غيب الإنسان أكبر
5- ما تقدم يعني أيضاً أن النص المعصوم ينطلق من حقيقة أن غيب الإنسان أكبر من شهادته كما أن عالم الغيب أكبر من عالم الشهادة، والنسبة هي النسبة. والنصوص صريحة في أن الإنسان هو العالم الأكبر، وأن قلبه أوسع من السماء والأرض، وهو ما يوضح في ضوء المتداول والسائد هول الفارق بين الإنسان كما يقدمه النص المعصوم، وشبه الإنسان الذي تتحدث عنه "حضارة الجسد والآلة"!! وليست مدرسة شطر الوجود وأخذ شريحة الدنيا بمعزل عن كل ما يحيط بها، إلا مدرسة شطر الإنسان، وأخذ شريحة جسده الصغيرة جداً التي لا تتعاظم إلا في موقعها الطبيعي، وكلما ابتعدت عنه تضاءلت وتلاشت.

* الحياة الطيبة
6- وهو يعني أيضاً أن في هذه الدار الدنيا نوعين من الحياة، هما اللتان تتبلوران فيها، وتظهران على حقيقتهما في غد الغيب القائم فعلاً والآتي كشف الغطاء عنه، وترجعان معاً إلى الإنسان وحسن اختياره أو سوئه، وهو ما تقدم التعبير عنه بالتفاعل في داخل بوتقة النفس.

إنهما ما يمكن التمثيل له من بعيد بحياة راحة الضمير و "حياة" عذابه، حياة البريء والمريب، من قام بواجبه، وأدى فروضه، ومن انصرف إلى اللهو واللعب،، حياة الجسد في محراب الروح، وحياة الجسد على حساب الروح، حياة التزام القانون، والنظام والآداب، وحياة التلاعب والإلتفاف و "على الدنيا من بعدي الطوفان".

ويسمي النص المعصوم الحياة الأولى "الحياة الطيبة" والثانية الموت أو فقل: "حياة" الموتى.

"أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون" [الأنعام 122]

"من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" [النحل 97]

"وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمعٍ من في القبور" [فاطر 22]

"إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون" [الأنعام 36]

والموت على مراتب فقد يكون من يموت في بداية الإحتضار، وقد يكون في النهاية، وقد يكون في ما بينهما من صمم وعمى، ثم إقفال محطة القلب، وبعده موت الدماغ والعقل.

وحول كل من المراحل نصوص كثيرة لا تخفى.

* جمال الباطن
7- ومن مرتكزات النص المعصوم أنه مدرسة "جمال الباطن" الذي يسبغ على الظاهر روعة الجمال الحقيقي وبهاءه، على العكس من "جمال الظاهر" فقط لذي يقوم عادة على الخداع والتمويه.

أجمل الناس في مدرسة العصمة من كان عقله راجحاً ينتظم القلب في خطه، فتتحقق العدالة في كيانه، وقد يكون هذا الأجمل هو "جويبر" الذي كان في الشكل "من قباح السودان". (9)

وأقبح الناس من قبحت سريرته، لسوء اختياره، الذي حرمه من إعمال عقله، والسير في هداه.

وأجمل الأعمال ما صدر عن قلب سليم يتميز بالصفاء والحب والرحمة، وأقبحها ما لم يكن كذلك ولو كان "صلاة" و "جهاداً" لأنه قشر بلا لب، ومجرد شكل بدون محتوى، فالباطل هباء.

وأجمل الأمكنة ما لم يسلبه الباطل والعدوان أدنى لمسة من بهائه وألَقه، ومنه يعرف حال أجمل الأزمنة، "سلام هي حتى مطلع الفجر"

* الصورة الحقيقية
8- ويؤكد النص المعصوم أن لكل عمل صورة حقيقية هي غير صورته الظاهرية، وهي التي تظهر في المراحل التالية للحياة الدنيا، ويمكن لمن ينظر بنور الحق أن يراها في الدنيا أيضاً.

ويمكن للإنسان أن يختار لنفسه الصورة التي يريد، بحيث إن الصورة تأتي في النتيجة تظهيراً بالغ الدقة لكل مفردات إرادته واختياراته، والريشة التي ينجز بها هذا الرسام لوحته هي ريشة العمل الذي يقوم به والمداد النية والدواة النفس، وتتحكم كل مفردة فعل منه، بحركة من حركات هذه الريشة - الدائبة النشاط - بالشكل النهائي لهذه الصورة، التي هي صورته الحقيقية، التي يوَدِّع الدنيا بها ويدخل عالم الغيب فيها، وهي بعض جزاء حسن اختياره، أو سوئه.

قال صدر المتألهين:

"النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، بل الكتاب والسنة، مشحونة بذكر تجسم النفوس بصور أخلاقها وعاداتها ونياتها واعتقاداتها تصريحاً وتلويحاً،"(10)

*الواقع اللاموضوعي
9- ويتفرع على ذلك أصل أصيل، هو الفرق بين الواقع الموضوعي والواقع اللاموضوعي، وهو يرتبط بمحورية الإنسان وكرامته، في الرؤية الكونية التي يصدر منها النص المعصوم، وهو عبارة عن ضرورة التمييز في كل تجليات الفعل الإنساني، من أصغر فعل فردي إلى أكبر فعل جماعي، بين الحق والباطل ولكن بمعايير الرؤية الكونية التوحيدية التي تميز بين الوجود الحقيقي الباقي بإذن الله تعالى ووهم الوجود، الفاني. بين ما ينفع لأن وجوده حقيقي يحتل موقعه في منظومة الوجود الباقية، وما لا ينفع، لأنه في سياق الهباء مهما بدا أنه قوي الحضور شديد التأثير "يفرض" وجوده بامتياز. والأول ما يصدر من الإنسان الإنسان. والثاني ما يصدر من الإنسان الشكل. لو أن جهة سياسيةً ما، حكمت الدنيا كلها على أساس الظلم والعدوان، واستمر حكمها قروناً من الزمن، فإن هذا السلطان كله وهم وهباء لا يمكن أن يكتب له البقاء، إنه كالجريمة التي تطبق أصداؤها الأرجاء إلا أنها عبث ولغو، ولن يكون لها في دار الحقيقة في غد الغيب إلا الفناء، وهي في هذه الدنيا أيضاً كذلك كشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار.

ولاشك أن الواقع اللاموضوعي أيضاً يجب التعامل معه باعتباره جزءاً من الواقع، إلا أن الإنحناءة له وكأنه الحق، تنافي سلامة العقل و إنسانية الإنسان.

ومن النصوص في هذا المجال:

"أنزل من السماء ماءاً فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال" [الرعد 17]

"والذين كفروا أعمالهم كسراب بِقيعة يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب" [النور39]

"إن هؤلاء متبَّرٌ ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون" [الأعراف 139]

"من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون" "أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون" [هود 15- 16]

وبناءً عليه فالإنسان هو الذي يطبع الدنيا بإذن الله تعالى بطابعه، فالدنيا تدور مدار الوجود الحقيقي، وهو مرتبط بطبيعة العمل، وهي متوقفة على النية، وهي ثمرة الإعتقاد، وهو إما أن يصدر من الحق، أو من الباطل، والباطل مبني على شفا جرف هارٍ لابد أن ينهار، والحق هو الوجود الحقيقي المرتبط بالحق تعالى مبدأ الوجود ومنتهاه.

"وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" [الإسراء 81]

"بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون" [الأنبياء 18]

ويعني ذلك بوضوح أن الدنيا لا تتحكم بالإنسان، وإنما هو الذي يمسك بناصيتها، إذا أحسن الإختيار، فهو يستطيع أن يجعلها "مسجد أولياء الله" أو يأخذ بظاهرها فإذا هي "متاع الغرور".

بل إن باستطاعة الإنسان أن يسبغ على الدنيا بإذن الله تعالى النعيم الخالد، أو الشقاء الأبدي، فإما دنياً جنةٌ باقية وإن تبدل مكانها، أو دنياً هي جهنم والجحيم، إما بقاء وخلود ونعيم دائم، وإما زوال وفناء وهباء منثور، وباطن الدنيا بفعل الإنسان هو ظاهر آخرته، أما ظاهر الدنيا فلا قيمة له لأن المحور فيها كما قدر الله تعالى هو الإنسان، والعبرة بباطنه لا الظاهر، وعليه فالإغترار بالدنيا والإنخداع بها، يجعل ظاهرها هو الباطن للمغتر المخدوع، أما النظر إلى باطنها والإعتبار بها والإبصار، فهو يجعل باطنها ظاهر آخرته.

قال تعالى: "إعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور" [الحديد 20] (11)

* الحقيقة بلا حجب
10- ويتفرع على ذلك أيضاً أن النص المعصوم يحرص بالتزام شديد يوليه أقصى الإهتمام على أن يكون باستطاعة الإنسان التعامل مع الحقيقة بيسر ودون عقبات بل ولا شوائب، إذا كان الثاني ممكناً.

لذلك نجد النص المعصوم يعلنها حرباً لا هوادة فيها على كل ما من شأنه توريط الإنسان في "مرض" اختلال الرؤية، ليظهر الفاني بمظهر الدائم، والعكس، وهو لذلك يقوم على قاعدة حماية بيئة العقل والأحاسيس الإنسانية والمشاعر، من خلال رفض التلبيس والتدليس، بكافة مستوياتهما الخفي منها والجلي.

يرفض الترف مثلاً باعتباره نوع تلويث للبيئة وتدليس، يوحي ببقاء اللذائذ المادية ويزين للنفس حب الدنيا بحيث يتعارض مع كونها مجرد مقر، فينسيه المستقر.

ويدعو إلى القناعة باعتبارها تساعد على نقاء بيئة النفس من شوائب التدليس، ويعتبر الزهد درجة متقدمة في مدارج القناعة، تكشف عن وعي حقيقي للأحجام (حجم الدنيا وحجم الآخرة، وحجم المال، وحجم الثواب، وحجم الرغبة) ونفاذ إلى الواقع بمعزل عن أي حجاب يمنع رؤية القلب والبصيرة لحقائق الأمور.

ويرى في نشر الفساد في الأرض أكبرعملية تلويث وتلبيس وتدليس على الإطلاق، لأنه - في بعض مخاطره - يحجب العقل، ويطلق العنان للغرائز فتتربع على عرش العقل آمرة ناهية.

وفي هذا السياق ينبغي أن تفهم بعض أبعاد تحريم التبرج والسفور، والخلاعة، وكل مفردات الفسق والمجون، بل وتحريم الخمر باعتباره تجسيداًً للعدوان الكبير على العقل، وذلك منشأ كل فساد. (12)

* عوالم النور، والظلمات
11- و يرتكز النص المعصوم أيضاً إلى أن وجود عوالم النور والظلمات وجود حقيقي
(13) ، وليس مجازياً هو - كما ربما يقال- عبارة عن راحة الضمير والتزام القانون، ونقيض ذلك مثلاً، أو نور الوجود المجازي، وماشابه.

إن لكل عمل حظه من النور أو الظلام بحسب ما تكون النية التي صدر منها منيرة أو مظلمة.

تستمد النية مقوماتها من الإنسجام مع الحق أو من انسجامها مع الباطل، والحق نور حقيقي لأنه موجود، والباطل ظلام لأنه عدم، فلكل عمل صالح نور مستمد من صدق النية، ولكل عمل سيء ظلمة تستمد من بطلان النية.

ومن نتائج ذلك أن لكل إنسان حظه من النور أو من الظلام، وبما أن الإنسان بالغ التأثير على محيطه، فإن المكان يكتسب النور أو الظلمة من المقيم فيه بمقدار إقامته، كما أن زمان كل شخص يكتسب خصوصيته من ذلك.

وما ضر نور الشمس أن لا يراه المحجوب عنه، ومن العلماء الكبار- بالمصطلح السائد - والنماذج البشرية النوعية من غيرهم، من أخبر برؤيته هذا النور بتجليات مختلفة:

"وأنت تعلم أن أرباب الأرصاد (المراصد) الروحانية، أعلى قدراً وأرفع شأناً من أصحاب الأرصاد الجسمانية، فكما أنك تصدق هؤلاء في ما يلقونه إليك، فحقيق أن تصدق أولئك أيضاً في ما يتلونه عليك من خبايا العوالم المُلكية" كما يقول الشيخ البهائي.(14)

ولئن كان ما نعرفه من نور يرى بالعين، فإن النور الأصل يرى بالبصيرة، وبالقلب المستنير، الذي تخلص من الصدأ والرين ولم تُحجب عيناه بحجب النور أو الظلام أو كليهما، ولم يوصد عليه بالأقفال.

"إن هذه القلوب لتصدأ كما يصدأ الحديد، وإن جلاءها القرآن". (15)

"كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" [المطففون 14]

"أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" [محمد 24]

والنصوص التي يتوقف فهمها على الإرتكاز إلى هذه الحقيقة كثيرة جداً، تتوزع على عوالم قبل الخلق والخلق، وهذه النشأة، وما بعدها من عالمي البرزخ والقيامة، مما يدل بوضوح على خطورة الخبط الناجم عن التعامل مع ذلك كله باعتبار أنه جميعه على عظيم سعة دائرته يتحدث عن "مجاز" ولا ينافي ذلك أن الدليل يقود أحياناً إلى استعمال النور والظلمات في المعنى المجازي، إلا أنه استثناء وليس أصلاً.(16)

* التوبة
12- ويرتكز النص المعصوم أيضاً إلى قاعدة الإهتمام الشديد باستصلاح الإنسان مهما توغل في تشويه طبيعته الإنسانية، وسيطرت عليه ظلمات الجهل والباطل.

تبقى الحياة الإنسانية الطيبة متاحة له ليمده الله تعالى بنورٍ من خزائنه، ليمشي به الإنسان المستصلح في الناس، ويتوقف ذلك على عمله الذي هو ثمرة نيته التي هي بدورها معرفة وعزم إرادة.

ويُظهر ذلك بوضوح أن النص المعصوم لا يحمل مشروعاً غير مصلحة الإنسان وبالتالي مشروع الإنسان، وعندما يؤكد هذا النص على أن التزام الإنسان مقتضيات إنسانيته، إنما هو في طاعة الله تعالى فهو لا يسوِّق لهدف آخر مضمر، إذ لا ترجع الفائدة من هذه الطاعة إلا إلى الإنسان نفسه، الذي ينقاد للواقع الحق ولا يتعالى عليه، وبذلك وحده يمكن أن تتبلور إنسانيته، وتؤتي ثمارها.

وبديهي أن مدى الإهتمام بفتح صفحة جديدة، مع من أمعن في الإساءة والتنكر والتطاول، رهن مدى الإهتمام به، ويمكن أن يكون للإهتمام منشآن: الأول الحب، والثاني المصلحة.

تبقى الأم مثلاً حريصة على استصلاح ولدها مهما تراكمت إساءاته، لأنه "مشروعها" وفلذة كبدها. وسيشكل منعطفاً تاريخياً في حياتها ونضارة شجرة أحلامها أن تلوح بارقة رغبة ابنها في فتح صفحة جديدة.

ويحرص من يعجز عن ليِّ ذراع خصمه على فتح صفحة جديدة معه، لأن مصلحته في ذلك، فيضطر إلى التعامل مع هذا "الرقم".

وعندما ينتفي احتمال المصلحة والنفعية في استعداد نوعي لفتح صفحة جديدة مع "الخصيم المبين" الذي أصر من طرف واحد على هذه الخصومة، لا يبقى من تفسيرله إلا الحب، والعطف والحنان.

تكشف "التوبة" كما يحددها النص المعصوم، عن عظيم المنزلة التي يحل الله تعالى الإنسان فيها، فلو أنه أمضى عمره يضرب في أودية التيه، ثم بدا له أن يؤسس لعلاقة مختلفة مع نفسه والناس في خط ما أراده الله تعالى من حفظ حقوقهم، واحترام كراماتهم وحرياتهم، والتزام القانون الذي ينظم العلائق بينهم، فإن الله تعالى "أشد فرحاً" بهذه العودة من العائد نفسه. (17)

بل تكشف بعض مستويات قبول التوبة، عما يذهل اللب، ويعري كل أنماط التعامل "القانوني" مع "أصحاب السوابق" ليظهرها شوهاء تعجز عن التعامل مع سفح القمة التي هي "الإنسان".

تبلغ "التوبة النصوح" مرتبة يبدل الله تعالى فيها كل سيئات هذا الإنسان، حسنات!

وتعني التوبة النصوح كما سبقت الإشارة السريعة، عزم الإرادة وجزم النية، على قطع كل علائق الماضي، وإحداث ثورة في الداخل تطيح بكل االبنيان الذي كان قائماً في النفس على "شفا جرف هار" ليتم تأسيس البناء الجديد على قاعدة العدل،وهو "التقوى".

"فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات،" [الفرقان 70]

ودون ذلك مراتب كما لا يخفى، والأمر مرتبط بالنية النية، لا الشكل.

والوجه الآخر لهذه الحقيقة - إمكانِِ الإستبدال الجذري في الموقف إيجاباً - هو إمكان مثل هذا الإستبدال سلباً، بمعنى أن من هو في خط العقل والإستقامة، قد يغادره نهائياً، إلى خط الإلتواء في الفكر والسلوك.

وينبغي أن تكون لكل من الإستبدالين مؤشراته، المبكر منها بشكل خاص، وسواه، وضوابطه أيضاً، لصيانة الفرد والمجتمع، وحراسة المسيرة الإنسانية على وجه الأرض، ولا شك أن الخلل في ذلك يعود بأفدح الأضرار.

ولا يجوز التفريط في هذا المجال بأمرين: أن يطغى حفظ المجتمع على استصلاح الفرد، أو العكس.

وهذه الموازنة الدقيقة هي التي يحملها النص المعصوم، باعتباره من الله تعالى "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير"

ويلاحظ بوضوح شديد أن المعادلة التي يرسي الخط المعصوم دعائمها في هذا السياق، مبنية على قاعدة التساهل الشديد في استصلاح الفرد، والتشدد العجيب في الحكم بسوء العاقبة(18) مادام ضررالفرد ضمن دائرة نفسه، أما إذا وصل الأمر إلى الإضرار بالآخرين، فإن التساهل يصبح تشدداً، والتشدد تساهلاً، حيث يصبح الأمر دائراً بين حفظ الفرد وحفظ الجماعة.

وتشكل هذه الحقيقة- استصلاح الفرد والموازنة بينها وبين حفظ المجتمع - أحد مظاهر حاجة البشرية إلى القوانين الإلهية، التي يتمثل الفارق بينها وبين كل القوانين الوضعية، بالفارق بين تعليمات المخترع، وتخمينات المستعمل المستهلك.

* حرية الفرد والجماعة
13- لا ينافي جميع ما تقدم أن النص المعصوم يرتكز في ما تقدم وغيره، إلى أن الإنسان مخلوق، فليس معنى كرامته كفرد وسمو منزلته، أنه يحق له الإخلال بالقانون، وبحرية المجتمع وسلامته، ولا يقيد ذلك من حريته لدى التأمل، ولا يحدها إطلاقاً فهي في الأصل تدور مدار الإجتماع والقانون، وأي خروج عليهما يشكل عدواناً، وهو في حقيقته: طلب بغير حق، وتجاوز لحدود الحق إلى سلب الغير حقه، وبمقدار الإصرار على ذلك تكون درجة العدوان.

إن عظمة الإنسان المخلوق في مقابل سائر الناس وجميع المخلوقات، لا تعني أنه يحق له أن يتصرف كما يحلو له، فالإنسانية عقل وعدل، وهما يحكمان بأن عليه أن يخضع للقانون، لتأخذ مصلحته وحريته موقعهما من منظومة المصلحة العامة وحرية جميع الناس، بل إن حياته الخاصة رهن خدمة حياة المجتمع، فإذا استشهد دون ذلك فهو حي عند ربه، وإذا نكص حيث ينبغي الإقدام، وفرَّ من الزحف، فقد انسلخ من إنسانيته، وهو ميت "الأحياء".

إن معنى كونه مخلوقاً اجتماعياً مدنياً بالطبع، أن يلتزم بمقتضى هذه الحقيقة المكوَّنة من جزءين (مخلوق اجتماعي) التي يعتبر التنكر لها تنكراً للحق والعدل، اللذين لا يمكن له أن يتنكر لهما ويتجاوزها حتى لوكان إلهاً، أو ليس العدل من أسس التوحيد، فكيف يمكن للمخلوق التنكر لذلك، إلا بضرب من العبثية والجهل المركب؟

من يتنكر لأمه وأبيه يسقط عن مرتبة الإنسانية، فكيف بمن يتنكر لخالقه فيقرر طمس أبرز معالم العقل وهو العدل، ومن أولى تجلياته التزام الحق.

ومن المتسالم عليه أن من يتنكر لوطنه فقد ارتكب الخيانة العظمى فكيف بمن يتنكر لمبدأه ومنتهاه، للحقيقة الأصل، لرب العالمين الذي حمَّل المعصومين رسالة سعادة الإنسان، لأجل الإنسان، دون أدنى مصلحة له هو في ذلك سبحانه وتعالى عما نصف ويصفون.

* رعاية المستجدات ومراعاتها
14- ومن المرتكزات التي يصدر منها النص المعصوم، مراعاة جميع الحقائق المعرفية، التي ستتعامل معها البشرية في رحلة الإنتقال من المجهول إلى المعلوم، وفي جميع الحقول المعرفية بلا استثناء.

والمقصود بذلك أن النص المعصوم يستبطن - بنحو الإشارة على أقل تقدير- كل ما ستبلغه البشرية في مجال التقدم العلمي بدءً من علوم الجسد كالطب ومستلزماته من تشريح الإنسان والحيوان، والعلوم الإختبارية، والعلوم المرتبطة برفاهية الجسد، مروراً بعلوم الطبيعة المحيطة بالإنسان، وصولاً إلى غزو الفضاء.

وهذه حقيقة ينبغي أن تكون بديهية بداهة تحدُّث من هو بكل شيء عليم إلى من يريد له الترقي في مدارج المعرفة، إلى أبعد الحدود الممكنة، أو بداهة تحدث العالم مع الجاهل، والكبير مع الصغير، حيث يتحدث معه بما يحفظ الأسس والثوابت، ويمكِّنه بعد التعلم أن يكتشف الإشارات المستبطنة، والرموز المفاتيح.

ينصب اهتمام النص المعصوم على فلسفة الوجود والعلوم الإنسانية "معرفة النفس" في ميادينها الفردية والإجتماعية، إلا أنه لا يهمل على الإطلاق العلوم الأخرى التي تسهم في تسهيل حركة الإنسان الفرد والمجتمع على وجه الأرض وغيرها، سواء في كبد السماء، أو أعماق الآفاق، أو المحيطات.

ولدى ملاحظة أن التحول النوعي في حقول المعرفة، قد يحصل باكتشاف معادلة ما، تصبح إمكانية اختزان النص لمثل هذه المعادلات - أو التفاصيل التي تصب فيها، أو على الأقل الإشارات إليها- أقرب إلى التصور والتصديق.

ورغم أن بين الخبراء بالنص المعصوم، وبين رفيعي التخصصية منهم بالتحديد من يتبنى أنه لا مانع من أن يحمل النص المعصوم التفاصيل، على صورة الباب الذي يفتح منه ألف باب(19) ، فإن مسألة الإشارات تبقى الأقرب إلى أفهامنا، والتي يمكن الإستدلال عليها بيسر، وهو ما يؤسس لغيره، ومن أهله.

وسيأتي في الفصل الثالث مزيد إيضاح.

كانت هذه محاولة للوقوف على معالم النص المعصوم، تحفي السؤال عن مرتكزاته، وهي لا تهمل الشأن العام وإن بدت أحياناً كذلك لأن النسيج الإجتماعي الذي يقدمه النص المعصوم هو من الفرادة بحيث يظهر الفرد بكل ملامحه، فإذا المجتمع عبارة عن أفراد حقيقيين، لا يسمح بطمس أي معلم من معالمهم، أو حق من حقوقهم، لتتبدى روعة المشهد الإجتماعي الذي رسمته ريشة العناية الإلهية، بتوازن بديع معجز بين حق الفرد وحق الجماعة لتحل بذلك المعضلة التي أصر الإعراض عن الهدى الإلهي أن يوقع البشرية في حبائلها، فإذا الأمر في ذلك كالأمر في توزيع الثروة كثرة في الإنتاج وسوءً في التوزيع، يعاني الفرد التخمة أحياناً حتى الموت كما هو الحال في الرأسمالية، ويعاني المجتمع التخمة حتى الموت جوعاً كما كان الحال في الإشتراكية، ويصادر الفرد كل متن الصورة، كما في الأنظمة المتجبرة، ويحاول البعض أن يفعل الشعب ذلك، كما هو دأب المنظرين للحرية حتى على حساب القانون، وقد يحكم هذا المنظِّر فيتحول إلى متجبر، ويعاود الكرة غيره، وهكذا...

إنها الدوامة التي جعلت معيشة الإنسان في الدنيا بما رحبت "معيشة ضنكاً" نسي فيها نفسه وهو يغذ السير على غير بصيرة في تلبية حاجات الجسد، إذا استطاع، وقليلٌ ما هُم.

الظـاهر

واجه التعامل مع النص المعصوم ومايزال معضلة الموازنة بين الظاهر والباطن، وإعطاء كل منهما حقه الطبيعي الذي يؤكده العقل ويقيم عليه الدليل.

والحق الطبيعي المتصور عموماً هو: الجزم، والإمكانية.

الجزم بدلالة اللفظ على هذا المعنى، أو احتمال ذلك بما يشمل الظن، مع توقف النتيجة على الدليل أوالمؤيدات والقرائن.

أو فقل: الجزم بأن هذا المعنى مراد حتماً، أو احتمال إرادته، وتوقف ذلك على الدليل.

وبديهي أن الدليل قد يكون من القوة بحيث يقلب النتيجة رأساً على عقب.

يتساوى في ذلك كل من اللفظ والمعنى، الظاهر والباطن، فكما قد يكون الدليل لصالح ظهورهما(20)  معاً، فيتعين المعنى المحتمل الوحيد، قد يكون لصالح المعنى البعيد الذي سبق إلى الذهن غيره لعوامل مختلفة، إلا أن الدليل يحتم استبعاده رغم "سبقه" من اللفظ لأول وهلة.

وقد يكون لصالح معنى بعيد لا يسبق إلى الذهن أصلاً إلا بالتأمل، الذي يكشف أن اللفظ يتسع له برحابة صدر، فنستبعد ما فهمناه من اللفظ "بالتبادر" ونلتزم بالمعنى الآخر - البعيد للوهلة الأولى - الذي ثبت قربه.

مثال الأول: لفظ الماء ومعناه في أغلب الموارد - على الأقل - معروف.

ومثال الثاني: أن يسبق إلى الذهن عند سماع لفظ سيارة في قوله تعالى: وجاءت سيارة، المعنى المتعارف اليوم ثم يتعين أن المراد به القافلة، بدليل أن السيارة بالمعنى الذي نعرفه اليوم لم يكن لها وجود آنذاك، وبالتالي لم يكن اللفظ يستعمل في معناها.

ومثال الثالث: قوله تعالى:
 "ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله وينزِّل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار" [النور 43]
(21)

حيث كان غاية ما يمكن في حمل الظاهر عليه، ما كان في متناول البشرية سابقاً من تكوُّن السحاب ونزول المطر، وأصبح الآن متعيناً أن يدخل في طليعة احتمالات الظاهر، معنى مستجد، خصوصاً في ضوء الحديث عن السحب الركامية التي تتكون فيها شحنات كهربائية سالبة وموجبة ينشأ عن احتكاكها الرعد والبرق الذى يذهب شدة ضوئه بالأبصار.

وليتنبه إلى أن إدخال المعنى المستجد في دائرة البحث عن دلالة اللفظ، تختلف جذرياً عن تفسير القرآن بالعلم الحديث الذي هو منحى مرفوض تماماً.

في المثال الثاني يلاحظ أن المعنى المستبعد معنى "حديث" وفي المثال الثالث يلاحظ أن المستبعد "قديم" والمحتمل الذي دخل في دائرة جدارة المتابعة هو معنى "حديث".

وثمة ملاحظة مشتركة بين الموردين وما قبلهما هي أن دلالة اللفظ هي المحور، أي أن احتمال المعنى أو استبعاده يدوران مدار دلالة اللفظ "الظاهر" وهو ما يكشف تحكم الظاهر بالباطن، الذي يقضي برفض حمل اللفظ على أي معنى لا يتسع له.

إلا أن من الجدير بالعناية هو أن اللفظ يمتلك من قابلية السعة ما يجعل طبيعته تأبى الإرتجال في الحكم بعدمها، خصوصاً عندما يكون الحديث عن النص المعصوم الذي يحمل رسالة الله تعالى إلى البشرية على مدى القرون التي تزخر بالمستجدات إلى الحدود التي يتعذر على البشر تصورها.

غير أن السلطة في النهاية والحكومة والقول الفصل هي للظاهر أي اللفظ.

هذا هو الأصل الذي لابد من التأكيد عليه، والصدور منه، في كل مقاربة للنص، يراد لها أن تكون منتجة ومنسجمة مع العقل السليم والذوق المستقيم.

يقول الإمام الخميني:

"ومن سلك طريق الباطن بلا نظر إلى الظاهر ضلّ وأضلّ عن الطريق المستقيم ومن أخذ الظاهر وتمسّك به للوصول إلى الحقايق "..." فقد هدي الى الصراط المستقيم وتلى الكتاب حق تلاوته،(22)." "فإن الظاهر عنوان الباطن، واللفظ والعبارة عبارة عن تجلي المعنى والحقيقة في ملابس الأصوات والأشكال واكتسائه كسوة القشور والهيئات". (23)

ولدى التأمل في الأنماط المختلفة لمقاربة النص عبر العصور، نجد الأبرز يتمثل في ثلاثة مناهج:

الأول: "المنهج" الذي "يؤكد" الوقوف عند حدود اللفظ في "محاولة" للإلتزام بالأصل المتقدم، إلا أنه في المسار العملي يجرد اللفظ من كثير من معانيه، وهو ما يعرف بمنهج "أهل الظاهر" أو " الظواهريين ".

الثاني: "المنهج" الذي يشحن في اللفظ من المعاني حتى ما لا يكاد يخطر على قلب بشر، وهو ما يعرف بمنهج التصوف، أو "أهل الباطن" و "الباطنيين".

الثالث: المنهج الذي يلتزم نظرياً أصالة اللفظ والظاهر، ويحرص عملياً على الموازنة بين الظاهر والباطن، تحت سلطة الظاهر، فلا يطمس شيئاً من المعنى الذي يحتمله اللفظ، ولا يحمِّل اللفظ ما لا يحتمل هو أي اللفظ، لا ما لا يحتمله المزاج.

والمعركة محتدم أوارها - منذ القرن الهجري الأول- بين المُخِفِّين الذين يصرون على التخفف من الأثقال التي "لا قِبل للفظ بها" وبين غيرهم الذين يجرى حصرهم عادة بالمثقِلين الذين يركمون في اللفظ ما يعجز معه عن الحركة، وهو منه بريء.

ولدى السؤال: أي المناهج هو الصحيح؟ نجد أنه المنهج الثالث بطبيعة الحال، فهو يجمع بين إيجابيات كل من الأول في التزام سلطة اللفظ والظاهر، والثاني في التعمق وعدم الإكتفاء بالقشرية والتسطيح، على قاعدة ما يتسع له اللفظ كما سنرى.

لقد أفرط المثقِلون من متصوفة ومتأولين في شحن اللفظ حتى بما هب ودب، وفرَّط المخِفُّون بالكثير الكثير من المعاني التي يتسع لها اللفظ، بل ينادي أحياناً كثيرة أنه لا يتسع لغيرها أو لا يكاد.

وبين إفراط "أهل الباطن" وتفريط "أهل الظاهر" بقي المنهج المتوازن الذي هو الطريق الوسطى وعليه الجادة مجهولاً حجبت حمى الصراع إمكانية الإصغاء إليه والتعامل معه.

إنه المنهج المتهم عند المُخِفِّين، بالصوفية، وعند المثقِلين، بالقشرية.

وهو بعدُ المنهج المتفق بين أهله وأهل الظاهر - وربما أهل الباطن - على أن أسسه هي الحق.

ولا يمكن إطلاقاً إنصاف أعمدة الفكر البشري في خط المعصومين، العلماء الكبار، الذين تولوا عبر القرون رعاية هذا المنهج ما لم يسلط مجهر الإنصاف على هذه النقطة بالذات، وسيظل نشازاً ومثاراً للوعة وذهاب النفس حسرات، أن يساق "المتصوفة" والمتبرؤون منهم بِعَصاً واحدة، تزعم أنها مجس البحث والتحقيق.

وتقضي الموضوعية الوقوف هنا بالذات عند حقيقة أن تجليات هذا الخلل المنهجي لا تنحصر بفريق من الباحثين وسائر المعنيين بالشأن الفكري والثقافي، بل إن الجميع ودون استثناء معرضون للوقوع في وهدته ومغالطته، غاية الأمر أن النسبة مختلفة جداً تتراوح درجة تفاوتها بين الشائبة أو الشوائب، وقد تصل إلى الخط العام وقد تكون "منهجاً".

والسبب في ذلك أن منهجية الموازنة بين الظاهر والباطن ليست حزباً حديدياً، ولا انتماءً سياسياً، ولا تخضع للردع الأمني، أو القمع الديكتاتوري، بل هي قواعد حالة رشد فكري تعصم مراعاتها عن الخطأ المنهجي.

وكما يعرف الكثيرون منا قواعد النحو أو القواعد المنطقية ولا يراعونها فيخطئون، كذلك هو الأمر في المنهج وبطريقة أولى.

فالميدان إذاً ليس ميدان مزايدة وإفحام، لأن من ينطلق من ذلك هو نفسه معرض للكبوة، التي قد تصيب مقتلاً، بل المجال للتواصي والتناصح.

ولا ينافي ما تقدم تشديد النكير على من يصر على عدم الإستجابة للدليل، أو من يخلط بين الصوفيين وغيرهم، ويصر على ذلك، ويسوق الجميع - كمامر- بعصاً واحدة، يستوي لديه في ذلك، أهل الشطحات والتلبيس، ومن كتب "كسر أصنام الجاهلية في الرد على الصوفية".

إن من واجب الجميع في صيانة المنهج صيانة رموزه، ولا بد من التنبه إلى أن تحديد هؤلاء الرموز هو في حد ذاته مهمة حرجة، تحتم واجب التروي في إصدار الأحكام، وليكن واضحاً أن الخسارة من إلحاق غير المتصوفة بهم، أكبر بكثير من التروي أو الجزم بالفصل بينه وبينهم.

كما لا ينافي ما تقدم أن طبيعة تسليط الضوء على الخلل المنهجي تعني إدانة بنية فكرية بتمامها، فليس الأمر في البحث المنهجي كالبحث في مفهوم جزئي أو تشخيص موضوع فرعي، وهذا يعني أننا أمام طبيعة تتسم بخصوصية فائقة، قد يبدو الحديث فيها تجريحاً مهما كان الحرص شديداً على هدوء البحث وموضوعيته. إن الأمر بالعملية الجراحية أشبه.

وانطلاقاً مما تقدم:

ليست المشكلة المنهجية في مجال الظاهر والباطن، اللفظ والمعنى، هي فقط مشكلة الفهم الصوفي، بل هي في الحقيقة ذات وجهين، يشكل هذا أحدهما، فيما تكمن المشكلة التي لا تقل خطورة في الوجه الآخر الذي يجرد اللفظ في النص الديني من أكثر دلالاته، استناداً إلى مسبقات يسقطها على المعنى ويصر على أن اللفظ لا يدل على أكثر من ذلك.

وهكذا تغدو المشكلة في هذا المجال صوفية بوجهيها، لأن مشكلة الصوفيين هي التحميل بالإسقاط، ومشكلة الظواهريين عدم التحميل بالإسقاط، فالصوفيون إذاً "ظواهريون" والظواهريون "صوفيون" كما سنرى.

إن أبسط خصائص الفهم العرفي السليم أن مفسر اللفظ مصغٍ يجيد الإصغاء، ولذلك فهو يخلي الساحة تماماً للمتكلم، وعندما يُدخل إليها شيئاً من خصوصياته (فهمه للقرائن) فإنه يوظف ذلك كله في عملية حسن الإصغاء.

وكلما كانت الثقة بالمتكلم أكبر، كلما كانت شروط الإصغاء إليه، أشد، وأصبحت عملية إقحام النفس والخصوصيات في تفسير مراده، أكثر حساسية وخطورة.

وإذا رجح في ميزان العقل أن المتكلم يقصد معنى غير مألوف، وجب التفريق بين أمرين:
1- هل يقصد ذلك حقاً؟
 2- هل أن ما يقصده ممكن؟

ولا يجوز على الإطلاق صرف كلامه عما ينادي به بحجة أن هذا غير ممكن، لأن هذا يعني أننا لم نصغ إليه، ولم نخل له الساحة لبيان مراده، وإنما أقحمنا أنفسنا في موقع المتكلم، وحجبنا ما أراد قوله، ونسبنا إليه ما لا يريد، فلو قال شخص "رأيت نوراً يمشي على الأرض، هو بالتأكيد غير نور الشمس والقمر وكل مصادر النور العادية" يجب أن ينصب الجهد التفسيري لقوله على معرفة ما أراد، بقطع النظر عن الموقف من إمكانية ذلك أو عدمه، الذي يجب أن يكون موقعه لاحقاً، لا سابقاً.

أما أن نجزم بمعنى مجازي استناداً إلى أن المعنى الحقيقي "يستحيل" أن يكون هو المقصود، فإن هذا متوقف على أمرين:
1- أن تكون هذه الإستحالة يقينية، وهو يعني أنها مسلمة، متفق عليها، لتصلح للقرينية، وإلا فإن الحمل على المعنى الحقيقي يبقى وارداً إذا كان الهدف أن نعرف مراد المتكلم، لا أن نجعله يقول ما نجزم به.
2- أن لا يكون الجو العام للمتكلم جو بيان ما يتصور استحالته عادة لكنه في الواقع غير مستحيل، ويتضح ذلك بمزيد التعمق في البحث وبذل الجهد في التحقيق.

في مثل هذا الجو يصبح تصور الإستحالة الأولي في حد ذاته مؤشراً، ينبغي الوقوف عنده للتأكد: هل يصل إلى درجة كونه قرينة؟
والجو العام للنص المعصوم، من هذا القبيل، فهو بصدد تثبيت رؤية عن الله تعالى والكون والإنسان، وسائر المخلوقات، وبيان شبكة الوظائف المترتبة على ذلك، من خارج المألوف المادي.

يضيء ما تقدم بوضوح على حجم تدخل المفرِّطين بكثير من معاني النص، في حمل مصدر النص على أن يريد ما أرادوا. إنهم يقحمون أنفسهم بين الله تعالى والمعصوم من جهة وبين الناس من جهة أخرى فيقطعون طريق النص المعصوم مصرِّين أن لا ينعقد الظهور إلا بهم.

وهي نفس المهمة التي انتدب الصوفيون أنفسهم لتنفيذها بأسلحة متخلفة لا ترقى إلى أبسط أسلحة الذين وقعوا في ما وقع فيه الصوفيون، من أهل الظاهر ولو عن حسن نية.

ويتضح ذلك بكل جلاء، بالرجوع إلى بعض محاور النص المعصوم الصريحة في إرادة معنى غير المعنى المتعارف، إلا أن اللفظ يتسع له دون أية شائبة تكلف، وكيف أن المتحمسين للدفاع عن دلالة اللفظ، يتجاوزون الفهم العرفي بناءً لإسقاطات مغايرة كلياً لدلالة اللفظ، ولتكن الوقفة في المحاور التالية:

* أولاً: الحياة والموت:
يزخر النص المعصوم بالحديث عن حياة في هذه الدنيا ( للمؤمن ) وموت للكافر هما غير الحياة والموت المألوفين، ويحمل الظواهريون ذلك كله على معنى مجازي هو الإستقامة وراحة الضمير وما شابه، وجوداً وعدماً.

والواقع أن الميل إلى ذلك من حيث المبدأ، سليم المنطلق واضح الرجحان، إلا أن التأمل بتجرد في سعة دائرة استعمال هذين المصطلحين في الآيات بشكل خاص ثم في الروايات، والتأمل كذلك في كل ما دل على أن ما يراه الإنسان في الآخرة كان موجوداً معه في الدنيا حتى "حياته الطيبة" أو "الشقاء" اللذين هما تظهير لما كان موجوداً، والتأمل كذلك في مفردات العمل والجزاء، وتجسم العمل خصوصاً وكيانيته الحية كما يقدمه النص المعصوم، كل ذلك يحتم عقد العزم على مواصلة البحث، فإذا بالنتيجة واضحة لا غبار عليها(24)، تأبى الحمل على المجاز وتؤكد أن هذه الألفاظ تتكلم على نحو الحقيقة عن أمر غير مألوف يريد لنا الغيب أن نألفه، لأنه واقع موضوعي، وأشد واقعية من كثير مما نحسبه كذلك، وما هو إلا واقع لاموضوعي.

* ثانياً: النور والظلمات:
ويزخر النص المعصوم كذلك بالحديث عن نور وظلمات (هكذا
(25) ) غير ما نعرف من نور وظلام، ويصر أصحاب المنهج الأول، على حمل ذلك كله على المجاز.

وهو منحى تكثر فيه المغريات التي تبدو موضوعية للوهلة الأولى، أقلها أن الرشد في خلاف الصوفيين وفي هذا المعنى ملامح صوفية، بالإضافة إلى أهمية تقديم الخطاب الديني بما ينسجم مع سلامة الذوق.

إلا أن التدبر الموضوعي وبكل تجرد وعلى قاعدة حكومة الظاهر على الباطن، تقود الباحث المنصف إلى أن سلامة الذوق تنافي ذلك جملة وتفصيلاً، ليجزم بأن هناك نوراً وظلمة حقيقيين، هما غير ما نراه عادة بالعين المجردة من النظر بنور الله تعالى.

وما وجه الغرابة في ذلك في عصر يضج بالحديث عن أنوار لا ترى بالعين المجردة، بل هي مجرد ذبذبات وإشعاعات تنعكس في بيئة معينة لتظهر نوراً حقيقياً بكل معنى الكلمة.

وعلى أي حال فالعبرة بالدليل، وهو صريح في أن لبعض الناس نوراً ليس لغيرهم، يرون بهذا النور ما لا يراه الآخرون، وهو محيط بهم، فهم فيه مقيمون، ويكون معهم في القبر، وهو يسعى بين أيديهم، عندما يبعثون، ولكل نوره الذي يناسبه، والذي يراه جميع الخلائق، حيث قد كشف عنهم الغطاء الذي كان يحول بينهم وبين رؤيته في الدنيا رغم وجوده.

وقد تقدم تحت عنوان النص المعصوم ما ينفع في المقام.

وبديهي أن حمل ذلك كله على المجاز، يحرم من التعاطى مع وفير دلالات هذه الحقيقة، وكل أبعادها العلمية والعملية، بما في ذلك المخزون الشعوري والوجداني المتميز في حضوره التربوي، وهو بالتالي يوجه النص المعصوم غير الوجهة التي يريد هو لنا أن نسلكها، ويتنافى كذلك مع ادعائنا التزام حكومة الظاهر، خصوصاً عندما نجد نصاً جمع بين عدة ألفاظ تدل على عدة معان نتصور لولاه أن أحد هذه الألفاظ قد استعمل مجازاً في المعنى الآخر كما في النص التالي:

كتب الإمام علي عليه السلام إلى معاوية في وثيقة فكرية - سياسية نادرة:

" يا معاوية: إن القرآن حق ونور وهدى ورحمة وشفاء للمؤمنين والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى"(26)

* ثالثاً: الملائكة والشياطين:
لا يخفى على أحد أن الحديث عن الملائكة والشياطين- وإبليس بشكل خاص- يحتل حيزاً كبيراً جداً من النص المعصوم، الذي يدل بوضوح ودون أدنى تكلف على أن الملائكة، مكلفون بتدبير الأمور، وأنهم يتنزلون على نوعية خاصة من الناس، ويتنزلون في ليلة القدر، وأنهم يحضرون عند المحتضر ويتعاملون معه بمقتضى العدل، وبالتالي فالدنيا تضج بوجودهم وبأفعالهم، وفي المقابل فإن الشياطين يرصدون ويغتنمون الفرص للإنقضاض للإضلال، وهم قرناء لنوعية خاصة من الناس، وإخوان لبعضهم، يتنزلون على كل أفاك أثيم، إلى غير ذلك من الخصوصيات.

فكيف يتعامل أصحاب المنهج الأول، مع ذلك كله، مع أن اللفظ في مورده صريح الدلالة عليه ولا يتسع لغيره؟

وتظهر أهمية هذا السؤال في النصوص التي لا تكاد تحصى كثرة، حول إرشاد الملائكة للناس وفتنة الشياطين لهم، وحول الملائكة الموكلين بمهمات مختلفة ترتبط بالأشخاص أو الأعمال الخاصة، وحول حضورهم مع كل شخص بأعداد هي - على الأقل أحياناً - كبيرة جداً، مما يعطي للدنيا بأسرها صورة أخرى غير هذه الصورة الظاهرية.

وماذا يعني أن نتعامل مع ذلك كله على غير حقيقته غير أن نعجز عن الوصول إلى مقاصد النص المعصوم؟


وتنبغي الإشارة إلى أن "الظواهريين" متفاوتون جداً في التعامل مع هذا المحور بشكل خاص - ومع غيره - فهم بين منكر حتى لوجود الملائكة والشيطان، فضلاً عن الشياطين، وبين منكر لدائرة تواجدهم وفعاليتهم، وهؤلاء أيضاً متفاوتون.

وفي إطار الإسلاميين من "أهل الظاهر" يكثر رفض الروايات التي تتحدث عن العلاقة بين عمل الإنسان والحضور المباشر للملائكة أو الشياطين، والميل إلى تفسير ذلك تفسيراً مادياً، فإذا قرأ أحدهم مثلاً :

"عن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم: من استعاذ بالله في اليوم عشر مرات من الشيطان وكل الله به ملكا يرد عنه الشياطين" (27)
 فإنه يحمل ذلك على التسديد والحماية من الله تعالى وأن ذكر الملك لتقريب الصورة إلى الأفهام، فإذا عرضت له رواية ورد فيها "وكل الله به سبعين ألف ملك"
(28) أعرض عنها ونأى بجانبه وهو يرثي لحال "هؤلاء المتخلفين"!

ولست هنا بصدد إثبات هذا النص أو ذاك فآلية ذلك عبر دراسة السند واضحة، وإنما أنا بصدد بيان كيف يتم الإعراض عن مدلول اللفظ الصريح الذي لا يتسع لغيره إلا بضرب من التكلف، وهو ما يوضح أن ادعاء التزام دلالة الظاهر يرجع في الحقيقة إلى الإلتزام ببعض الظاهر.

يقول الشيخ المفيد:
"وإنما وكل الله تعالى ملائكة المسألة وملائكة العذاب والنعيم بالخلق تعبداً لهم بذلك، كما وكل الكتبة من الملائكة بحفظ أعمال الخلق وكتبها ونسخها ورفعها تعبداً لهم بذلك، وكما تعبد طائفة من الملائكة بحفظ بني آدم، وطائفة منهم بإهلاك الامم، وطائفة بحمل العرش، وطائفة بالطواف حول البيت المعمور، وطائفة بالتسبيح، وطائفة بالاستغفار للمؤمنين، وطائفة بتنعيم أهل الجنة، وطائفة بتعذيب أهل النار (والتعبد لهم) بذلك ليثيبهم عليها. ولم يتعبد الله الملائكة بذلك عبثا كما لم يتعبد البشر والجن بما تعبدهم به لعباً، بل تعبد الكل للجزاء، وما تقتضيه الحكمة من تعريفهم نفسه تعالى والتزامهم شكر النعمة عليهم. وقد كان الله تعالى قادراً على أن يفعل العذاب بمستحقه من غير واسطة، وينعم المطيع من غير واسطة، لكنه سبحانه علق ذلك على الوسائط لما ذكرناه،"
(29)

* رابعاً: الأمم:
ما المراد بلفظ الأمم في النص المعصوم؟

وما معنى قوله تعالى: "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون"؟ [الأنعام 38]

وما هو دور "الهدهد" في دخول "سبأ" في التوحيد؟

هل هي حادثة فردية في واقعة لا تتكرر؟

إذاً ما معنى "عُلِّمنا منطق الطير" وما هي دلالة إطلاق اللفظ هنا، دون أي التفاف؟

وما هي حكاية "النملة" عندما "قالت"؟

هل نلجأ إلى أن القول أعم من أن يكون باللسان "قال بيده كذا"؟ إذاً: لماذا لا نلجأ إليه في تفسير "قالت" التي وردت في الحديث عن ملكة سبأ "قالت ياأيها الملأ"؟

وما الفرق بينهما؟

إذا كان الفرق أن الإنسان يتكلم وغيره لا يتكلم، فقد أخذتم مورد النزاع قرينة على المقصود، وهو مصادرة على المطلوب!

فليحكم منصف من هو الذي يلتزم حكومة اللفظ ومن يحيد عنها؟

أو نلجأ إلى الإعجاز الذي استدعاه ظرف معين، لنفسر به ذلك؟

أم أن الصدور من قاعدة "أمم أمثالكم" يفرض مساراً آخر؟

في معرض حديثه حول قوله تعالى "يسبح له ما في السماوات والأرض" يقول الشيخ البهائي:

"هذا التسبيح إما بلسان الحال فإن كل ذرة من الموجودات تنادي بلسان حالها على وجود صانع حكيم واجب الوجود لذاته، وإما بلسان المقال وهو في ذوي العقول ظاهر، وأما غيرهم من الحيوانات فذهب فرقة عظيمة إلى أن كل طائفة منها تسبح ربها بلغتها وأصواتها كبني آدم وحملوا عليها قوله تعالى: "وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم" وأما غير الحيوانات من الجمادات فذهب جم غفير إلى أن لها تسبيحاً لسانياً أيضاً واعتضدوا بقوله سبحانه "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" وقالوا: لو أريد بها التسبيح بلسان الحال لاحتاج قوله جل شأنه: "ولكن لا تفقهون تسبيحهم" إلى تأويل، وذكروا أن الإعجاز في تسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وآله ليس من حيث نفس التسبيح بل من حيث إسماعه للصحابة، وإلا فهي في التسبيح دائما". (30)

وأنت ترى بوضوح أن الإستدلال يدور مدار اللفظ بدقة تامة.

* خامساً: العمل:
من الواضح لمن تعامل مع النص المعصوم في مجالاته المختلفة أنه يحمل رؤية متكاملة وهامة عن العمل الذي يصدر من الإنسان، تقدم الحديث عن بعض أهم ملامحها في العنوان السابق "النص المعصوم".

وتتلخص هذه الرؤية في أن العمل كائن حي "مستنسخ" من صاحبه، إلى حد أن صاحبه "يستنسخ" منه، له صورته الخاصة به وحياته المتلازمة مع حياة الروح لا الجسد، ويمكنه إذا كان صالحاً أن يهيء الأسباب لصاحبه، و"يَمْهَد" له ويدفع الأذى عنه، وإذا كان شريراً أن يتسبب له بالأذى، وإذا كان ضعيفاً أن يقف منه موقف المتفرج كأي صاحب وقرين.

وهذا الكائن الحي موجود مع صاحبه في الدنيا ملازم له ملازمة الإنسان المسؤول لفعله، وليس الأمر مجازاً أدبياً، أو خيالاً شاعرياً، بل هو حقيقة ملء إهابها الوجود النابض بالحياة الأقوى وجوداً والأشد ثراء وتدفقاً ورواءً، والتي عميت عنها البصائر، وسنكتشف يوم يكشف الغطاء أنها كانت موجودة معنا بل كنا موجودين معها. (31)

فكيف يتعامل المدافعون عن محورية الظاهر شكلاً، مع حقيقة العمل هذه التي يريد النص المعصوم تثبيتها؟

وأية مجزرة ترتكب بحق اللفظ حين نحمل ذلك كله على المجاز.

* سادساً: تعميم المعجزات في القرآن ومحاصرتها:
ثمة أمور خارقة للعادة صدرت على نحو الإعجاز من المعصومين باعتبارهم موكلين، أو أذن الله تعالى بتحققها بطريقة أخرى.

مثال الأول: حياة الطيور الأربعة بعد تقطيع أوصالها على يد نبي الله إبراهيم، أو ما أخبر الله تعالى بوقوعه على يد نبي الله عيسى، أو عصا موسى، أو شق القمر وغيره مما جرى على يد رسول الله صلى الله عليه وآله وعلى المعصومين والأنبياء جميعاً.

ومثال الثاني: الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها، قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه(32)  أو الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت وهم ألوف فأماتهم الله ثم أحياهم(33) وغير ذلك.

وثمة أمور خارقة للعادة لا بالمعنى المصطلح بل بمعنى أنها خلاف المعتاد والمألوف، وهي على قسمين: إما أنها لم تقع على سبيل الإعجاز - المنحصر بحالته - قطعاً، وإما أنها تحتمل الوجهين الإعجاز وعدمه.

مثال الأول: خروج نبي الله يونس من بطن الحوت، حيث إن قوله تعالى "وكذلك ننجي المؤمنين" يدل بصريح اللفظ على أن هذا الأمر الغريب الخارق للعادة المألوفة، يتحقق لغيره بالدعاء، وهو صريح المروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله.(34)

ومثال الثاني:

أ‌- الرزق الذي كانت تؤتاه مريم عليها السلام: "كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقاً قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب" [آل عمران 37]

ب‌- حديث الملائكة مع مريم عليها السلام، والحديث غير النداء الذي ورد ذكره في نفس السورة، كما سيأتي.

ت‌- ولادة يحيى عليه السلام مع أن أمه كانت لا تلد:

"فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين" "قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء" [آل عمران39- 40]

فكيف يتعامل "الظواهريون" مع هذه الموارد؟ وهل يلتزمون بدلالة اللفظ فيها، فيقولون في مورد "يونس" عليه السلام، إن مقتضى "وكذلك ننجي المؤمنين" إمكانية تكرر مثل ذلك لغيره؟ أم أن الموقف المسبق من "القصص العجيبة" يجعلهم يجزمون بأن الآية تتحدث عن حادثة فريدة لا تتكرر؟

وهل يقولون ذلك أيضاً في الموارد التالية، فينكرون حديث الرزق في "جفنة" كما ورد بالنسبة إلى الصديقة الكبرى عليها السلام، أو في غير جفنة، وينكرون أيضاً حديث الملائكة مع هذا وذاك، وإمكانية أن تلد العاقر، رغم أن الدليل العقلي لا يقود إلى المنع من ذلك، وبالتالي فلا يصلح "مخصصاً لبياً" لدلالة اللفظ الذي يبقى متربعاً على عرش دلالته بما لا يريده المدعون للذود عن حياض موضوعية البحث في التزام عدم تحميل اللفظ إلا ما يحتمل؟

ولتلاحظ هنا بعناية دلالة "إن الله يرزق من يشاء بغير حساب" ودلالة "إن الله يفعل ما يشاء" فهل تنسجمان مع إطلاق اللفظ أم مع حصر دلالته في زاوية مورد خاص في عمق التاريخ؟

ما يقوم به "المنهج" الظواهري، في هذا المجال هو أنه يعمم صفة "المعجز" على كل هذه الموارد وشبهها، ويحاصره في موارده وفي القرآن فقط، ليلغي - بالمآل - عنوان المعجز من السنة إلا ما كان مرتبطاً بنص قرآني؟ وهكذا يغدو ممكناً تحييد الكرامات والأمور غير المألوفة في سيرة المعصومين، أو شطبها، ويصبح الباب مفتوحاً على مصراعيه للفتك بكل من تسول له نفسه الحديث عن الكرامات في سيرة من اقتدى بهم من الأولياء والصالحين.

وقد بلغت الخسارة الناجمة عن هذا التحييد لكرامات المعصومين والمغيبات عموماً في سيرة المعصومين أو شطبها، وازدراء كرامات الصالحين، حد إقفال باب جهاد النفس عملياً، وحصر الفارق بين بناء الشخصية كما هي في الإسلام، وبين غيرها في كل ما يطفو على السطح، دون الحفر بعيداً في أعماق النفس البشرية، التي انطوى فيها العالم الأكبر.

إن سد أبواب الغيب في بناء الشخصية، لا يمكنه إلا أن ينتج بناءً مادياً للنفس، بل وهجيناً، لأنه نظرياً يؤمن بالغيب، بينما يتبرأ منه عملياً، ويحاصره في دائرة القرآن الكريم، ويلغي إمكانية استلهام شيء منه، عبر التبرؤ من إمكانية تكرره، الذي لا ينبغي لباحث موضوعي أن يفعله، ما لم يقم الدليل على عدم إمكانية ذلك، ولا دليل.

ولمزيد الإيضاح، أشير إلى محاور فرعية في هذا المجال هي كما يلي:

1- روايات استجابة دعاء المعصومين التي تُظهر كرامتهم عند الله تعالى.
2- روايات علمهم بحديث النفس وما غاب عنهم.
3- روايات علمهم بمنطق الطير وغيره.
4- روايات شفاء المرضى على أيديهم وإحياء الموتى، بإذن الله تعالى.
5- روايات سجودهم عند الولادة وثنائهم على من له الحمد والمنة والثناء، عز وجل.
6- روايات علمهم عموماً "عمود من نور يبصر به المعصوم ما أراد" بإذن الله سبحانه، أو ما يدل بوضوح على "ضغط المعلومات" وإيداعها في متناول ولي الله ليعلم منها ما أراد.
7- تصرف المعصوم فيما ابتعد عنه، بقدرة الله سبحانه.
8- روايات الثواب الكثير جداً على أعمالٍ تبدو لنا! متواضعة، لا تتناسب مع اليسير الهامشي من هذا الثواب.

ومن الواضح أن جميع هذه المحاور - وغيرها - تقوم على أسس قرآنية، لا لبس فيها على الإطلاق(35) ، إلا أن "الظواهريين" لا يسمحون لها أن تغادر القرآن الكريم البتة، لأن من شأن ذلك أن يطيح بكل طروحاتهم المادية، ويجعل دلالة الألفاظ في جميع هذه الميادين لغير مصلحتهم في فهم "الواقع الموضوعي"!

إذا دار الحديث عن مفردة من هذه المحاور وشبهها، تصدوا للتسفيه بكل ما أمكنهم، فإذا حاولت الإستدلال بكتاب الله تعالى قالوا: هذا قرآن!

أوليس القرآن كتاب القلب والحياة، وهل يتحدث عن هذه الحقائق، كأحداث لا تتكرر، ومن أين جاء قيد "ولمرة واحدة" بعد كل حالة منها؟

إنها إحدى لجج التحدي التي ينبغي على "المنهج" الظواهري أن يخوض غمارها، ولن يستطيع.

* سابعاً: عصمة الأنبياء:
من محاور حركة النص المعصوم الحديث عن الأنبياء، ومن الأسس المتفق عليها بين المسلمين، من حيث المبدأ، عصمة الأنبياء، ويكثر في النصوص الحديث عن بشرية المعصوم، وما يتفرع عليها، وهي إذ تشمل نسبة الذنب إلى المعصوم، تشمل دون شك الحديث عن فرادة المعصوم، بعناوين مختلفة من قبيل الإصطفاء والإجتباء واليقين، والهداية، والإيمان، و "المخلَصين" بفتح اللام، الذين ليس للشيطان عليهم سبيل، وغير ذلك.

وبديهي أن يتوقف الحكم النهائي في منزلة المعصوم على ملاحظة هذه الموارد جميعاً، والمحاكمة العلمية بينها، لاستخلاص النتيجة.

فكيف تعامل الظواهريون أو القشريون منهم مع هذا المحور؟

بكل بساطة، أخذوا جانب النصوص التي تتحدث عن بشرية المعصوم ومستلزماتها، ماعدا الحديث عن فرادة المعصوم، فقادهم ذلك إلى عدم القناعة بعصمة النبيين، ويصرح قسم منهم بذلك، في ما لا يجرؤ قسم آخر- علمياً أو عملياً - على المس بالثوابت، قتتقلص عنده مساحة العصمة إلى أضيق دوائرها.

وينطبق على الجميع الأخذ ببعض الظاهر ورفض البعض الآخر.

وترجع المشكلة في حقيقتها، إلى تجريد اللفظ من دلالاته بحكم المسبقات والإسقاطات، وإلا فكما أن للألفاظ التي تتحدث عن نسبة ذنب إلى معصوم، دلالتها التي يجب أن تحترم، كذلك هي الألفاظ التي تتحدث عن كونه فوق أن يذنب، وتتوقف النتيجة على الجمع بينهما.

أما لماذا جرى الحديث عن المعصوم بهذه الطريقة، فهو أيضاً بحث هام لابد من الدخول في كل تفاصيله قبل إصدار الحكم النهائي، لأن من شأنه أن يغير النتيجة جملة وتفصيلا، ويأتي مزيد إيضاح.

وأكتفي هنا بذكر مثال واحد، حول قوله تعالى:

"إنا فتحنا لك فتحاً مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر" [الفتح 2-3]

تتحدث الآية عن فتح مكة، وتنسب إلى رسول الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهل نأخذ بظاهر اللفظ ونحكم بمؤداه؟ أم أن علينا أن نتتبع سائر الموارد التي تحدث فيها القرآن الكريم عنه صلى الله عليه وآله، ليتخذ الحكم صفة الشمولية التي هي رهن سعة الإطلاع؟ وذلك ما يفرض التدقيق في المورد الذي نحن بصدده "فتح مكة" للخروج بنتيجة موضوعية لا تطمس بعض معالم الصورة لتركز على ما تَشوَّه منها باعتباره كل الصورة.

ويكفي أن نقف عند آية التطهير، ومعنى الرجس، لندرك أن "الألفاظ" هي التي تضعنا أمام واجب المزيد من التثبت العلمي، فكيف إذا استعرضنا سائر النصوص الكثيرة جداً حول سيد النبيين وخير خلق الله المخلَصين؟

ولابد أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي:

ما هي العلاقة بين فتح مكة ومغفرة الله تعالى ذنب نبيه المتقدم والمتأخر؟

وهو سؤال وجيه جداً، تقتضيه أمانة التزام دلالة اللفظ والبحث عما يتسع له وما لا يتسع.

هنا سنجد أن من لا يلتزم دلالة اللفظ هو الذي يحاول أن يحمله ما لا يحتمل، فيقول مثلاً:

إن الفتح نعمة كبرى، وخطوة متقدمة جداً في طريق نشر الدين، ولذلك منَّ الله تعالى على نبيه بالمغفرة لما مضى وما سيأتي من ذنوبه.

بينما سنجد الملتزم لأمانة دلالة اللفظ يقول – كما روي عن الإمام الرضا عليه السلام – إن الذنب المقصود هنا ذنب رسول الله من وجهة نظر أهل مكة، فلم يكن ثمة أكبر ذنباً منه عندهم، لأنه سفَّه آلهتهم، وفكك عرى نسيجهم الإجتماعي، ودخلوا بسببه في حروب طاحنة، وغير ذلك.

وقد شكل فتح مكة مفصلاً في نظرتهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، غيَّر نظرتهم إلى الماضي وسيغير نظرتهم إلى ما يأتي منه مما يعتبرونه ذنباً إلا أن للتعامل مع المنتصر شأناً آخر لا سيما إذا كان عادلاً.(36)

وهكذا نكون أمام تفسير لا علاقة له بالتصوف ولا بالقشرية، يلتزم دلالة اللفظ، ولا يمس قدسية المعصوم.

والموارد المشابهة كثيرة جداً.

ومن الأهمية بمكان أن تلحظ عملية دراسة مثل هذه النصوص أن الله تعالى لم يكن يريد لعباده أن يقعوا في تأليه الأنبياء، ولذلك فإن التركيز على بشريتهم والحديث عن "ذنوبهم" مع الحديث عن سمو مرتبتهم، يجعل النتيجة واضحة، في حين أنه يحول دون الجموح البشري إلى تأليه الزعيم، والقائد الفذ، وحتى المتمول القاروني، فكيف بمن أمده الله تعالى بقدرات إلهية.

ورغم كل هذا فإن البشر وقعوا في المحذور، الذي نزل القرآن - بعد تحقق أوضح صوره - على نبي هو سيد الأنبياء، فكان طبيعياً أن نجد من جهة "من يطع الرسول فقد أطاع الله" أو "يد الله فوق أيديهم" ومن جهة أخرى "عفا الله عنك لم أذنت لهم" أو: "ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل، لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين".

يقول السيد الطباطبائي:

"ظاهر الكلام، لا يُقتصر في تشخيصه على الفهم العامي المتعلق بنفس الجملة المبحوث عنها بل للقرائن المقاميه والكلامية المتصلة والمنفصلة - كالآية المتعرضة لمعنى آية أخرى - تأثير قاطع في الظواهر، وخاصة في الكلام الإلهى الذي ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، ويصدق بعضه بعضاً. والغفلة عن هذه النكتة هي التى أشاعت بين عدة من المفسرين وأهل الكلام إبداع التأويل بمعنى صرف الكلام إلى ما يخالف ظاهره، وارتكابه في الايات المخالفة لمذهبهم الخاص على زعمهم، فتراهم يقطِّعون القرآن قِطعا ثم يحملون كل قطعة منها على ما يفهمه العامي السوقي من كلام سوقي مثله، فإذا سمعوه تعالى" "يقول: ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فهموا منه أنه صلى الله عليه وآله وسلم أذنب فغفر الله له كما يذنب الواحد منا بمخالفة أمر أو نهي مولوي من الله تنعقد بهما مسألة فرعية فقهية. ولم يهدهم التدبر حتى بمقدار أن يرجعوا إلى سابقة الاية: "إنا فتحنا لك فتحا مبينا" حتى ينجلى لهم أن هذا الذنب والمغفرة المتعلقة به لو كانا كالذنوب التي لنا والمغفرة التى تتعلق بها لم يكن وجه لتعليق المغفرة على فتح مكة تعليق الغاية على ذى الغاية وكذا لم يكن وجه لعطف ما عطف عليه أعنى قوله: "ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرًا عزيزا" [الفتح: 3]"

ويضيف حول ما يُظن أنه ينافي عصمة الأنبياء:

"ولو أنهم تفطنوا قليلا وتدبروا في أطراف الآيات المتعرضة لأمر الذنب والمعصية بالمعنى المصطلح عليه، وهي مخالفة الأمر والنهى المولويين، تنبهوا إلى أن من المغفرة ما هو فوق المغفرة المعروفة. فإن الله سبحانه يكرر في كلامه أن له عباداً يسميهم بالمخلَصين مصونين عن المعصية لا مطمع فيهم للشيطان، فلا ذنب - بالمعنى المعروف - لهم ولا حاجة إلى المغفرة المتعلقة بذلك الذنب،."(37)

إلا أن "الظواهريين" لم يتمكنوا من التوازن بين مقتضيات كل من الظاهر والباطن، فلا يولون التدبر ما يستحق.

ويلخص الإمام الخميني الموازنة بين الظاهر والباطن بقوله:

أ- "الظاهر المطعون هو الظاهر المنفصل عن الباطن والصورة المنعزلة عن المعنى، فانّه ليس بكتاب ولا قرآن. وأما الصورة المربوطة بالمعنى، و العلن الموصول بالسرّ فهو المتبع على لسان اللّه ورسوله وأوليائه عليهم السلام، كيف وعلم ظواهر الكتاب والسنة من أجلِّ العلوم قدراً و أرفعها منزلة، وهو أساس الأعمال الظاهرية والتكاليف الإلهية والنواميس الشرعية والشرايع الإلهية والحكمة العمليّة التي هي الطريق المستقيم إلى الأسرار الربوبيّة والأنوار الغيبية والتجلّيات الإلهية، ولولا الظاهر لما وصل سالك إلى كماله ولا مجاهد الى مآله. فالعارف الكامل من حفظ المراتب وأعطى كل ذي حق حقه "..." فإن الظاهر بلا باطن والصورة بلا معنى كالجسد بلا روح والدنيا بلا آخرة، كما أنّ الباطن لا يمكن تحصيله إلاّ عن طريق الظاهر، فإن الدنيا مزرعة الآخرة. فمن تمسك بالظاهر ووقف على بابه قصر وعطل، وترده الآيات والروايات المتكاثرة الدالة على مدح التدبّر في آيات اللّه والتفكر في كتبه وكلماته والتعريض بالمعرض عنهما والإعتراض على الواقف على قشرهما". (38)

ب- "ولا تتوهمنّ أن الكتاب السماوي والقرآن النازل الربّاني لا يكون إلاّ هذا القشر والصورة، فإن الوقوف على الصورة والعكوف على عالم الظاهر وعدم التجاوز إلى اللّب والباطن اخترام وهلاك وأصل أصول الجهالات وأُسّ أساس إنكار النبوات والولايات". (39)

***

وبالتأمل في قوة حضور المحاور المتقدمة في النص المعصوم وسعة دائرتها يتضح مدى الخلل الذي يضرب محاولة مقاربته بهذا "المنهج الصوفي الحديث" الذي انطلق في البداية من استغراب موضوعي للخرقة الصوفية، ثم آل أمره إلى حيث أنه يركم في اللفظ – أحياناً - ما لذَّ له وطاب، وما يحتمله المزاج، لا ما يحتمله اللفظ.

والمفارقة الأبرز التي تستوقفك في الإتجاه الذي يحارب كل من أراد التعمق في المعنى ويرميه بالتصوف أن بعض تطبيقاته تتوسع كثيراً في فهم النصوص غير الدينية، كشعر امرؤ القيس مثلاً، فإذا دار الحديث حول النص الديني فإنها تتراجع – غالباً - إلى أضيق الدوائر، بينما تجدها أحياناً تعتمد قاعدة أن النص المعصوم حمَّال وجوه!

وإذا تأملت بدقة أكثر وجدت أن بعض النصوص الدينية تحظى أحيانا في بعض التطبيقات الأخرى بصوفية من الطراز الأول، حيث تحمِّل اللفظ ما هو أبعد عن طبيعته بكثير، مما يحاول الصوفي تكلفه.

وتمعن النظر بموضوعية لمعرفة السبب فتجد أن منسوب غزارة الظاهر يرتفع كلما كان محور الحديث مادياً، يحظى بعناية خاصة من الراهن الثقافي، بينما يتراجع هذا المنسوب بحدة حتى ليكاد أن يغور، كلما كان المحور روحياً أو غيبياً.

إذا دار الحديث عن كرامة الإنسان في الإسلام، فلا ينتهي بك الشوط إلا وأنت على الشاطئ الآخر لأصالة الإنسان، كما هو السائد.

أما إذا دار الحديث عن عظمة المعصوم، فإن المدى يضيق ويتقلص، حتى لا تدري - إذا كان الأمر كذلك - لم اختار الله هذا نبياً؟ أو تتصور أن باستطاعة أي كان إذاً أن يكون نبياً!

وإذا دار الحديث عن الحرية، يخيل إليك أن الله تعالى جعل الإنسان إلهاً!

ولابد من التأكيد على أن المتأمل في الأنماط المنهجية عبر التاريخ يجد أن هذه المشكلة مزمنة بدأت حين مال المتصوفة والمتأولون إلى الإيغال في تحميل اللفظ ما لا يحتمل، فتصدى لهم الفريق الآخر مستنداً إلى مبدأ قوي الحجة واضح البرهان لا يمكن تجاوزه هو الأصل المشار إليه "محورية اللفظ" إلا أن عوامل مختلفة تلازمت مع مسار هذه المواجهة، كان لها في النتيجة بالغ الأثر في خروج الكثيرين من المستندين إلى هذا المبدأ على مقتضياته، كما كان لها الأثر المضاد في حمل المتأولين على المزيد من "الشطح" والإختراع.

إن لمدينة المعنى أسوارها والمداخل، وطرقها والمخارج، وكما هو الدخول إليها متاح، فإن من الممكن التجول في بعض أزقتها، أو الإطلالة عليها من الخارج، ليكون الإنطباع عنها بحسب موقع المطل وزاويته، وإذا كنا لا نرضى لغير من يتذوق الشعر بجدارة أن يقيِّم شعر المتنبي، فلنعترف للنص المعصوم بأنه لا يفتح أبوابه إلا لمن تزكى، وعلامة ذلك الإيمان بالغيب كواقع موضوعي بل أنه "الواقع الموضوعي" الذي لا تعمر الحياة الدنيا إلا حين تأخذ موقعها الطبيعي منه.

حقاً، ما معنى قوله تعالى: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"؟

ما هي دلالة الظاهر هنا بصرف النظرعن الشطح وعن الظواهرية؟

ألا يدل بوضوح على أن المنهج الذي يدعونا إليه ربنا عز وجل هو منهج "يزكيهم ويعلمهم" "واتقوا الله ويعلمكم اله"؟ وهل أولينا المحطات المنهجية في القرآن الكريم ما تستحقه من العناية والإهتمام؟

والباطن

هذا الظاهر المحور الذي لا يمكن قبول معنى لا يرى العرف أنه يحتمله، ليس قاصراً ولا ضيق الصدر حرجاً، ويمكن له بالتالي أن يحمل الكثير الكثير من المعاني.

يكمن خطأ المتصوفة في أنهم حملوه ما لا يخطر ببال العرف والذوق السليم.

ويكمن خطأ "أهل الظاهر" في أنهم يصرون على تسطيحه وجعله قشراً ضيق الأفق والمدى.

وعندما نرجع إلى العرف المتسم بسلامة الذوق والسليقة نستفتيه في ما يمكن للفظ أن يحمله من المعاني، نجده صريح اللهجة واثق الخطى قوي الحجة في أن الأمر يتوقف على طبيعة معرفة المتكلم باللغة وطبيعة المعاني التي يريد تحميلها للفظ ومدى قدرته على أن يبدع في صياغتها ويجيد تسويقها، وكلما كانت قدرته على تقديم كثير المعنى في القليل من اللفظ أكثر كلما أمكنه أن يحمل اللفظ ما لا يستطيع غيره أن يفعله.

إن الأمر هو ما يشبهه ضغط المعلومات في المعلوماتية اليوم، ولا ضغط.

وبديهي أن ذلك يتوقف على مدى الإحاطة العلمية للمتكلم، لأن من الواضحات أن موجزاً من القول من شخص يغني عن كتاب من آخر يجهد نفسه في عرض فكرة لا يكاد يراها إلا من بعيد وملؤها القلق والإهتزاز.

والعرف شاهد بأن لفظ الشاعر والخطيب يختلف عن لفظ القانوني، ففي حين أنك قد لا تجد في رزمة من ألفاظ الشاعر والخطيب – عادة - إلا اليسير من المعنى، يتخذ نص القانوني منحى آخر فتصبح دلالة "يسمح لعدد" غير دلالة "يسمح للعدد" ودلالة "البؤس" غير دلالة "الفقر" وهكذا.

بناءً على ما تقدم فإن الحديث عن النص المعصوم من حيث غزارةُ المعنى وشفافية الإشارة وبديع الترابط يختلف جذرياً عن أي حديث غيره.

هكذا يمكننا أن نقترب - على بعد - من وصف النص القرآني بأنه "حَمَّالٌ ذو وجوه" (40) أو أن له ظهراً وبطناً وأن البطون أو الأحرف والحدود والمطالع السبعة أو السبعين ليست بصدد الحصر بل هي في مقام توكيد تعدد المعاني وتكثرها.

ويكتسب هذا البحث أهميته بقطع النظر عن الموقف من جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وبقطع النظر أيضاً عن "التأويل".

سنجد أن من يقولون باستحالة استعمال اللفظ في أكثر من معنى، ومن يخالفونهم يبحثون هذه النصوص ويحاولون تقديم تفسير واضح لها.

وسنجد أن "التأويل" بحث قائم بذاته، لا يتوقف على الموقف من "الباطن" وعمقه وتعدد المعاني، وإن كان هذا الأخير يثريه إلى أبعد الحدود.

وتمس الحاجة إلى البحث في "باطن" النص المعصوم غير الباطني بالمعنى السلبي المسوَّق، وإنما العلمي العرفي بمعنى أنه لا يفرض على الظاهر فرضاً بالتكلف والتمحل، حتى لا تحجب بعيد مراميه سحب الغارة على التعمق في المعنى، فتهمة "التصوف" جاهزة سلفاً لكل من نحسبه قد غادر رمال الشاطيء.

بين القشرية والتزام الظاهر بون شاسع، يتم طيه كله ليصبح الحديث أمام خيارين لا ثالث لهما، في تجاوزغير مبرر لإمكانية التعمق العرفي في المعنى، ويصبح هذا التجاوز محيراً في "موضوعيته" عندما يتضح أنه خاص بالنص الديني. (41)

وسنرى بوضوح أن التأكيد على المعاني المتعددة التي يحملها النص الديني، ليس من نتاج الإتجاه الباطني كما يدل بوضوح الشاهد التالي:

"وقد دخل الإتجاه الباطني على التفسير وركز على أن للقرآن بطوناً قد تصل إلى السبعين، واختصرها بعضهم في سبعة، ما جعل المعنى القرآني يغرق في معان ٍباطنية لا علاقة للفظ بها، بحيث لا نشعر بوجود أية علاقة بين اللفظ وبين المعنى الذي يستبطنه القرآن كما يعتقد أصحاب هذا الإتجاه". (42)

فهل الأمر كذلك أم أن المعصوم نفسه هو الذي تحدث عن البطون السبعة أو السبعين؟

يمكن تلخيص ما توصلت إليها أبحاث فريق من كبارالمختصين بالنص المعصوم - وهي تكشف عن التوجه العام للمعنيين بهذا الشأن عبر القرون- بالنتائج التالية:

1- أن المعصوم قد تحدث بصيغ مختلفة عن تعدد المعاني في النص القرآني.
2- أن المسلمين جميعاً يلتقون على رواية ذلك، وإذا كان الغالب في المصادر الشيعية التعبير بالبطون السبعة أو السبعين، فإن الغالب في المصادر السنية التعبير بالأحرف السبعة، إلا أن لأغلب هذه الروايات إن لم يكن جميعها تتمة هي "لكل حرف منها ظهر وبطن" أو "لكل آية ظهر وبطن" أو "حد ومطلع" كما سيأتي.
3- بالإضافة إلى إيرادها في المجاميع، فقد تعامل العلماء عبر الأدوار المختلفة، مع هذه الروايات باعتبارها تتحدث عن حقيقة متسالم عليها، وفي حين يكشف عن ذلك نمط تعامل فريق منهم، يصرح الآخرون بتواتر هذه الروايات معنى، وينهي طرق بعضها إلى واحدٍ وعشرين طريقاً، وثمة من ألف في ذلك كتاباً مستقلاً.
(43)
4- أن تعدد المعاني، والبطون السبعين، لا ينافي التزام الظاهر وحكومته ومحوريته.

* حول الأول والثاني:
1- يقول السيد الطباطبائي:

أ‌- نعم قد وردت روايات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأئمه أهل البيت عليهم السلام كقولهم: إن للقرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطناً إلى سبعة أبطن أو إلى سبعين بطناً، الحديث.(44)

ب‌- "وفي تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الرواية: ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن - وما فيه حرف إلا وله حد ولكل حد مطلع. (ما) يعني بقوله ظهر وبطن؟ قال: ظهره تنزيله وبطنه تأويله. منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد. يجري كما يجري الشمس والقمر. كلما جاء منه شيء وقع. قال الله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم. نحن نعلمه.

أقول الرواية المنقولة في ضمن الرواية هي ما روته الجماعة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بألفاظ مختلفة وإن كان المعنى واحداً كما في تفسير الصافي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً، وفيه عنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: إن للقرآن ظهراً وبطناً ولبطنه بطناً إلى سبعة أبطن". (45)

ت‌- "وفي تفسير العياشي عن جابر قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن شئ من تفسير القرآن، فأجابني ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت جعلت فداك، كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم. فقال يا جابر إن للقرآن بطناً وللبطن بطن، وظهراً وللظهر ظهر. يا جابر وليس شئ أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية تكون أولها في شيء، وأوسطها في شئ وآخرها في شيء، وهو كلام متصل ينصرف على وجوه ".." وفي تفسير الصافي عن علي عليه السلام: ما من آية إلا ولها أربعة معان: ظاهر وباطن وحد ومطلع. فالظاهر التلاوة والباطن الفهم، والحد هو أحكام الحلال والحرام، والمطلع هو مراد الله من العبد بها". (46)

ث‌- "وفي الحديث المروي من طرق الفريقين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنزل القرآن على سبعة أحرف. أقول والحديث وإن كان مروياً باختلافٍ ما في لفظه لكن معناه مروي مستفيضاً والروايات متقاربة معنى روتها العامة والخاصة وقد اختلف في معنى الحديث اختلافاً شديداً ربما أنهي إلى أربعين قولا". (47)

2- ويقول الهيثمي:
"عن رسول الله صلى الله عليه وأله أنه قال أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منها ظهر وبطن
".." رواه البزار وأبو يعلى في الكبير وفي رواية عنده: لكل حرف منها بطن وظهر، والطبراني في الأوسط باختصار آخره ورجال أحدهما ثقاة ".
(48)

3- ويقول المناوي:

"عن ابن مسعود قال: كنت عند النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم فسئل عن علي كرم الله وجهه فقال: قسمت الحكمة عشرة أجزاء فأعطي علي تسعة أجزاء والناس جزءً واحداً. وعنه أيضاً أنزل القرآن على سبعة أحرف ما منها حرف إلا وله بطن وظهر وأما علي فعنده منه علم الظاهر والباطن ".(49)

4- جاء في "نظم المتناثر من الحديث المتواتر" ما يلي:

"وقال في شرح التقريب عقب نقل كلام ابن حجر أيضاً ما نصه: قلت قد ألفت في هذا النوع كتاباً لم أسبق إلى مثله سميته الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة مرتباً على الأبواب أوردت فيه كل حديث بأسانيد من خرجه وطرقه، ثم لخصته في جزء لطيف سميته قطف الأزهار اقتصرت فيه على عزو كل طريق لمن أخرجها من الأئمة وأوردت فيه أحاديث كثيرة منها (إلى أن يقول:) "وحديث نزل القرآن على سبعة أحرف من رواية سبع وعشرين".(50)

* وحول الثالث:
1- قال الشيخ الآخوند الخراساني، في أخر مبحث استعمال اللفظ في أكثر من معنى:

"لعلك تتوهم أن الاخبار الدالة على أن للقرآن بطوناً - سبعة أو سبعين- تدل على وقوع استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، فضلا عن جوازه، ولكنك غفلت عن أنه لا دلالة لها أصلاً على أن إرادتها كانت من باب إرادة المعنى من اللفظ، فلعلها كانت بإرادتها في أنفسها حال الإستعمال في المعنى، لا من اللفظ، كما إذا استعمل فيها، أو كان المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ، وإن كانـ(ت) أفهامنا قاصرة عن إدراكها".(51)

ومحل الشاهد فعلاً هو حديث العلماء عن روايات تعدد المعاني ومنها روايات البطون السبعين حديث الأمر المتسالم عليه، ومن عرف محورية متن الكفاية في حركة التأليف في علم الأصول، وفي الأبحاث العالية، ولاحظ نماذج من أقوال العلماء في شرح هذه العبائر، عرف مدى تسالم العلماء على هذا المضمون من مضامين النص المعصوم.

2- وقال الإمام الخميني:
"فتلخص أنه لا مانع من استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد عقلاً، وأما المنع من جهة القواعد الأدبية أو من جهة اشتراط الواضع فضعيف جداً لا ينبغى البحث عنه وأما ما ورد من أن للقرآن سبعين بطناً فمن غوامض الكلام لا يقف على مغزاه الا الخائض في لجج العلم وبحار المعارف فليطلب (من) مواضعه، وعلى كل حال لا يرتبط بالمقام".
(52)

3- يستعرض السيد الروحاني رأي صاحب الكفاية، ورأي أستاذه السيد الخوئي، ثم يذكر ما اختاره في ذلك فيقول:

"ورد في الحديث: "أن للقرآن سبعة بطون أو سبعين بطنا". فقد يتوهم منافاة ذلك لما قرر من امتناع استعمال اللفظ في أكثر من معنى، إذ ظاهره أن المعاني المقصودة من الألفاظ القرآنية بهذا العدد، وهو لا يجتمع مع الإلتزام بمحالية ارادة المعاني المتعددة من اللفظ الواحد، لأنه يدل على وقوعه فضلا عن جوازه. وقد دفع صاحب الكفاية (رحمه الله) هذا الوهم بعدم دلالة الحديث عن كون قصد هذه المعاني من باب قصد المعنى من اللفظ، بل يحتمل فيه أحد وجهين:

الأول: أن يراد منه إرادة هذه المعاني في أنفسها حال الإستعمال في المعنى الواحد، لا أنها مرادة من اللفظ.
الثاني: أن يكون المراد من البطون لوازم معناه المستعمل فيه اللفظ وإن كانت تلك اللوازم المتعددة خفية بحيث لا تصل إليها أذهاننا لقصورها.

وقد رجح السيد الخوئي - كما جاء في تقريرات بحثه - الإحتمال الثاني ونفى الأول بوجهين:

الأول: أن إرادة المعاني في أنفسها لا توجب عظمة القرآن وعلو منزلته، إذ يمكن ذلك في غير الاستعمالات القرآنية من الاستعمالات العرفية، بل يمكن ذلك في مورد الكلام بالألفاظ المهملة، إذ يمكن ان ترد على الذهن في حال التكلم معان كثيرة.

الثاني: أنه يلزم أن لا تكون هذه المعاني بطوناً للقرآن، إذ هي بذلك تكون أجنبية عنه. وهذان الأمران يخالفان مقتضى الروايات الواردة في مقام بيان عظمة القرآن بذلك، وأن هذه المعاني معاني القرآن وبطونه لا أنها أجنبية عنه.

ثم ذكر بعض الروايات الناطقة بذلك، وبعد ذلك رجح الثاني وادعى ظهور الروايات الكثيرة فيه".

أضاف السيد الروحاني:

"ونحن إن لاحظنا أصل المطلب من وجود البطون للقرآن وأغمضنا النظر عن ما (يكتنف) المطلب من نصوص، فان التحقيق في نحو دلالتها يحتاج الى بحث مفصل طويل، نرى أن الكفة الراجحة في جانب الإحتمال الأول لا الثاني، إذ لا عظمة للقرآن بوجود لوازم لمعناه المقصود خفية عن أذهان الناس لا تصل إليها عقولهم وإدراكاتهم، فإنه لا يتصف بذلك بالعظمة وشرف المنزلة كما لا يخفى.

" أما كون الجمل القرآنية قابلة في نفسها للتطبيق على معان متعددة مرادة في نفسها ودالة في حد ذاتها على عدد كبير من المعاني وإن اريد منها معنى واحد لا الجميع، بحيث يمكن للفكر الدقيق الثاقب أن يصل الى بعض تلك المعاني بالتأمل والتعمق في آيات الكتاب، فهو من عظمة القرآن والتركيب الكلامي لجمله، إذ قل من الجمل العرفية ما يمكن تطبيقه على متعدد من المعاني، فإيراد تركيبٍ قابلٍ للتطبيق على عدد كبير من المعاني، وفرض ورود تلك المعاني في نفس المتكلم والتفاته إليها، وتحريه في إيراد ما يمكن تطبيقه عليها من التراكيب الكلامية، دليل على عظمة ذلك المتكلم وسعة أفق تفكيره في الإطلاع على دقائق الألفاظ ومعانيها.

وقد يضرب تقريباً لذلك بعض الأمثلة العرفية، ولا أظنني بعد هذا البيان بحاجة الى ذكرها فتدبر". (53)

* وحول الرابع:
يؤكد العلماء – كما اتضح مما تقدم – أن تعدد المعاني في النص القرآني لا علاقة له بمبحث استعمال اللفظ في أكثر من معنى، وتتفق كلمتهم على إمكان الأول ووقوعه، رغم اختلافهم في الثاني، وهذه نقطة هامة في التعرف على أن تعدد المعاني عندهم لا يمس أصالة اللفظ ومحوريته، وإلا لكان من يرى استحالة اللفظ في أكثر من معنى يشدد النكير على من يتحدث عن جواز استعماله في ما يزيد على ذلك كثيراً.

وفي كلام السيد الروحاني حول ما اختاره في المسألة، وفي ما نقله عن السيد الخوئي، وفي الإحتمال الثاني الذي رجحه صاحب الكفاية - وهو ما اختاره السيد الخوئي- ما يوضح أن هذه المعاني المتعددة ترجع في الحقيقة إلى معنى واحد هو المراد من اللفظ ومن خلاله يتم الإنتقال العلمي بالتنبه والتدقيق مع رعاية الفهم العرفي إلى المعاني الأخرى.

وسواءاً أخذنا بأن الأمر من قبيل اللوازم المرادة والخفية - بشرط أن يكون الوصول إليها كلياً أو جزئياً متاحاً- أو بما تبناه السيد الروحاني وهو يبتعد عن اللوازم إلى أدنى حدود الترابط وأشدها شفافية من خلال دلالة اللفظ، فإن النتيجة واحدة في إمكان تعدد المعاني ووقوعه، وإن كانت مختلفة جداً من حيث قوة حضور الفهم العرفي والعملي في الثاني، وضعفه في الأول.

وفي هذا السياق يقول السيد الطباطبائي:

"إن اشتمال الآيات القرآنية على معانٍ مترتبة بعضها فوق بعض وبعضها تحت بعض مما لا ينكره إلا من حرم نعمة التدبر، إلا أنها جميعاً وخاصة لو قلنا أنها لوازم المعنى مداليل لفظية مختلفة من حيث (إمكانية الفهم) وذكاء السامع المتدبر وبلادته". (54)

".. ان للقرآن مراتب مختلفة من المعنى مترتبة طولاً من غير أن يكون الجميع في عرض واحد فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد أو (من غير أن يكون ذلك) مثل عموم المجاز ولا هي من قبيل اللوازم المتعددة لملزوم واحد بل هي معان مطابقية يدل على كل واحد منها اللفظ بالمطابقة بحسب مراتب الأفهام ". (55)

والخلاصة أن النتيجة التي يتوصل إليها الحديث عن الباطن العلمي والعرفي في آن، كما يلي:

أولاً: إن كلام الخالق غير كلام المخلوقين - والنص المعصوم عموماً هو بوجهٍ كلامه - وفي حين تكبر اللغة ويصغر أمام دلالاتها فعل الإنسان ليصبح الطابع العام لحديثه بها مجازياً حتى في ما نتصوره حقيقياً كالملكية والفعل والعلم وغيرها، تتضاءل قدرة اللغة أمام المعاني التي يمكن أن يودعها الخالق في الألفاظ، وبديهي أن يزداد توقع خصوبة المعنى بحسب موقع المتكلم ومدى نفوذ سلطته، فدلالة "أمرت" من الحاكم غير دلالتها من المحكوم، ومن الطبيعي أن يدخل في نطاق دلالة هذا اللفظ من الحاكم كل ما ينسجم مع طبيعة الأمر الصادر عنه، ومراعاة أحوال المخاطبين، والمستجدات، ويرجع ذلك كله إلى ملاحظة طبيعة المتكلم وموقعه، التي تقتضي أن يكون أدخل ذلك في حسابه، وهو يعني أن اللفظ كان يعنيه بلا أدنى تكلف.

ثانياً: أن المعاني التي يحملها النص القرآني والنص المعصوم عموماً هي خارج سربنا المادي الذي ألفناه ودأبنا على قياس الأمور والحقائق به، وطبيعي أن يصبح الجو الذي يعيشه المتعامل مع اللفظ حاكماً على مدى دلالة اللفظ، فمفردة الروح عند ابن سينا تحمل من المعاني ما لا تحمله عندما تصدر من إنسان آخر، ولا شك أن انفتاح العقل على عالم الغيب يحرره من أسر العادة والمألوف، ويفتح أمامه آفاقاً جديدة رحبة لا تخرج عن دلالة اللفظ أبداً، ومنه يتضح أننا أمام طريقتين في التعامل مع النص المعصوم، إحداهما تجرده عادة من بعده الغيبي، بوهم اقتضاء دلالة اللفظ لذلك، والثانية تتعامل معه كما هو وتراعي "التخصصية" التي هي أبسط مستلزمات الفهم العرفي.

إننا نفهم عادة من قوله تعالى: "ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس" الطيف المادي من ذلك، في حين أن الفساد يشمل هنا تأثير المعاصي على البيئة المادية وعلى بيئة العقل والنفس بما هو أبعد بكثير مما يقف عنده الباحث الإجتماعي، وعلى الأسباب التي أبى الله أن يجري الأمور إلا بها، فيقع الربط تلقائياً مثلاً بين الفساد وعدم نزول المطر، أو تراجع المنسوب، وغير ذلك.

ثالثاً: إن علم الله تعالى بحقائق الأمور وترابطها - وهو بعد آخر غير الإنفتاح على الغيب، المتقدم - وعلمه بترابط المعاني والإشارات التي يحملها كل لفظ والتي يحملها اقتران لفظ بلفظ وعبارة بعبارة، وما سيجري على اللغة مما اصطلح عليه بفقه اللغة، يجب أن يكون الأصل الذي يمسك بناصية استنطاق دلالة اللفظ في النص المعصوم، فإن هذه الخصائص التي ترجع جميعاً إلى علمه سبحانه، تمكن من تقديم كمٍّ هائل من المعاني يحتملها اللفظ ولا تغادر الفهم العرفي.

إن دلالة لفظ "الماء" مثلاً منه سبحانه تأبى أن تقتصر دلالتها على ما تدل عليه عادة، وتلح على أن يفهم منها اختزانها لكل ما يتفرع على الماء خاصة عندما يكون السياق سياق: "وأنزلنا من السماء ماءاً بقدر فأسكناه في الارض وإنا على ذهابٍ به لقادرون" [المؤمنون 18]
أو سياق:

"أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والارض كانتا رتقاً ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون" [الأنبياء 30]

رابعاً: إن دلالة اللفظ العرفية غير قاصرة بل هي شديدة الإتساع إلى حد أن المعنى القشري للفظ شديد الخصوبة في حد ذاته وإن كان بالنسبة إلى البطون السبعة أو السبعين ضحلاً بل في غاية الضحالة، وهي جميعاً تنطوي تحت دلالة اللفظ الواسعة أصلاً التي تعطي من نفسها بمقدار ما يمكن للمتكلم أن يطوعها، وذلك رهن علم المتكلم، كما أن الثقة بعلمه و بحكمته تحدد مدى الإصغاء لنصه والبحث في مكنونه.

وتجدرالوقفة في هذا السياق عند "التأويل" باعتبار أن بلورة المراد بتعدد المعاني، يطل عليه ويصوب أيضاً مسار البحث فيه، فيؤكد أن المراد به إرجاع المعنى إلى حقيقته، ليخرج "التأويل" من أنفاق الأوهام الباطنية التي جعلها تنكُّب معناه الحقيقي ملازمة له.

في معرض نفي السيد الخوئي للمعنى الشائع للتنزيل والتأويل يقول:

"هذه الشبهة مبتنية على أن يراد من لفظي التأويل والتنزيل ما اصطلح عليه المتأخرون من إطلاق لفظ التنزيل على ما نزل قرآنا، وإطلاق لفظ التأويل على بيان المراد من اللفظ، حملاً له على خلاف ظاهره، إلا أن هذين الاطلاقين من الاصطلاحات المحدثة، وليس لهما في اللغة عين ولا أثر ليحمل عليهما هذان اللفظان "التنزيل والتأويل" متى وردا في الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام.

" وإنما التأويل في اللغة مصدر مزيد فيه، وأصله "الأوْل، بمعنى الرجوع". ومنه قولهم: "أوْل الحكم إلى أهله أي رده إليهم.

" وقد يستعمل التأويل ويراد منه العاقبة، وما يؤول إليه الأمر.

" وعلى ذلك جرت الآيات الكريمة:

" ويعلمك من تأويل الأحاديث 12: 6. نبئنا بتأويله: 36. هذا تأويل رؤياي:100. ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا 18: 82 ".
 وغير ذلك من موارد استعمال هذا اللفظ في القرآن الكريم.

" وعلى ذلك فالمراد بتأويل القرآن ما يرجع إليه الكلام، وما هو عاقبته، سواءً أكان ذلك ظاهراً يفهمه العارف باللغة العربية، أم كان خفياً لا يعرفه إلا الراسخون في العلم".(56)

ويقول السيد الطباطبائي:

"وقالت طائفة أخرى إن المراد بالتأويل هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ، وقد شاع هذا المعنى بحيث عاد اللفظ حقيقه ثانية فيه بعد ما كان بحسب اللفظ لمعنى مطلق الإرجاع أو المرجع.

" وكيف كان فهذا المعنى هو الشائع عند المتأخرين. "وذهبت طائفة أخرى إلى أن التأويل معنىً من معاني الآية لا يعلمه إلا الله تعالى أو لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم مع عدم كونه خلاف ظاهر اللفظ ".."وقد اختلفت أنظارهم في كيفية ارتباط هذه المعاني باللفظ فإن من المتيقن أنها من حيث كونها مرادة من اللفظ ليست في عرض واحد وإلا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد وهو غير جائز على ما بين في محله، فهي لا محالة معانٍ مترتبة في الطول فقيل إنها لوازم معنى اللفظ إلا أنها لوازم مترتبة بحيث يكون للفظ معني مطابقي وله لازم وللازمه لازم وهكذا.

" وقيل إنها معانٍ، مترتبة بعضها على بعض ترتب الباطن على ظاهره، فإرادة المعنى المعهود المألوف إرادة لمعنى اللفظ وإرادة لباطنه بعين إرادته نفسه كما أنك إذا قلت اسقني فلا تطلب بذاك إلا السقي وهو بعينه طلب للإرواء، وطلب لرفع الحاجة الوجودية، وطلب للكمال الوجودي، وليس هناك أربعة أوامر ومطالب، بل الطلب الواحد المتعلق بالسقي متعلق بعينه بهذه الأمور التى بعضها في باطن بعض والسقي مرتبط بها ومعتمد عليها..".

أضاف مبيناً أقرب الآراء إلى ما يختار:

"وها هنا قول رابع وهو أن التأويل ليس من قبيل المعاني المرادة باللفظ، بل هو الأمر العيني الذي يعتمد عليه الكلام فإن كان الكلام حكماً إنشائياً كالأمر والنهي، فتأويله المصلحة التي توجب إنشاء الحكم وجعله وتشريعه، فتأويل قوله أقيموا الصلاة مثلاً هو الحالة النورانية الخارجية التي تقوم بنفس المصلي في الخارج فتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وإن كان الكلام خبرياً: فإن كان إخباراً عن الحوادث الماضية كان تأويله نفس الحادثة الواقعة في ظرف الماضي كالآيات المشتملة على أخبار الانبياء والأمم الماضية فتأويلها نفس القضايا الواقعة في الماضي، وإن كان إخباراً عن الحوادث والأمور الحالية والمستقبلة فهو على قسمين:

فإما أن يكون المخبر به من الأمور التي تناله الحواس أو تدركه العقول (فيكون) أيضا تأويله ما هو في الخارج من القضية الواقعة كقوله تعالى "وفيكم سماعون لهم" [التوبة 47] وقوله تعالى " غُلبت الروم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين" [الروم 4]

" وإن كان من الأمور المستقبلة الغيبية التي لا تنالها حواسنا الدنيوية ولا تدرك حقيقتها عقولنا كالأمور المرتبطة بيوم القيامة ووقت الساعة وحشر الأموات والجمع والسؤال والحساب وتطاير الكتب، أو كان مما هو خارج عن سنخ الزمان وإدراك العقول كحقيقة صفاته وأفعاله تعالى، فتأويلها أيضاً نفس حقائقها الخارجية.

" والفرق بين هذا القسم أعني الآيات المبينة لحال صفات الله تعالى وأفعاله وما يلحق بها من أحوال يوم القيامة ونحوها وبين الأقسام الأخر أن الأقسام الأخر يمكن حصول العلم بتأويلها بخلاف هذا القسم فإنه لا يعلم حقيقة تأويله إلا الله تعالى، نعم يمكن أن يناله الراسخون في العلم بتعليم الله تعالى بعض النيل على قدر ما تسعه عقولهم.

" وأما حقيقة الأمر الذي هو حق التأويل فهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه. فهذا هو الذي يتحصل من مذاهبهم في معنى التأويل وهي أربعة".(57)

ثم يبين رأيه في معنى "التأويل" فيقول:

"الحق في تفسير التأويل أنه الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية من حُكم أو موعظة أو حكمة، وأنه موجود لجميع الآيات القرآنية محكمها ومتشابهها، وأنها ليست من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الأمور العينية المتعالية من أن تحيط بها شبكات الألفاظ، وإنما قيدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهي كالأمثال تضرب لتقرب بها المقاصد وتوضح بحسب ما يناسب فهم السامع، كما قال تعالى "والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم" [الزخرف 4]

" وفي القرآن تصريحات وتلويحات بهذا المعنى. على أنك قد عرفت في ما مر من البيان أن القرآن لم يستعمل لفظ التأويل في الموارد التي استعملها وهي ستة عشر مورداً على ما عدت إلا في المعنى الذي ذكرناه".(58)

ويختلف رأي السيد الطباطبائي عن رأي السيد الخوئي جذرياً رغم اتفاقهما - والآخرين- على أن التأويل بمعنى الرجوع والعاقبة، ويتمثل هذا الإختلاف في أن هذه العاقبة أو هذا المرجع هل هو من عالم المعنى، أم هو من عالم الوجود الحقيقي الخارجي؟

يدل كلام السيد الخوئي على الأول، أما كلام السيد الطباطبائي فهو صريح في الثاني، وهو يسوق من الآيات القرآنية ما لا يدع مجالاً إلا للإذعان بما تبناه، وهو يتلخص بوضوح في أن القرآن كتاب الحقيقة، وهي بكل أبعادها تأويله، وليس الحديث فيه عن "يوم يأتي تأويله" إلا الحديث عن انكشاف هذه الحقيقة، بما يضع الإنسان أمام ما يؤول إليه أمر القرآن وجهاً لوجه. (59)

وفي الختام: لئن كان تعدد "البطون" يطل على التأويل، فإن التأويل يرفد مبدأ التعدد كما هو واضح.

 

الثابت والمتحول

الثابت والمتحول
ما هو الثابت في النص المعصوم، وما هو المتحول؟

وهل يمكن لنصٍّ دارت عليه القرون أن يقدم لإنسان هذا العصر الفرد والجماعة - فضلاً عما بعده - ما يناسبه ويصبو إليه في عالم الفكر والسلوك، في مختلف ميادينهما؟

تتوقف الإجابة الموضوعية، على الحديث في محورين:

1- ما هو الثابت والمتحول في الإنسان؟

وسيقودنا ذلك تلقائياً إلى سؤال: عن أي "إنسان" نتحدث؟

2- من هو مصدر النص المعصوم؟

بالإجابة على أسئلة المحور الأول يتراجع السؤال عن الثابت في النص والمتحول، من حجمه الخطابي، إلى حجمه العلمي.

وبالإجابة على أسئلة المحور الثاني يتفق المؤمن مع غيره على مصارمة جميلة، بدلا من الضغينة، أو حتى المودة على دَخَل.

* في المحور الأول:
ينبغي التركيز على إعادة الإعتبار للإنسان بعقله وفكره وروحه ونفسه، وأحاسيسه والمشاعر، والتمييز بوضوح بينه وبين كل ما سرق الأضواء وهو يصر على صرفها عنه لصالح مافيا "المردود الربحي" في مصارعة الثيران
(60) ، والملاكمة على الحلبة، الذي يشكل رقماً في أرصدة "قوارين" المال في عالم السلاح والآلة عموماً.

وما لم يعد إلى الإنسان اعتباره، فالإعتبار للشيء والآلة، ودور النص المعصوم في مثل هذا الجو الموبوء هامشي أو معدوم.

يبني النص المعصوم منظومته على محور الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات وسيد الدنيا والآخرة إذا وظف طاقاته الكامنة الهائلة لبلورة جوهرة الإنسانية.

أما عندما يصر العصر - أي عصر وبخاصة الألفية الثالثة- على توظيف طاقات الإنسان في تكثيف الحيوانية فيه التي يؤدي جهلها والنزق إلى تشييء الإنسانية، بل إلى تحويلها إلى خادم ذليل للشيء- لآلة، فلا يبقى أي مجال للإصغاء للمعصوم أو نصه.

حقاً،هل يراد من السؤال عن الثابت والمتحول في النص، السؤال عما ينفع الإنسان أم عما ينفع الحيوان والشيء؟

عن أي إنسان نتحدث؟ عن الإنسان الذي وضعت الشمس والقمر والكواكب والأفلاك والأملاك في خدمته؟ أم عن الإنسان الذي يوضع في خدمة الترويج للسلعة حتى إذا كانت فاسدة؟

وهل يمكن تحديد الثابت والمتحول في النص المعصوم في جو لا يحترم الإنسان إلى هذا الحد؟ في حين أن هذا النص نفسه يمثل أفضل تجليات كرامة الإنسان، في بعدين:

أن الله تعالى يخاطب الإنسان الذي كرَّمه.

وأن المعصوم الذي يحمل رسالة النص إنسان استطاع أن يكون حيث يتلقى هذا الخطاب ويؤتمن على إيصاله بمنتهى الرفق والمحبة، ليؤسس ذلك لسلوك الناس طريق الحق والرقي في مدارج الكمال الإنساني.

بعد إعادة الإعتبار للإنسان ولو نظرياً يصبح بالإمكان السؤال في السياق الطبيعي عن الثابت والمتحول في هذا الإنسان.

ولن نجد صعوبة في التوافق على أن الثابت فيه أكثر من المتحول، إذ أن منشأ ذلك عادة هو الخلط بين الإنسان وما يكتنفه، وبديهي أن عدم تحديد موضوع البحث يجعله عقيماً.

ويمكن تقديم تصور عن الثابت في الإنسان على النحو التالي:

في الفكر: رؤية الإنسان إلى الكون والحياة، وفي سياقهما رؤيته إلى الإنسان كمحور في الموقع الطبيعي أي كمخلوق وليس خالقاً، ورؤيته بشكل خاص جداً إلى المعرفة والجهل، وإلى القيم عموماً (بقطع النظر عن ممارستها) ورؤيته في تحديد حاجاته نظرياً (بما يشمل الحاجة إلى الإجتماع) والتمييز بين ما ينفعه وما يضره، وتحديد ما له وما عليه.

في السلوك: كيف يتعامل مع الآخرين. الأسرة كفرد فيها، ثم كرب أسرة. والدوائر الأخرى، متدرجاً فيها كمتلق، ثم كفاعل ومتلق، مروراً بالإدارة العامة (السلطة) بجميع مظاهرها، وصولاً إلى المستوى العالمي؟

وما هو موقعه العملي، الذي يلبي احتياجاته كإنسان أي للروح والجسد، بكل ما يترتب على ذلك من فعل أو ترك مع تحديد الأولويات فيهما، فثمة ما يتحتم فعله، أو ينبغي على درجات، وثمة ما يتحتم تركه أو يجدر كسابقه.

وتدخل في ذلك ميادين العمل بمعنى الكسب وتأمين لقمة العيش، كما تدخل أيضاً ميادين الإستجمام بما هي حاجة للروح والجسد معاً.

وإذا لاحظنا ذلك كله - وما يمكن أن يضاف عليه مما يتماهى معه - وجدنا أنه يغطي المجالات التي لا خلاف في أنها تبلغ من الشمول وسعة الدائرة ما يبرر السؤال وبإلحاح عن وجود متحول في "الإنسان" هو الخلفية عادة للسؤال عن المتحول في النص.

ولا يحجب شيئاً من وضوح هذه الصورة، كل ألوان التهويل، بالنقلة الهائلة من البداوة إلى سطح القمر مروراً بالثورة الصناعية المعجزة، وصولاً إلى بعد ما بين السماء والأرض بين تبادل السلعة بالسلعة، وبين عصر منظمة التجارة العالمية، والبنك الدولي، والبورصة وأسهمها المتحولة أبداً.

إننا نتكلم عن الإنسان الإنسان، لا عن "الوسائل" التي لو كان الحديث عنها لكان الجواب من البداية: إن هذا المجال خارج دائرة الإهتمام المباشر للنص، وإن كان يعنى بصياغة الإنسان الذي يمكنه أن يجترح من "معجزات الآلة" ما لم يخطر بعد بالبال.

ومادام الحديث عن الإنسان، فإن جميع هذه التعقيدات الهائلة في "الآلية" يجب أن تقف عند حدود ما ينفعه أو يضره، فهو إذاً المحور والثابت، وعليه فإن ما يتنافى معه من كل هذا المتحول المعجزة، لا يرقى رغم عظيم أهمية الإفادة الموضوعية منه، إلى إحداث أي تغيير في جوهرة الإنسانية، التي إنما طلب ليكون في خدمتها.

ولن ينفع الإجلاب بخيل المدنية ورجِلِها في الحديث عن "شكل الحكم" أو "نظام الإدارة" وعن "الديموقراطية" و "المشاركة في صنع القرار" فالعصر "المتحول" جداً، يشهد التوأمة - بقطع النظر عن الرأي فيها - بين المَلَكية وأحدث الأنظمة (والتقنيات) كما في بريطانيا مثلاً، وبين الفرعونية ومصادرة الأنفاس تكنولوجياً، وعبر صناديق الإقتراع، كما في ما يسمى بالعالم الثالث. (وكل عالمنا من حيث مضمون الحكم ثالث).

أليس في هذا بلاغاً قاطعاً بأن شكل الحكم ليس في النتيجة إلا شكلاً لمحتوى قد يكون منسجماً مع الثابت الإنساني، وقد لا يكون كما هو الغالب، وبالتالي فلا دخل له في موضوع الحديث عن الثابت والمتحول، وإن كان له كل القيمة في صيانة الثابت من التهميش وحماية المتحول من العدوان؟

إنه الإطار الذي يُملأ بالصورة الإنسانية الفرد التي لا تظهر أبعادها الحقيقية إلا في الإجتماع الذي يتوقف على نظام الحكم والإدارة، وتتوقف كفاءته بدوره على رعاية الثابت والمتحول الإنسانيين.

ولن ينفع التهويل مجدداً بأن التحول في الوسائل والآلية يستتبع تحولاً في الحاجات، والأهم منه التحول في الأحاسيس والمشاعر، إلا إذا أصررناعلى سلب الإنسان إنسانيته فنكون قد وقعنا في "التشييء" من حيث لا نريد.

والجواب: إن هذا هو بعينه الذي يحتم الحاجة إلى الثابت، حاجة المتفاعل مع العولمة المهدد بالوصول إلى حيث يفقد الإهتمام بوطنه، وبما أن المبرر للحديث عن الحاجة هو الأحاسيس والمشاعر، فليتركز الحديث حولها.

ترى ما هو الدليل الذي يبرر للإنسان أن ينساق مع كل إحساس أو شعور. إن الإنسانية أعظم من أن تترك في مهب الرياح الهوج تتقاذفها حيث تشاء.
تكمن أهمية الثابت في كونه الوطن الحقيقي لإنسانية الإنسان، فالمستقر الفكر، أولى بالعناية من المستقر الجغرافيا، بل لا يتخذ الثاني أهميته إلا بإمضاء الأول، ولا وطن للإنسانية إلا ديار الحقيقة "وحنينه أبداً لأول منزل".

ومن العبث بالإنسانية والعقل والحقيقة، إسلام القرار للآلة و "نوازعها" والهدير.

في هذا الجو النقي من لوثة الآلة يجب البحث عن الثابت والمتحول.(61)

* في المحور الثاني:
مصدر النص المعصوم "ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى" [طه 50]

وهذه الهداية على قسمين:

الأول: تحديد الثابت الإنساني، وتحديد سبل الوصول إليه نظرياً، وتحديد الوظيفة العملية المترتبة عليه.
الثاني: وضع ضوابط للتعامل مع المستجدات التي لا تعدو كونها تفاصيل في المشروع لا ترقى إلى إحداث تغيير في بنيته، وهي ما يعبر عنها بعض كبار الفقهاء بمنطقة الفراغ.

وقد استدعى وضع الصيغة النهائية لذلك، التدرج من أول إنسان هو أول نبي عليه السلام، إلى ما قبل ثلاثة وعشرين وأربعمائة وألف من السنين، ولا يدرى إن كانت البشرية تعمر أكثر من فترة التدرج أم لا.

ولا أعتقد أن من اليسير إثبات أن هذه المدة الزمنية الطويلة لا تكفي لمقنن من البشر إذا قدر له أن يعمر، للتأسيس عليها لنص يستوعب حاجة البشرية عبر المراحل القادمة، فكيف عندما يكون الحديث عن الله تعالى الذي أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها، ومن هذه الأسباب في مجال التشريع، مرور الوقت ونضج التجربة البشرية، وبلوغها حد التعامل مع الصيغة النهائية، التي يحملها النص المعصوم.

ولماذا لا نستحضر في الحديث عن الثابت والمتحول أن ما تشكله دورة الزمن بالنسبة إلى الله تعالى، لا تصل إلى مقدار مرور سنة على وضع قانون بشري؟

فهل ثمة من يطالب بتجديد القانون كل سنة على قاعدة الثابت والمتحول؟

أم أن السنة والعقد بالنسبة للمقنن الطاريء، ليست رقماً يسمح بالحديث عن تحول يستدعي التغيير؟

ولماذا لا نستحضر أن المطالبة بالتحول تتناسب مع حجم الثقة بالمقنن، أو المكتشف (الكاشف) والمخترع؟

ألا نجد في جميع الميادين المجلي في الحداثة رغم أن جذوره تضرب في أعماق التاريخ؟

ألا تبدو الثقة بالفنان أحياناً - بما يشمل الكلمة - فوق ما يتراءى من بعض الحديث عن الثابت في النص الديني؟

ولابد في هذا السياق من التوقف في محطات:

* الأولى: علاقة الحديث عن الثابت والمتحول باللفظ:
غني عن البيان، أن الحديث عن الثابت والمتحول في فهم النص، مغاير في جوهره للحديث عن الثابت والمتحول في النص أي في المعنى الذي يحمله النص، يريد الثاني مقاربة المعاني، والأول يقارب الألفاظ، وهو لا يختص بالنص الديني وإنما هو شامل لكل نص، ولا ينبغي الخلط بين الموضوعين، كما يتراءى بوضوح من بعض المقاربات، والفائدة العملية المنهجية جراء هذا التمييز، على قدر كبير جداً من الأهمية تتمثل أبسط مظاهرها في أن لا نحمل النص تبعات محاولات الوصول إليه.


* الثانية: أصالة الثابت، واستثناء المتحول:
يشتد جموح التحلل من ثوابت النص في المقاربات عموماً عندما يجري الحديث عن السنة، وإن كان من السهل التنبه عبر قراءة منصفة متأنية لما بين السطور، إلى أن "المنطلق" لا يفرق بين القرآن والسنة، حيث يتبدى ذلك بوضوح من طريقة تناول بعض المفاهيم والثوابت القرآنية، فهي وإن كانت تحاذر صدم المقدس الأول في مجال النص المعصوم، إلا أنها تسعى جاهدة لضرب ركائزه، ولو بمنتهى حسن النية.

وعندما نقرر مغادرة هذه الطريقة السائدة في مقاربة النص، إلى مقاربة علمية، سنجد أن الحكم حول الأصل فيه والإستثناء يتوقف على ملاحظة ما يلي:

1- طبيعة النص المعصوم ومهمته، فثمة حشد من النصوص المتميزة بوضوح اللهجة، وقوة الدلالة، وتسالم أجيال العلماء عليها، تقضي بأن طبيعة النص الغالبة ثابتة، ومهمته عالمية، وهي من الشهرة، بما لا داعي معه إلى أكثر من الإشارة. (62)

2- حجم المتحول (الظرفي) في مدى تطبيق النص في عصره:

ما تقدم يضعنا أمام ارتباط الحكم بحجم المتحول في المدى التطبيقي، بالحكم على طبيعة النص، فإن نصا ًذا طبيعة متحولة لابد وأن يكون حجم المتحول فيه كبيراً جداً، وبالعكس منه حجم الثابت، أما النص ذو الطبيعة الثابتة، فالأمر فيه مختلف جذرياً إلى حد أن علينا أن نسأل عن مبررالحديث عن الظرفية فيه، ولن نجد أقوى من التمسك بأن طبيعة كون المقنن متصدياً في المدى التطبيقي، تتأثر بالظرف، وهو ما يستدعي جوابين:

الأول: أن هذه الطبيعة العملية للمقنن المتصدي، لا يمكن لها أن تلغي طبيعة كونه المقنن للأجيال، بما يبلغه عن الله تعالى، كما لا يمكن أن يسمح لها بالتداخل مع طبيعة النص "القانون" ومهمته، بحيث توقع في اللبس. ويأتي مزيد إيضاح.

الثاني: أن المدة الزمنية التي تصدى فيها حامل النص المعصوم للتطبيق المكتنف بما يعزز الحاجة إلى المتحول، كانت أحد عشر عاماً في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله (لأن مرحلة ما قبل الهجرة، كانت مرحلة الحصار والمعاناة) ومثل هذه المدة، لا تشكل قطعاً في مسار نص مداه الزمن كله، منذ صدوره وإلى يوم القيامة، وإنما تشكل حالة استثنائية، تتجلى أهميتها في تقديم النموذج الأرقى الذي تحتاج المسيرة الإنسانية، لتتفاعل معه باكتمال نضج معرفي بما يشمل العمل -بحيث يغدو ذلك ظاهرة عامة واعية- إلى القرون الفاصلة بين تجربة النص النموذجية هذه، وبين ظهور المهدي المنتظر.

وهذا ما يضيء على أن مدة الأحد عشر عاماً لنص طبيعته ثابتة ومهمته عالمية، لا يمكن لها أيضاً إلا أن تلحظ هذه الطبيعة وهذه المهمة، وهو ما يحتم تسليط الضوءعلى المتحول كاستثناء.

وإذا لاحظنا أن أهل البيت عليهم السلام لم يتصدوا للحكم (الظاهري) إلا بما يقل مجموعه عن خمس سنوات، فإن النص الصادر عنهم الحامل لما أمر به الله تعالى، وبلغه رسوله صلى الله عليه وعليهم، ليس في معرض توهم الظرفية فيه كما هو الأمر بالنسبة إلى النص النبوي الشريف.

أما الظرفية بمعنى أن اشتباك النص بدورة الحياة الفردية والإجتماعية تكسبه طبيعة الظرفي والمتحول، فهي في الحقيقة لا تقدم ما يدل على تنبه القائلين بها إلى أنه يتساوى في ذلك الظرفي وغيره، فكما اشتبكت الفروع في هذه الدورة، اشتبكت أيضاً الأصول، ولنستحضر فقط ما عرف بـ"محنة خلق القرآن" فلماذا لا يصح وصف الأصول بالظرفية، وهو يكشف بوضوح عن أن مصب البحث عن الثابت والمتحول يجب أن ينأى بنفسه عن يسر التناول، الذي يسمح بالتأسيس على ظواهر التهويل.

ينبغي البحث عن الظرفي في داخل النص وفي القرائن التي تحف به، فإذا لم يدل الدليل على ذلك فهو ثابت، وهذا معنى أن الثابت هو الأصل.

ولا ينبغي التفريق بين القرآن الكريم والسنة باعتبار الظرفية في السنة الأصل بادعاء أنها تطبيقات ظرفية للأحكام، وفي القرآن الكريم الإستثناء، فبالإضافة إلى ما تقدم، لا يصح الفصل بين القرآن الكريم والسنة، لأنهما كيانية واحدة، وكل منهما صريح في ذلك، وأن القرآن هو المصباح في المشكاة.

وإذا كانت السنة مجرد تطبيقات للأحكام، فأين هي الأحكام التي نبحث فيها عن الثابت والمتحول؟

وهكذا يتضح كيف أن تضخيم الحديث عن الظرفية - ولو عن غير قصد من الإسلاميين- انسياق في مغالطة "كلمة حق يراد بها باطل" إنه انطلاق من الأصل الموضوعي القائل بأن أعمدة الزمن تخلف وراءها من الظرفيات، ما لا مجال أبداً للحديث عن الثابت معه، إلا على غرار البحث عن الحداثة في ركام كل ما حفل به التاريخ.

ولكن الباطل فيه تطبيق هذا الأصل على النص المعصوم الذي يقوم على الأصل الآخر النقيض لذلك، فليس مصدر النص المعصوم عمق التاريخ، بل المصدر هو الله تعالى، وقد وَضَع هذا النص، على قاعدة كل الإستحقاقات الإنسانية التي هي بإرادته أكبر من أن تختزل في تاريخ مهما كانت أعمدة قرونه، أو جغرافيا ولو كانت المنظومة الشمسية والمجرات كلها.

3- آلية التمييز بين الثابت والمتحول:

بديهي جداً أن نصاً يخاطب جميع الأجيال، ويتصف بطبيعة الثبات، ويخوض تجربة قد تصبح مبرراً للحديث عن المتحول والظرفية، لابد له أن يحدد آلية التمييز بين الثابت والمتحول، والمطلق الزماني، والظرفي، وأن يعين أيضاً المرجعية الصالحة لذلك، وإلا فنحن أمام لزوم ما لا ينبغي لباحث موضوعي الإيحاء به من نسبة الجهل- أو الإغراء به، أو كليهما والعبثية- إلى مصدر النص المعصوم.

ويكاد - على أقل تقدير- أن يكون بديهياً أن المرجع في تحديد هذه الآلية هو المعصوم نفسه حصراً، ولا يمنع ذلك أن يحدد هو ضوابط يلتزم بها غيره ليصل إلى النتيجة السليمة، إلا أن هذا لا يعني أبداً انتقال المرجعية في إصدار الحكم حول الثابت والمتحول إلى غير المعصوم.

تحتم مراعاة التخصصية، أن يكون المرجع في الحكم على أي نص للمختص به، والنص المعصوم اختصاص المعصوم، فهو المرجع، خصوصاً وأن الحكم بالظرفية والمتحول كأصل، يتحكم بناصية مقاصد الشريعة، كما هو واضح، فهو إذاً تدخل لا في رسم حدود مهمة المعصوم وحسب، بل في رسم الحدود لما يريد الله وما لا يريد، بل لما ينبغي أن يريد وما لا ينبغي، ولذلك فهو بالتالي أحد شفيري الهاوية التي هي البدعة، لأنه إخراج لما هو من الدين منه، كما أن الحكم بعدم الظرفية والثبات حيث لا ينبغي، هو الشفير الآخر للهاوية لأنه إدخال في الدين لما ليس (الآن) منه، ولا يتصور إطلاقاً أن يترك النص المعصوم هذا المجال الذي يتسم بكل هذه الحساسية، دون آلية شديدة الوضوح والتميز.

والآلية المتصورة هي تحديد الأصل في النص المعصوم وتحديد الإستثناء، فإذا كانت الظرفية الأصل وجب تحديد ذلك وأن الثابت هو ما دل عليه الدليل، وإذا كان العكس فكذلك.

والترجمة العملية الأبرز لتميز هذه الآلية، أن يكون الأصل والإستثناء غاية في الجلاء، بحيث يصبح ذلك مرتكزاً للأجيال من المعنيين بالنص المعصوم، ولو على مستوى التطبيق فحسب.

والحقيقة أن الذي نجده يمثل هذا الوضوح المرتكز، المستلهم من صريح النص وروحه، هو أصالة الثابت واستثناء المتحول، وأن القرائن مكتنفة بهذا الإستثناء تمنع تحوله خطأً إلى ثابت، فيتناقض ذلك مع طبيعة النص ومهمته، ولا يخفى ذلك على المتتبع الذي يريد استنطاق الظاهر دون مسبقات، أو تحيُّنِ الفرصة للإسقاط.

وقد بذل العلماء عبر القرون من الجهود الجبارة المضنية، ما ينبغي أن تخشع في محرابه الأجيال، إن في علوم اللغة، أو الرجال (السند) أو الفقه، والأصول بشكل خاص، ودخلوا بذلك إلى كامل خصوصيات نسيج النص المعصوم(63) ، ولا يظهر من كلماتهم أنهم وجدوا الثابت طارئاً والمتحول استثناءاً وأهل مكة أدرى بشعابها، كما لا يعتبر من المرتكزات بين المسلمين غلبة جانب المتحول على الثابت، ولا يظهر ذلك بالتالي للمتأمل في غالب لهجة النص التي تصرح بالعالمية، أو لا ينسجم إطلاق اللفظ فيها إلا معها، إلى حيث تسالم العلماء عموماً على أن "خصوص المورد، لا يخصص الوارد" وأن "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المورد" وكان الحديث عن الخصوص والعموم والبحث عن المخصص دأبهم عبر القرون، فدونوا أحكامه عند احتماله، أو غلبة الظن بوجوده، وغير ذلك".(64)

ويجدر بنا أن نحمي بحبات القلوب ثمرات هذه الجهود المباركة ونعتبرها الركيزة الفضلى للجديد في نفس السياق المنهجي، بدل أن تكون مثاراً للغمز من القناة.

إن "اكتمال الدين" الذي أجمع عليه المسلمون من منطلقه القرآني، لا يمكن أن ينسجم مع أصالة الظرفي، واستثناء المطلق الزماني، كما أن "الإيمان" بمعناه المتفق عليه، لا ينفك عن الإيمان بالغيب، وهو يؤكد أن رسالة النص المعصوم أعظم من أن تنال منها مسارب التطبيق العملي، وأزقة التاريخ.

من هنا فإن المتخصصين بالنص المعصوم، المتدرجين في دراسته على يد المعصوم، رغم أنهم المعنيون بعد المعصوم بتمييز الظرفي من غيره - على قاعدة أصالة الثابت - قد أنجزوا ذلك بجدارة ومايزالون، إلا أنهم لم يواجهوا على الإطلاق المشكلة التي نحسب أننا نواجهها، ولا علم لهم بمشكلة نبالغ في تظهيرها، رغم أنها لا تعدو كونها جُفاءاً.

إن الفرق كبير جداً بين النتيجة التي يخرج بها البحث عن الثابت والمتحول حين ينطلق بدوافع موضوعية مراعياً كل خصائص البحث العلمي التخصصي، وبين البحث العام الذي تتحكم بدوافعه قوة ضغط أخطبوط "الإعلان" الثقافي، التي هي بالتأكيد أبعد خطراً من قوة ضغط الإعلان التجاري، وكما يحملنا الأخير على "اختيار" السلعة في استعمالات الجسد، يفرض علينا سابقه "اختيار" السلعة الفكرية والثقافية التي يريد.

إن الشرط الأول للبحث في حقائق النص، هو التحرر من الدوار البحري "العولمي" المرعب للإعلان الثقافي، وليست مهمة سهلة، ولا ينبغي أن تقارب إلا بالتواضع الجم، وخوف الإنزلاق.

ورب ضاحك على من سبقه، يسرع نحوه إلى قعرالمنزلق.

"ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن، فقد استمسك بالعروة الوثقى".

* الثالثة: دين الله لايصاب بالعقول:
ثمة ثوابت في العالم المعاصر، لا يسمح لأحد بالمس بها، ألفنا منها مثلاً: الإستقلال، الأمن القومي. السلم الأهلي. القانون. أمن الدولة. وحتى جلالة الملك! موقع الرئاسة.

ويقدم النص المعصوم الدين باعتباره الثابت الأكبر الذي لا يمكن أن يصاب بالعقول، فضلاً عن أن يخضع للأمزجة، لأن مصدره الله تعالى، فينبري كثير ممن يذوبون وجداً في بعض الثوابت الآنفة الذكر، للمس بالدين.

ويتمظهر ذلك عادة بالتنظيرعلى الله سبحانه!

ويراد من الآخرين أن يحترموا "الفكر" وينحنوا إجلالاً لـ"الإبداع" حتى إذا كان المبدع سلمان رشدي، وإلا فهم متخلفون و "طالبان".

ولا غرابة في ذلك، فمدرسة "تشييء" الإنسان، لا تبقي للدين ولا للفكر بمعناه الحقيقي، مكاناً، لأن مكانه الإنسان وعقله، ولا وجود لذلك في قاموس عصر "العولمة" الذي لايتسع إلا للمردود الربحي والإستهلاك.

بل الغرابة في انسياق المثقف المستعمَر، والإسلامي خاصة لهذه الفجيعة البشرية، التي من شأنها أن تخلط أوراق هذا العصر بأوراق ما قبل الميلاد.

ومن ثوابت روح العصر الذي يشهد هذه الفجيعة "التخصصية في ما عدا الدين" الذي يؤكد "العصر" أن لأي كان أن يتدخل في حقل اختصاصه، ويدلي بدلوه كما يحلوله.

وتقوم الحياة على مبدأ عقلي، لا تعمر إلا به، هو البحث عن المختص بالطرق العلمية، فإذا قادنا العقل إليه، التزمنا برأيه سواءاً أكان طبيباً أم قانونياً أم مهندساً وصولاً إلى المختص التقني في شؤون الأدوات الكهربائية المنزلية، وحتى تمديد الأنابيب.

ويطرح الدين هذه الحقيقة المسلمة بصيغة "التعبد" أو "التقليد" فتقوم روح العصر ولا تقعد، وتستنفر كل ترسانتها من أسلحة الحداثة، ضد هذا العدوان.

إن المعنى الحقيقي لمبدأ "دين الله لا يصاب بالعقول" أن لنا أن نصيب الله تعالى بعقولنا، بل علينا أن نعمل عقولنا لنصل إلى معرفته سبحانه بالعقل، ولا يقبل منا التزام بذلك لا يستند إلى دليل عقلي، فإذا قادنا الدليل إليه التزمنا بمقتضى هذا الدليل، وليس الإلتزام بالدليل إلا تبعية الإنسان العاقل للدليل كما يتبع العبد سيده، وهو معنى "التعبد".

وبما أن معرفة ما يريد الله تعالى منا ليست بأقل شأناً من معرفة مواد القانون وبنوده، فإن المبدأ العقلي الحاكم بالرجوع إلى المختص يرشدنا إلى تعيين "مرجعية" قانونية نلتزم برأيها كما يلتزم الموكل بمقتضيات مرافعة الوكيل القانوني عنه، وهو معنى "التقليد".

وتتخذ محاولات إصابة الدين بالعقل أشكالاً مختلفة لا شك أن أشدها حساسية وأبعدها خطراً الحكم في مجال "الثابت والمتحول".

وقد نندفع أحياناً إلى الحكم بالظرفية، متسلحين بأن المعصوم تحدث عن "ظرفية" أحكام معينة، أو متسلحين بالثابت المتفق عليه من وجود "الناسخ والمنسوخ".

والحقيقة أن هذين الموردين حجة قاطعة على تصدي المعصوم للتفريق بين الظرفي وغيره وهو يأخذ بأيدينا برفق إلى حصر الظرفي في ما يلي:

1- ما صرح المعصوم بظرفيته.
2- ما صرح بأنه منسوخ.
3- ما دل دليل آخرعلى خصوصية مورده أو ظرفيته.

إن من المفارقات العلمية أن يكون حديث المعصوم عن الظرفية مبرراً لإصدارنا الأحكام في ذلك دون الرجوع إلى المعصوم نفسه باعتباره المختص الوحيد والمرجعية القانونية الوحيدة في مثل هذا المجال المصيري.

وهكذا تتضح شدة الغرابة ومرارة الأسى في إصدار الأحكام بالجملة من قبيل أن "الروايات في باب القضاء ظرفية".

ولابد من التنبه بحزم العالم إلى عدم الوقوع في التنظير للشريعة بما لا ينسجم مع المنطلقات المسلمة في الفقه والأصول.

يدعو إلى تسجيل هذه الملاحظة أن غالب المقاربات لشأن الثابت والمتحول لا تنسجم إلا مع منطلقات مدرسة "الرأي والإستحسان" بطبعتها الأخيرة التي أضافت إليها الكثير من الجرأة على الإجتهاد في مقابل النص، في تجاوز ملتبس لمحورية منطلق أن "دين الله لا يصاب بالعقول" وإيحاء محير بالجزم بملاكات الأحكام، وأن الثابت ليس إلا هذه الملاكات التي جزمنا بها وما عداه متحول.

وهذا ما يأتي مزيد توضيح له في العنوان التالي.

الإستغراب

هل يصلح الإستغراب دليلاً؟ أم أنه ردة الفعل، العفوية والضرورية، التي تشكل مناخاً للإستفهام؟

وما هي العلاقة بين الإستغراب والإستحسان؟

وما هو حجم الإستغراب الذي لا يعزز بالدليل، في مقاربات النص المعصوم في حركة الفكر المعاصر؟

تلك هي الأسئلة الرئيسة في باب الإستغراب..

أما الأول فلا يلتزم أحد نظرياً بالشق الأول منه، وإن كان الصدور منه عملياً من أبرز تحديات البحث العلمي.

و ليس الإستغراب إلا الأخ الشقيق والتوأم الحميم للإستحسان، بل هو الوجه الآخر له، إن لم يكن مستنسخاً منه، وإن بدا أنهما ليسا لرحم.

يحمل الجهل البسيط الجاهل على اعتبار معلوماته مقياساً للرفض والقبول على قاعدة أن ما يستحسنه هو الحق، فيؤسس ذلك لجعل استغرابه دليلاً عنده، وهذا الجهل نفسه أو الجهل المركب هو الذي يؤدي بـ"العالم" إلى تشديد النكيرعلى كل ما لا يستحسنه، معتمداً في ذلك "دليل" أن هذا المنكر هو لديه مستغرب، لم يحظ بوسام استحسانه، فسقط بذلك عن درجة الإعتبار.

إذا أخذنا بهذا التحليل اتضح كيف أن الإستغراب مستنسخ من الإستحسان.

ولا ينبغي التقليل من خطورة ما يمثله اللجوء إلى الإستدلال بالإستغراب على منهجية البحث وعلى الحقيقة عموماً، فهو المكمن الذي يتم فيه تجريد الباحث من سلاحه الفعال الوحيد، أي الدليل العلمي، ليسلحه بوهم الدليل ويحوله إلى جاهل.

وتتخذ هذه الخطورة منحى آخر في الحقل الديني، القائم أصلاً على توجيه محط الإهتمام بالدليل والبرهان إلى غير المألوف، حيث لا تدع "حجية الإستغراب" مجالاً للإصغاء إلى الدليل، أو متسعاً لإقامة البرهان.

إن ما يستحسن عادة من حقائق النص المعصوم ضئيل في جنب ما يستغرب، وهو ما يجعل الإستغراب أشد خطورة من الإستحسان، على خطورته.
وعلى قاعدة الإستغراب الواهية دارت رحى مواجهة النص المعصوم عبر القرون:

"ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون" "فقال الملا الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين" [المؤمنون23- 24]

"... ثم أنشأنا من بعدهم قرناً آخرين" "فأرسلنا فيهم رسولاً منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون" "وقال الملأ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحياة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون" "ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذا لخاسرون" "أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون" "هيهات هيهات لما توعدون" "إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين" [المؤمنون31- 37]

ويشكل هذا النص عينة عما كان الأمر عليه في اعتماد الإستغراب على مدار حوالي أكثر من ألف سنة على أقل تقدير(65) ولا يختلف ما بعدها عما كان قبل، والمحور في ذلك كله "وإذ قلنا للملائكة اسجدوالآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا" "قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي،" [الإسراء61- 62]

يمكن إذأً حصر جميع ما واجه به الملأ والفراعنة دعوات المعصومين - ومايزالون - بعنوان واحد هو الإستغراب. وهو ما يتضح بقراءة متأنية في نصوص القرآن الكريم التي تستعرض الردود على المعصومين وفي حركة "الفكر" المادي أو "المدرحي" المعاصر.

وبموضوعية تامة يظهر ذلك بعداً من أبعاد أن رسالة المعصوم المستندة إلى الدليل كانت ومازالت موضوعة حداثة، في مقابل مجرد استغراب كان ومازال موضوعة تخلف.

كما ربما يظهر التأمل في آيات العينة التي ذكرت آنفاً، الترابط بين الكفر والتكذيب بالآخرة، والترف من جهة وبين اعتماد "منطق" الإستغراب دليلاً في إثبات الحقائق، وهو ما يكشف بدوره عن السبب الحقيقي الذي تتفاوت مراتبه، ويمكن أن يكون بعضها موجوداً بقوة في من لا يعتقد بوجوده فيه، وهو الذي يحمله على ما يحمل عليه الذين كفروا وكذبوا بالآخرة.

هذا السبب هو الإستغراب الكبير الذي هو بمثابة الأم الحاضنة لكل استغراب في مجال النص المعصوم.

إنه استغراب البعث من القبور والحياة بعد الموت:

"أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون" [المؤمنون 82]

"ذلك رجع بعيد" [ق 3]

"لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الاولين" [المؤمنون 83] "وقال الذين كفروا هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد" [سبأ 7]

"أو آباؤنا الاولون" "قل نعم وأنتم داخرون" [الصافات17- 18]

وهذا الإستغراب بعد "الإستنساخ" أشد فتكاً بالعقل مما كان قبله.

أما كيف أنه منشأ كل استغراب في مجال التفاعل مع حقائق النص المعصوم والحقيقة عموماً، فهو ما يتضح بالتأمل في أن اعتماد الإستغراب - عملياً - كدليل يتلازم مع الحجم الذي تعطيه النفس لـ"الأنا" في مقابل الحقيقة، فكلما كبرهذا الحجم صغر حجم الحقيقة وتضاءل، أما الإنقياد للدليل، وعدم الجرأة على قول شيء دون التثبت فهو النقيض للإستغراب ويكشف في الوقت نفسه عن تصاغر الأنا بين يدي الحقيقة.

هكذا نستطيع أن نفهم علاقة الترف بالحديث عن استغراب البعث بعد الموت "أترفناهم في الحياة الدنيا" [المؤمنون 33] أو "إنهم كانوا قبل ذلك مترفين" "وكانوا يصرون على الحنث العظيم" "وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون" "أو آباؤنا الاولون" [الواقعة45- 48]

يعزز الترف الرضا بالحياة الدنيا والإطمئنان بها والإخلاد إلى الأرض، وذلك ما يؤدي إلى "الغفلة" التي هي مناخ جعل الإستغراب دليلاً:

"إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون" [يونس 7]

" ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه" [الأعراف 176]

فالغافلون هذه صفاتهم، والمخلد إلى الأرض الذي تكثفت فيه أباطيل مناخ الغفلة لا يتبع الدليل بل الهوى فالإخلاد هو منبت الإستغراب، الذي يمده هذا المناخ بكل مستلزماته، فإذا الوجه الآخر للغفلة هو التصدي للدليل بمحض الإستغراب.

والمحور في ذلك كله اعتبار عالم الشهادة كل الحقيقة، فليس قبله ولا بعده شيء، الذي تعززه "الأنا" ويعززها، وذلك هو القاسم المشترك بين كل المنكرين لحقائق النص المعصوم الذين تتفاوت درجات إنكارهم ومراتبه من الغفلة المطبقة، وعدم رجاء لقاء الله، أي عدم الإيمان بالغيب نظرياً وعملياً إلى الغفلة الأدوارية التي يمثل أخطر مظاهرها عدم الإيمان بالغيب عملياً ودونه الإيمان ببعض حقائق الغيب ورفض البعض الآخر، وله أيضاً مراتبه المتفاوتة، وهو ما لا ينبغي أن يقارَب كما تقدم شبهه في "الثابت والمتحول" إلا بمنتهى التواضع والحذر وخوف الإنزلاق، بل الإستدراج بما تكسب أيدينا، وترتسم به حقيقة المدارك فيحد من قدرتها على النفاذ.

وإذا تأملنا في قائمة المستغربات وخارطتها وجدناها جميعاً ذات أبعاد غيبية فالنص المعصوم كما تقدم يحمل رسالة الغيب، ليفتح الإنسان آفاقه على الصورة كلها التي هي غيب أكثر مما هي شهادة.

وبديهي أن المسار العام الراهن في العالم كله، مسار مختلف، يجعل عالم الغيب كله مستغرباً وتلك في الحقيقة "روح العصر" التي يجب أن ندرك أنها تتحكم بكل مفاصل الفكر والسلوك في "حضارة" القرن الواحد والعشرين.

الإستغراب هو المفصل الذي يتحكم بحركة الفكر، فإما أن يحفزها على البحث عن الدليل، وإما أن يخنقها في المهد فترفرف راية الجهل إيذاناً بموت العلم.
ومن هنا كان الإستغراب المستبد الموقع "المثالي" الذي يقام عليه السد الكبير الهائل، الذي يحول دون الوصول إلى الحقيقة والتفاعل معها وهو سد "الإنكار" بلا دليل.

وقد يكون هذا السد خاصاً بصاحبه فيحول دون وصوله شخصياً، وهو خطِر لأنه يحرم إنساناً "بالقوة" من بلوغ الكمال الإنساني فهو أشد من قتل النفس الذي لا يطال إلا الجسد.

فكيف هو الخطر إذاً عندما يتجاوز سد الإنكار دائرة النفس؟ وكيف به عندما يصبح "منهجاً"؟ وهو بدوره على درجات، بحسب انتشاره وتأثيره.

يبدأ التأسيس للجريمة الفردية أو المجازر والإبادة الجماعية في عالم المعنى إذاً بالترف الذي يكرس التعلق بعالم الشهادة، ويبلغ هذا باتباع الهوى حد الإخلاد إلى الأرض، وعدم القدرة على التحليق في آفاق الحقيقة، فيتعاظم الإستغراب ليغدو إنكاراً، ثم تشديد النكير، وتقام على هذه الأرضية السدود ويتم "قطع طريق" الوصول إلى الحقيقة.

ومن هنا كان العالم المفتون بالدنيا قاطع طريق عباد الله الذين يريدون الوصول إليه. (66)

وقد يكون مستغرباً القول بأن الصوفيين والظواهريين متساوون في ذلك، إلا أن الواقع أن الظاهرة المرضية واحدة مهما بدا الأمرمختلفاً، إنه التخلي عن اتباع الدليل، وعبادة "الأنا" والفناء في ما تستحسنه، والقتال حتى الرمق الأخير ضد ما تستغربه.

ويبدو أنه ليس المقصود حصر "قطع الطريق" بالعالم المفتون بالدنيا، بل هو المصداق الأبرز، فكل من تعميه الدنيا عن رؤية كل الحقيقة ويعمل على تعميم رؤيته هو قاطع طريق، سواء أكان مادياً ملحداً، أم صوفياً مفتوناً بالدنيا أم غيرهما.

يوضح لنا ذلك معنى أن تكون معرفة الحق المدخل لمعرفة أهله، حيث أن تشابك "الأنا" بالحق يعمي ويصم، ويقدم في النتيجة خليطاً مزج فيه ضغث بضغث، فلا أنت في مقابله أمام حق، ولا أنت أمام باطل.

" إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، ويتولى عليها رجال رجالاً، على غير دين الله. فلو أن الباطل خلُص من مزاج الحق لم يخْفَ على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل لانقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى". (67)

كما يوضح أيضاً لماذا كانت معركة النص المعصوم الأولى معركة الدفاع عن الدليل والحجة والبرهان:

"قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين" [البقرة 111 والنمل 64]

"قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون" [الأنبياء 24]

يتلخص الذكر الذي جاء به جميع المعصومين كما تبين الآية السابقة، بالبرهان.

"يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نوراً مبينا" [النساء 174]

"ومن يدع مع الله إلها آخرلا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون" [المؤمنون 117]

ويتفرد النص المعصوم في باب الحديث عن الدليل، وأهميته، بإطلاق اسم "السلطان" عليه:

"فأتونا بسلطان مبين" [إبراهيم 10]

"هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بيِّنٍ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا" [الكهف 15]

"وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين" [الدخان 19]

"وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين" [الذاريات 38]

"إن عندكم من سلطان بهذا أتقولون على الله ما لا تعلمون" [يونس 68]

"ما لكم كيف تحكمون" "أفلا تَذَكَّرون" "أم لكم لكم سلطان مبين" "فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين" [الصافات154- 157]

ويوضح النص المعصوم أن البديل التلقائي لتنكب الدليل السلطان العادل الوقوع في قبضة ذل الظن والهوى:

"إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى" [النجم 23]

وليس ما تهوى الأنفس إلا ما تستحسن أو تستغرب.

كما يوضح أن السبب في عمقه نفسي:

"إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه فاستعذ بالله إنه هو السميع البصير" [غافر 56]
وهذا الكبر هو التكبر الذي هو حصيلة الإفتتان بعالم الشهادة والرضا بالدنيا والإطمئنان بها والإخلاد إلى الأرض."
(68)

وإذا لاحظنا هنا أن النص المعصوم يطلق على التنكر للحقيقة صفة الإستكبار، وأن الطواغيت والفراعنة والقارونيين، والملأ والمترفين، والمفسدين في الأرض عموماً مستكبرون(69) تجلت بعض ملامح الروعة في منظومة الفكر في النص المعصوم المبنية في عالم المعنى والواقع الخارجي على محورية السلطان المبين، وتبدت في المقابل بعض ملامح سوء القبح عندما يجعل الإستغراب المحور.

يضعنا ما تقدم أمام حقيقة أن لا نستنكر الإستكبار الفرعوني في الأرض، ونصغر الإستكبار في النفس الذي يفصح عنه اعتبار الإستغراب دليلاً، فالثاني أشد خطراً، بل الصحيح أنه الخطر الماحق الذي يتمظهر في بعض حالاته بالإستكبار الفرعوني. إن ساحة النفس الإنسانية هي الساحة الأهم ولا تكتسب الدنيا أهميتها إلا من حيث كونها دار تبلور هذه النفس.

وهي ساحة المعركة الحقيقية بين النص المعصوم وبين الذين يتلخصون بـ"إن في صدورهم إلا كبر".

يريد النص رفع الإصر والأغلال عن كاهل الإنسان، وفك القيود ونسف السدود، فلا يحول مانع من تجلي جوهرة الإنسانية وتجوهرها لتصبح الدنيا بأسرها بداية الشوط والمزرعة، ويتواصل التحليق في أعلى الذرى حتى في الآخرة " ورضوان من الله أكبر".

ويريد اعتماد الإستغراب دليلاً زرع هذا المدى كله بالسدود، وجعل كل هذه السدود قيوداً تثقل كاهل النفس، فإذا بها ترسف في الأغلال، وتنوء تحت الإصر، متنقلة بين ذلك كله القهقرى متراجعة من العالمية إلى القطرية، فالقبلية، ومنها إلى "الأنا" لتتخذها الوطن النهائي والمستقر والمتراس الذي منه تشن الحرب على الحقيقة.

لا يعني سد منافذ الغيب إلا سد منافذ العقل، وعندما يتم ذلك بالإستغراب دليلاً يكون الجاهل رائد العلم، وكفى بذلك دوامة.

يقول الإمام الخميني:

"إن الخطوة الأولى هي الخروج من حجاب الإنكار، الكثيف، الذي يمنع من أي نمو وأية خطوة إيجابية، وهذه الخطوة -الخروج من حجاب الإنكار- ليست كمالاً، إلا أنها تفتح الطريق نحو الكمال، كما أن اليقظة التي تعتبر في منازل السالكين المنزل الأول لا يمكن حسابها من المنازل، بل هي مقدمة وفتح للطريق إلى سائر المنازل."

يضيف:

"على كل حال لا يمكن مع روح الإنكار الإهتداء إلى طريق يوصل إلى المعرفة،." (70)

ومن المهم جداً التنبه إلى أن جميع المحاور التي تقدم الحديث عنها تحت عنوان الظاهر، تواجه باستغراب بل بإنكار شديد، تماماً كما هو الأمر بالنسبة إلى جميع المحاور الفرعية التي تم استعراضها في ذيل المحور السادس، والأهم من ذلك التنبه إلى أن هذا الإستغراب وما ينتج عنه من تشديد النكير أدى إلى "انسداد باب العلم" عند المستغربين، فإذا بهم عاجزون عن تقديم تصور متكامل للفكر الذي يدعون إليه، ميالون بشدة إلى إخفاء المغيبات في القرآن، فضلاً عن السنة، يخجلون من الحديث عن "البقرة" التي أحيا الله ببعضها ميتاً و"الحمار" الذي نشزت عظامه وكساها الله لحماً، و "النملة" التي تتدخل في الشأن السياسي و "الهدهد" الضابط الأمني المتمرس، وما شابه مما يصدم روح العصر ويصنف في المغيبات، التي تكاد دلالتها تتماهى عندهم مع الخرافات، إلا حين تلجئهم الضرورة وهي تقدر بقدرها، فإذا غادرنا ساحة القرآن تماهت بل وتزيد.

ومن نتائج ذلك سد سبل تهذيب النفس وتزكيتها، فبدل أن تصاغ هذه النفس في مختبر الغيب الذي تشكل الشهادة بعض ظلاله، تحت مجهر الحقيقة التي هي غيب في غيب، يراد لبناء النفس أن يكون محطات تزود بالوقود الإيماني، وكأن الأمر مجرد رفع العتب، الذي يسمح بالإكتفاء بأقل الحد الأدنى.

إننا أمام مشكلة أزمة، هي في حقيقتها اعتماد الإستغراب دليلاً، أدت إلى إحلال الإيمان بالشهادة في موقع الإيمان بالغيب، وهنا تكمن كل مظاهر الأزمة الثقافية والفكرية، والعجز بالتالي عن بناء النفس كما يريد النص المعصوم.

ولإنكار درجات انفتاح من عني بتهذيب نفسه وتزكى، على الغيب، الذي يتجسد في إنكار مقامات العارفين، النصيب الأوفى في ذلك من بين كل الأسباب.
وتكمن الخطورة في كون ذلك إعلاناً للحرب على الغيب نفسه بدليل الإستغراب، وهكذا قد يتحول حارس الفكر الغيبي إلى محارب.

يقول الإمام الخميني حول ذلك:

"ما أوصيك به في الدرجة الأولى، هو أن لا تنكر مقامات أهل المعرفة، فهذا دأب الجهال، واحذر معاشرة المنكرين لمقامات الأولياء، فإنهم قطاع طريق الحق".(71)

الزخرف

ورد عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: "كل شيء مردود إلى كتاب الله والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف"(72)

ويشكل المبدأ الذي يصدر منه هذا النص -وما يلتقي معه- أحد أبرز محاور الأبحاث العلمية المعمقة للعلماء المختصين بمقاربة النص المعصوم، يقفون عنده عادة في مجالات ثلاثة: العام والخاص، خبر الواحد، التعادل والتراجيح.

كما قد يتداخل مع بعض الأبحاث الأخرى كالنسخ.

ومن الأسئلة التي تجيب عليها هذه الأبحاث:
1- الفرق بين صحيح السند وغيره؟
(73)
2- حكم الشاهد أو الشاهدين من كتاب الله تعالى أو من السنة على كل نص.
(74)
3- الفرق بين ما لم يوافق كتاب الله تعالى وبين ما خالفه.
(75)
4- حكم ذلك في العقائد وحكمه في الفروع.
(76)
5- هل المراد عدم صدور ذلك عن المعصوم، أم أن المراد عدم حجيته، وهل بينهما فرق؟
(77)
6- كيف يمكن الحكم بعدم الموافقة، أو بالمخالفة.
(78)
7- الجمع بين هذه النصوص وبين ورود نصوص قطعية، لا توافق بظاهرها ظاهر كتاب الله تعالى أو تخالفه بالمعنى العام للمخالفة.
(79)
8- انقسام المخالفة: إلى التباين، والعموم من وجه، والعموم المطلق، وحكم كل من هذه الحالات.
(80)
9- ما هي مساحة المشكلة التي تواجه في هذا المجال في المسار العملي؟
(81)

إلى غير ذلك من التساؤلات الطبيعية التي تتفرع على بحث بالغ الحساسية والخصوصية والتخصصية من هذا النوع.

ومن أبرز التنائج التي توصلت إليها أبحاث العلماء، ما يلي:

أولاً: إن الأخذ بظاهر هذه الروايات، يتناقض مع روح التشريع، التي تحتم مخالفة العام في القانون للخاص، والعكس، وضرورة وجود المطلق والمقيد. (82)
ثانياً: إن بعض هذه الروايات مردود لأنه يخالف كتاب الله والسنة القطعية. (83)
ثالثاً: إن الثابت منها المتواتر معنى، يحتم فقط رفض ما يتباين مع القرآن الكريم بحيث تنتفي إمكانية الجمع العرفي بينهما.
(84)

أما الذي يحق له أن يحكم بأن هذا النص زخرف، فهو الذي يمكنه أن يقدم الدليل العلمي على عدم إمكانية الجمع بين هذا النص الذي يراه مزعوماً وبين القرآن الكريم والسنة القطعية.

بدون هذا الدليل، يصبح الخطر محدقاًً أن يفتح على مصراعيه باب نقض القانون الديني، وهدم الشريعة.

وبدون هذا الدليل يكون التلقي من النص هو الزخرف، ويبقى النص المتهم بلا دليل، "النص المعصوم" الذي لا ترقى إليه الأباطيل، فضلاً عن أن تنال منه، مهما راق زخرفها والبهارج.

ولن نجد صعوبة في الحكم بموضوعية على أغلب مقاربات النص، بأنها يتحكم بها التفلت من كل ما لا يحتمله المزاج، بتصور الركون إلى ركن شديد هو وهم الإستناد إلى المعصوم لرفض هذا النص.

إنه التلقي الزخرف، الذي يجب أن ينأى البحث العلمي بنفسه عنه.

يصرح العلماء في هذا الباب بما يلي:

1- "نقطع بصدور الأخبار المخالفة لعموم الكتاب أو إطلاقه من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، والأئمة الأطهار عليهم السلام، بداهة كثرة صدور المخصصات والمقيدات عنهم عليهم السلام لعموماته ومطلقاته، فلو كان مثل هذه المخالفة مشمولاً لتلك الروايات فكيف يمكن صدورها عنهم؟" (85)

2- إن "نفس الإستنكار والتحاشي قرينة عرفية على تقييد المخالف بما كان يقتضي طرح الدليل القرآني وإلغاءه رأساً، فلا يشمل المخالف بالتخصيص والتقييد ونحوهما مما لا استنكار فيه بعد وضوح بناء البيانات الشرعية على ذلك". (86)

3- "المراد من المخالفة في هذه الاخبار هي المخالفة بنحو لا يكون بين الخبر والكتاب جمع عرفي كما إذا كان الخبر مخالفا للكتاب بنحو التباين أو العموم من وجه".." للعلم بصدور المخصص لعمومات الكتاب والمقيد لإطلاقاته عنهم عليهم السلام كثيراً، إذ لم يذكر في الكتاب إلا أساس الأحكام بنحو الإجمال، كقوله تعالى: "أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" وأما تفصيل الأحكام وبيان موضوعاتها فهو مذكور في الأخبار المروية عنهم عليهم السلام. وإن شئت قلت ليس المراد من المخالفة".."هي المخالفة بالتخصيص والتقييد." (87)

والنتيجة العملية التي يخلص إليها العلماء جميعاً، هي ما عبر عنه أحد كبارهم حين قال:

"إن طرح خبر الواحد، الذي يجب العمل به لولا المخالفة، بمجرد ظن ضعيف حاصل من الإعتبارات والإستقراءات الناقصة، في غاية الجرأة". (88)

وبديهي أن تبلغ هذه الجرأة ما بعد الغاية، إذا كان مثل هذا الطرح لا يقيم وزناً لقوة سند النص، ولا يأبه بإمكانية الجمع العرفي التي يقتضي عدم الإلتزام بها الجرأة على الحكم بأن في القرآن الكريم ما يناقض بعضه بعضاً!

والمثال الذي يوضح ذلك، هو كل نص من الروايات، ينسب فيه إلى غير الله تعالى ما يمكن أن يوكل الله تعالى به من نسب إليه ذلك، فالحديث عن أن فلاناً يقوم بهذا الأمر بما هو موكل لا ينافي أن الله تعالى وكله بالقيام به، إن الجمع العرفي هنا ممكن وهو أن هذا ناظر إلى من وَكَّل وذاك ناظر إلى الوكيل، وبذلك نخرج من دائرة المخالفة والتناقض، كما قد يتوهم من بعض فقرات الزيارة الجامعة، التي تتحدث عن إياب الخلق وحسابهم.

وهذا الجمع العرفي نفسه هو الذي لابد من اعتماده، لفهم عدم التناقض بين قوله تعالى: "ألله يتوفى الأنفس حين موتها،." [الزمر 24] الذي ينسب عملية الإستيفاء والتوفي إلى الله تعالى، وبين قوله سبحانه: "قل يتوفاكم ملك الموت" [السجدة 11] الذي ينسب عملية التوفي إلى الملك، ولا تناقض في ذلك لأن الملك إنما يقوم بهذه المهمة باعتباره موكلاً، بدليل قوله تعالى في نفس الآية "الذي وكل بكم".

إن رفض إمكانية الجمع العرفي هذا بين "رواية" وبين "آية" لا ينسجم مع قبول هذا الجمع العرفي نفسه بين "آية" و "آية".

ولا يمكن أن يفهم الإصرار على هذا الإستنتاج بالتناقض بين الرواية والآية، إلا على أنه لا يصدر من منهجية سليمة في التلقي من النص، ولا يمكن أن يقنع ذلك أحداً بأن النص "زخرف".

وسيطرح سؤالاً عريضاً: أيهما الزخرف؟

مؤسف جداً أن نشهد حركة ناشطة، ترتكز إلى هذا "المنهج" في التلقي من النص والتعاطي معه، بدلاً من أن تستند إلى الدليل العلمي الذي يربأ بنفسه عن أن يبنى على استسهال إصدار الأحكام في دين الله تعالى اعتماداً على "الإستقراء الناقص" الذي تلقى أحكامه رواجاً وإطراءً من الأوساط التي لا تعنيها الحقائق الدينية إلا بمقدار ما تستهدفها للنيل منها.

والمؤسف أكثر أن لا تتضافر جهود جميع المعنيين لبلورة حقيقة أن علينا أن نبحث عن "الحداثة" في النص المعصوم، دون أن نحاول إصابته بكدوح أو خدوش، ترتد في الواقع علينا، وتكون خسارتنا هي الفادحة.

وتشهد الخسارة نقلة سلبية نوعية حين يُعتمد هذا "المنهج" بالجملة، ليصدر الحكم بالزخرف، لا على رواية أو عشر، بل على روايات باب بأكمله كالقول بأن روايات الثواب الكثير، لا توافق القرآن، بل تخالفه، أو أن روايات الأنوار التي كانت قبل الخلق، من الإسرائيليات، أو أنها لم تثبت، أو أن روايات منزلة أهل البيت عليهم السلام من وضع الغلاة، أو غير ذلك مما تقدم ما يدل عليه في محاور أصلية وفرعية، تحت عنواني "الظاهر" و "الباطن" بل إن غالب روايات تلك المحاور الأصلية، وجميع روايات المحاور الفرعية، التي تغادر المألوف المادي، يتم التعامل معها باستخفاف، ويتم شطبها أو تحييدها ومنع تداولها بادعاء أنها "زخرف".

وكما هو الحال في الفروع، فكذلك هو في الأصول، كما اتضح من ذكر بعض الموارد آنفاً، إن لم يكن أشد خطراً بكثير، الأمر الذي أصبح يحتم أن يتسم الموقف من هذه الظاهرة بما يتناسب مع مدى الضرر الذي يمكن أن تلحقه بأهداف النص المعصوم ومقاصد الشريعة.

ويتوقف ذلك على النظرة الموضوعية التي تتجاوز الخطابيات وردات الفعل، للنفاذ إلى أسبابها الحقيقية، والسلبيات التي نتجت وستنتج عنها إن بقي الأمر على هذا المنوال.

وفي الحديث عن الطيف الذي يعتمد هذه "المنهجية" في إلغاء كل نص يبدو له لأول وهلة مخالفاً لما يفهمه هو من كتاب الله تعالى، نجد أنه من السعة بحيث يشمل إلى جانب غير الإسلاميين "إسلاميين" تتماهى طروحاتهم في المنحى العام دائماً وفي بعض التفاصيل أحياناً مع المتعاملين مع النص المعصوم من خارجه، فينطلقون من الشك كقاعدة "فكرية" تنتظم فيها كل مطارحاتهم.

نحن إذاً أمام ظاهرةٍ شبكة تمتد من أقصى الخارج إلى أقصى العمق يشكل الإنطلاق من "الحداثة" كبديل للإجتهاد "الجواهري" في مقاربة النص عمودها الفقري، وتجد الكثير من تمظهراتها في المبدأ المشار إليه "كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف" ما تظنه المستند الشرعي والقانوني والفكري طريقتها "المتحررة" من رواسب الجهل! وقيود "السلف" في البحث والمقاربة.

وعندما نحاول أن نقوم بتصنيف علمي للألوان المتماهية في طيف الإعتماد على مبدأ الموقف من "الزخرف" نجد أن الإسلاميين وغير الإسلاميين ليسوا لوناً واحداً، فبين الفريقين من يحرص على البحث بروح علمية، إلا أنه يؤخذ بالجو العام الذي جعل من التلقي السيء لهذا المبدأ أساساً عاماً، بوسع كل "باحث" أن يصدر منه ولو كان الصدور على قاعدة "الإعتبارات والإستقراء الناقص".

كما نجد بوضوح أن أشد ألوان هذا الطيف اندفاعة وأكثرها اقتحاماً، وجرأة على طرح النصوص والضرب بها "على الجدار" لا ينحصر بغير الإسلاميين، بل يشكل هماً مشتركاً لـ"طليعيين" من الفريقين.

إلا أن الذي يميز بينهما هو أن "الموضوعيين" من غيرالإسلاميين يدركون - عادة - أنهم يقاربون نصاً هم خارجه فيستقوون بالإسلاميين، ويتسلحون بـ"واقعيتهم" و "استنارتهم" لتحقيق أهداف "موضوعية" هي في الغالب أبعد مما يرمي إليه الإسلاميون.

وليس "الإسلاميون" جميعاً على نسق واحد، فإن الغالب منهم، من المقلدة الذين لا يجرؤون على تجاوز المتعارف عليه من الحدود، ما لم يستقووا بجرأة غيرهم على النص.

يعني ذلك أن المشكلة "إسلامية" المنشأ والخطورة.

ومؤسف أن يقودنا التأمل إلى أنها من "ظواهر" الإسلام الحركي، وأنها يجب أن توضع في موقعها الطبيعي من مساره، فذلك ما يتيح رصد بذرتها ومراحل نموها، وصولاً إلى توقع ما يؤول إليه أمرها.

ولا شك أن من التجني التشكيك في نية كل إسلامي يطرح هذا المبدأ، وإنكار أن المنطلق عادة هو حسن النية، الذي لا ينافي الإمعان في الخطأ أحياناً، ولا تجاوز مشارف الضلال.

هكذا يمكننا مغادرة الإرتجال في التصدي لحالات نظنها فردية، فنستسهل صعباً، ولا نصرف الجهد في مواجهة الظاهرة بموضوعية.

وفي الحديث عن الأسباب، لا يصح استبعاد موقف العلماء من مواكبة الإسلام الحركي، الذي تُرك -غالباً- يتدبر أمره بنفسه، دون رعاية "فقهية" منفتحة على مشاكل العصر، كما لا يصح استبعاد موقف الإسلام الحركي نفسه الذي وإن كان قد أجاد في طرح الإسلام كحل وحيد مما تعاني منه الأمة، إلا أنه ظل عاجزاً - بشكل عام- عن تبني تصور متكامل يحظى بالإستناد إلى رؤية فقهية وعقائدية بطريق أولى، تنسجم مع الثوابت، وتتعامل مع النقاط الحرجة بما يحفظ الأصالة ويلبي التوجه العام الذي يجمع عليه الفقهاء المعترف بفرادتهم.

ولست بصدد تحديد المسؤولية، ولا أنا من أهلها فهي أكبر حتى من عصري، إلا أني بصدد القول إن هذين العاملين وبقطع النظرعن تحميل المسؤولية، قد عبرا عن نفسيهما في انفصام بين الإسلام الحركي وغير الحركي، ولا يمكن للأول أن يتصور أنه لا يشكل امتداداً ولو بشكلٍ ما للثاني، كما لا يمكن للثاني، أن يتبرأ من الأول، وإن تبرأ من بعض تجلياته، ويكفي دليلاً أن الأعداء لا يفرقون بينهما، مهما بدا الأمر مختلفاً.

لقد شكلت انطلاقة الإسلام الحركي في المدى العملي، دون المواكبة الكافية أوالشاملة، إلى مواجهة تحديات عملية، زاد من صعوبتها المفرطة أن الغلبة للآخر، فهو الذي يمسك بتلابيب الساحة العالمية اقتصادياً وفكرياً وثقافياً وتربوياً واجتماعياً، قبل الحديث عن الأمن والسياسة، وهو ما يجعل منازلة الإسلاميين له، في غاية الصعوبة، لا يمكن إطلاقاً أن يفكر بخوض غمارها عاقل بالمعنى المعروف للعقل، إلا إذا كان اكتمال العقل عنده يجعله يفكر بما لا يفكر به الآخرون، ويصدر مما لا يصدرون منه، ويبني حساباته على ما لا يخطر لهم ببال، إنه الإيمان بالغيب، والتوكل على الله تعالى على قاعدة "وأعدوا لهم ما استطعتم" "أبى الله إلا أن يجري الأمور بأسبابها" ولكن في نفس الوقت على قاعدة "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله".

ومن الواضح أنها معادلة "كبيرة إلا على الخاشعين" الذين يقوى فيهم الإيمان بالغيب، فيعمر قلوبهم ويشتد به ساعدهم، ويمضون قدماً على بصيرة من أمرهم، يملأ حب الناس - من فيض حب الله تعالى - قلوبهم، ويرون خدمتهم عبادة له عز وجل، فلا تصرفهم التجاذبات العملية الميدانية مهما كانت رياحها عاتية، عن إقام الصلاة وتعاهد السرائر، وحفظ الحدود، ولا يصغرون كبيراً أو العكس بل يرون الأمور- بنور تعلق قلوبهم بحقائق الغيب - كما هي، فإذا بهم الواقعيون وأولو الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض.

وبديهي أن مثل هذه الرؤية لا تتأتى إلا على قاعدة أن عالم الشهادة الممر إلى المستقر، التي لا بديل عنها في عملية إعداد الفرد والجماعة إعداداً صلباً يستعصي على الإلتواء، والإستبدال والإستلاب والإنقلاب على الأعقاب.

وليست عملية الإعداد هذه بالمهمة السهلة التناول، أو العزيزة المنال فحسب، بل إن دونها شح الأنفس وشقها، وذهاب أنفس الأولياء حسرات.

إن بناء نفس واحدة عملية كثيرة المسالك، شديدة المهالك فكيف هو الحديث عن إحيائية إسلامية ساحتها الأمة، ينفتح خطابها على جميع الأحرار في العالم؟

إلا أن ثمة مؤشراً وحيداً يدل حصرياً على مدى إمكانية النجاح أو الفشل.

إنه مدى حضور الغيب في عملية البناء هذه، فإن كان حضوره أكثر مما ينبغي بحيث يلغي عالم الشهادة، أو كان أقل بحيث يطمسه عالم الشهادة كلياً أو جزئياً فذلك الطريق إلى الفشل والإختلاف وذهاب الريح.

تلازم الإسلام الحركي مع روح التغيير والثورة، وهي ضرورة، إلا أن الضرر يكمن دائماً في سريان روح التغيير إلى مواجهة ما يتوهم أنه لابد من تغييره، وقد اقتلعت رياح الثورة هذه بعض مظاهر الإيمان بالغيب وتعبيراته.

وتلازم الإسلام الحركي مع تقديم الإسلام باعتباره "مشروع المستقبل" ولا شك في أن ذلك بالغ الدقة، شديد الأهمية، إلا أن الضرر كمنَ هنا أيضاً في الروح الإنتقائية، التي تعرض من الإسلام ما ينسجم مع روح العصر وتخفي منه ما تظنه متخلفاً، واقتلعت رياح الحداثة والمستقبل بعض مظاهر الإيمان بالغيب أيضاً.

وتلازم الإسلام الحركي مع الحرص على أن تكون له مؤسساته الأهلية التي تحمل أطروحته وتساعد على تفعيل حركتها التغييرية في المجتمع، إلا أن المتطلبات العملية لمحاكاة المؤسسات "المتفوقة" التي ترتكز إلى ثقافة معادية، كانت المكمن الذي يتيح للمحاكى أن ينقض على قاعدة التدرج البطيء الذي لابد وأن يحقق نتائجه يوماً.

وشهدت الساحة التربوية - وغيرها- وماتزال تنظيراً لهذه المحاكاة حتى في بعض أسوأ صورها، وهي تتم دائماً على حساب التربية الإيمانية القائمة على قاعدة اليقين بالغيب، لحساب التربية الهجينة التي تنطلق من الإيمان بالغيب، وتبذل كل ما في وسعها لتقديم عالم الشهادة على أنه - وحده- الواقع الموضوعي.

وليس هذا التنظير إلا بعض تعبيرات التنظير الكلي الذي اضطر الإسلام الحركي إليه للمواءمة بين النظرية والتطبيق، وإثبات أنه مايزال على صفاء انطلاقته الأولى لم يلبس إيمانه بظلم.

وتبلغ الحاجة إلى هذا التنظير الذروة، حين يحرز تيار إسلامي تقدماً على صعيد الإلتفاف الجماهيري حوله، فيضطر إلى اعتماد التكتيك في بعض المجالات أو الكثير منها، وتبدأ الإستراتيجية تترنح تحت عدوان التكتيك عليها.

في هذا السياق ينبغي أن توضع هذه الظاهرة الأخطر التي يواجهها الفكر الإسلامي، فهو الذي شكل ومايزال المناخ الذي ترعرع فيه الخلل المنهجي في تطبيق مبدأ "كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف".

لقد تدرج التنظير حتى بدأ يقدم طروحاته بقوالب جديدة هي بيت الداء.

كان "الزخرف" في البداية كل قيد لا يحتمله المزاج، لأنه لا يوافق مبدأ "يريد الله بكم اليسر" وقد شمل ذلك التحلل من المستحبات والمكروهات.

ثم صار "الزخرف" منصباً على بعض أسوار الواجبات والمحرمات، كالحجاب والربا، وحقوق المرأة، ومجالس اللهو، وغير ذلك كثير.

ثم انصب "الزخرف" على الفهم الرجعي للمبدئية والمصلحية، التي تضيِّق هامش المناورة فيخسر "الحُوَّل القلب وجه الحيلة".

وبلغ السيل الزبى حين تراكمت "فلتاتٌ" كما كان يغلب الظن، فإذا بها تبدأ بالتعبير عن نفسها كـ"منهج" في الإجتهاد في العقيدة والفقه يؤسس لمرحلة جديدة تتحقق فيها القطيعة بين الإسلام الحركي وجذوره والمنطلقات.

ولا يمر الطريق إلى تخفيف حدة هذه المعضلة بالتراشق وكيْل التهم، بل هي جديرة بإعطائها الأولوية في سلم الإهتمامات، والعكوف على حصر أضرارها، على قاعدة مراعاة التخصصية، فيترك للحركي أن يقدم تصوره والحيثيات، ويترك للفقيه حق الإجتهاد والإستنباط.

أما حل هذه المعضلة فهو بحث آخر لا أتصور أن بالإمكان تحققه.

ولقد كانت فرصة للإسلام الحركي، شكل تضييعها خسارة لا تعوض، لو أن أطيافه التقت - في الحد الأدنى- على رؤية الإمام الخميني في بناء الشخصية الإسلامية، كما كانت فرصة أخرى ماتزال - نظرياً- ممكنة، الإلتقاء تحت مظلة قيادة واحدة هي "ولاية الأمر" لما في ذلك من التزام بوحدة الأمة وفوائد عملية، من أهمها أن يتعلم الجميع كيف يمكن أن نلتقي عقائدياً وفقهياً على رؤية واحدة، بدلاً من التأسيس لما يمكن كل مفصل أو كادر حركي أن يصبح المرجع الحركي والعقائدي والفقهي في آن، والآتي أعظم.

إن محاولة استشراف ما يمكن أن يبلغه مستقبلاً التفلت من النص في إطار الإسلام الحركي بتوهم أن كل ما خالف فهمنا فهو زخرف، تتيح التوافق على أهمية هذه المشكلة وأولويتها، وأن الحديث عنها ينبغي أن يأخذ مداره الطبيعي باعتبارها إحدى أبرز المشاكل التي تعترض التواصل المنهجي مع النص المعصوم.

لئن كان نصف قرن من الإسلام الحركي كافياً لإيجاد هذا الشرخ بين الفقه التخصصي والخروج عليه بحجة الدفاع عن روح التشريع، فماذا يخبئ المستقبل على أيدي خريجي هذا "المنهج" المنسجم مع الغارة التي تشن من الخارج على معاقل النص المعصوم.

ولا ينبغي الغفلة عن أن سياسة الإحتواء لا تقتصر على الميادين السياسية، بل هي بالثقافة أشد التصاقاً، بل هي إنما تدخل الميدان السياسي من باب الفكر والثقافة.

وكما تشكل الواقعية الملتبسة في السياسة مكمن التراجع الأول ليشكل بدوره رأس الجسر لموجة الإحتواء السياسي، يشكل التطبيق المغلوط لمبدأ "الزخرف" رأس الجسر لموجة الإحتواء الثقافي، وما تحَوُّل هذا التطبيق إلى "الظاهرة الزخرف" خلال نصف قرن تقريباً إلا توكيد لذلك.

إنها نفثة الصدر التي تريد أن تؤكد أن الخطر الأكبر الذي يتهدد فهمنا للمعصوم والنص، هو خطر ذاتي، يبني الآخرون على نتائجه، ليلقوا بنا في مهاوي "التاريخانية" وقفار المادية.

ولا تنكر هذه النفثة وجود أفراد "إسلاميين" لا يصنفون في خانة الإسلام الحركي يصدرون من نفس "الشبهة في مقابل البديهة" إلا أنهم محاصرون لا تحظى طروحاتهم بالإمتداد والتأثير.

هل هذا هو السر في تأكيد الإمام الخميني على ضرورة مراعاة المنهجية التي دأب على اعتمادها السلف الصالح، حتى بات مصطلحا "الفقه الجواهري" و "الفقه التقليدي" معروفين عنه؟


هوامش

(1) يأتي مزيد إيضاح في الفصل الرابع.
(2) النصوص في هذا المجال كثيرة جداً، تجد بعضها في كتب التفسير حول الآية المباركة "تبيان كل شيء" وفي بصائر الدرجات، وأصول الكافي، والبحار، حول علم المعصوم النبي والإمام، وانظر الميزان في تفسيرالآية "وعلم آدم الأسماء كلها".
(3) الإمام الخميني، صحيفه نور ج1/9 وج2/218 - 219.
(4) ينفع في هذا المجال التأمل في نصوص خاتمية الإسلام المحمدي، ونصوص اكتمال المعرفةعند ظهور المهدي المنتظر عليه السلام، وبثه العلوم الهائلة في الناس، لاحظ الفصل الرابع "ضيعه قومه".
(5) صحيفه نور، ج3/226، من خطبة في مسجد الشيخ الأنصاري في النجف الأشرف، بتاريخ 14 شوال، 1397 هجري قمري=عام 78م، وانظر صدر المتألهين الشيرازي، الأسفار الأربعة ج9/157.
(6) أنظر: صدر المتألهين، الأسفار ج9/295 وفيه رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: إنما هي أعمالكم تُرد إليكم.
(7) عن رسول الله صلى الله عليه وآله، المجلسي، بحار الأنوار ج65/131، والسيد محسن الأمين، لواعج الأشجان/241
(8) ابن أبي الحديد، شرح النهج 1/247.
(9) كان من الصحابة، أرسله رسول الله صلى الله عليه وآله يخطب ابنة أحد كبار شيوخ العشائر، وقد تزوجها، في مجريات هامة. أنظر المجلسي، بحار الأنوار ج22/117 - 122.
(10) صدر الدين الشيرازي، الأسفار الأربعة، ج9/5 و45 وفيه أورد الحديث الشريف: يحشر الناس على صوَر نياتهم، وانظر أيضاً ج9/ 157 و202 - 203 و227 وفيه: وكل ملكة تغلب على نفس الإنسان تتصور في القيامة بصورة تناسبها "قل كل يعمل على شاكلته" وأيضاً ص309 و337 و356 وانظر: الإمام الخميني، صحيفه نور ج4/147 - 156بتاريخ 17/10/1357هـ.ش =78م.
(11) انظر في تفسير الآية: الشيخ الطوسي، التبيان ج9/530 والطباطبائي، تفسير الميزان ج19/164، وقد أورد شطراً من كلام الشيخ البهائي حولها، وابن جرير الطبري، جامع البيان، ج27/301 والقرطبي في تفسيره ج17/256 وقد ذكرالسيد مصطفى الخميني في تفسيره ج3/48 - 49 ما يرتبط بالآية، وفي تفسير الميزان ج10/97 حديث عن أمير المؤمنين عليه السلام يرتبط بما نحن فيه، يصف الأولياء بأنهم "قوم،. نظروا إلى باطن الدنيا الخ،" وقد أورده ابن أبي الحديد في شرح النهج ج4/101، وانظر كلاماً له حوله ج2/77 كما أورده الشيخ المفيد في الأمالي ص86، وهو بمعنى قوله عليه السلام ". ومن أبصر بها بصرته، ومن أبصر إليها أعمته" شرح النهج ج6/238، وتجد فيه كلام الشريف الرضي حوله.
(12) بديهي أن المراد تقريب الصورة، وليس الجزم بفلسفة الأحكام.
(13) أنظر: الطباطبائي، تفسير الميزان ج1/121 وج2/179، وملا هادي السبزواري، شرح الأسماء الحسنى ج1/60 و76 وج2/110 والإمام الخميني، الأربعون حديثاً، ترجمة السيد الغروي، الحديث السادس والعشرون، ص453 - 456. والآداب المعنوية للصلاة، آخر الفصل الأول، ص119 وأول الفصل الخامس/349 وانظر403.
(14) الأربعون حديثاً/273، إصدار 1992، دار الرسول الأكرم، ودار المحجة البيضاء، بيروت.
(15) حديث شريف، الري شهري، محمد محمدي، ميزان الحكمة 8/247، باختلاف يسير، وهو مستفيض في المصادر الشيعية والسنية بلفظ واحد أحياناً، ومتفاوت أخرى.
(16) أنظر: السيد الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: "الله ولي الذين آمنوا، يخرجهم من الظلمات إلى النور،." الميزان ج2/345.
(17) يراجع: البهائي، الأربعون حديثاً، الحديث الثامن والثلاثون "التوبة".
(18) من النصوص في ذلك ما ورد في مصادر عديدة منها المصدر المتقدم وهو حديثه الثامن والثلاثون، والذي ورد في آخره: ". إن يوماً لكثير، من تاب قبل أن يعاين، قبِل الله توبته" والمراد بالمعاينة انفتاح عوالم الغيب أمام المحتضر.
(19) أنظر في ذلك: السيد الطباطبائي: تفسير الميزان، في تفسير قوله تعالى حول القرآن الكريم: تبياناً لكل شيء.
(20) المراد ما يظهر من اللفظ، وما يستظهر من معنى، وهو مبني على التسامح لتصوير موضوع الموازنة بين اللفظ والمعنى.
(21) أنظر: محمد اسمعيل ابراهيم، القرآن وإعجازه العلمي، ص174 (ط: دار الفكر العربي)
(22) الإمام الخميني، شرح دعاء السحر، 98.
(23) المصدر، 83.
(24) تحدث السيد الطباطبائي مراراً حول هذه الحقيقة، أنظر تفسير الميزان: 2/186 و290, و4/53 و5/378 و6/168 و7/67 و337 في تفسير قوله تعالى: أومن كان ميتاً فأحييناه. و8/103 و9/44 ورد فيه قوله: وبالجملة فللإنسان حياة حقيقية اشرف وأكمل من حياته الدينية الدنيوية يتلبس بها إذا تم استعداده بالتحلى بحلية الدين، والدخول في زمرة الاولياء الصالحين، كما تلبس بالحياة الدنيوية حين تم استعداده للتلبس بها وهو جنين انسانى، وانظر:ج12/341 و342 وج13/198 وج19/197 و272 وج20/174.
114- صرح عدد كبير من المفسرين بأن ذكر النور مفرداً والظلمات جمعاً في قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، للاشارة إلى وحدة الحق، وتشتت الباطل

(25) صرح عدد كبير من المفسرين بأن ذكر النور مفرداً والظلمات جمعاً في قوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور، وقوله تعالى: يخرجونهم من النور إلى الظلمات، للاشارة إلى وحدة الحق، وتشتت الباطل.
(26) المجلسي، بحار الأنوار ج33/155.
(27) أبو يعلى الموصلي، مسنده، ج7/147، والمجلسي، بحار الأنوار ج38/147 و261 و269.
(28) انظر مثلاً: المصدر السابق "المسند" والكليني، الكافي 2/175 وا77 وا79 و205 وج3/120 والشواهد بالمئات إن لم تكن أكثر.
(29) الشيخ المفيد، محمد بن محمد بن النعمان (336 - 413) تصحيح اعتقادات الإمامية، ص101 ط دار المفيد، بيروت 1414هـ، 1993م
(30) الشيخ بهاء الدين محمد بن الحسين بن عبد الصمد البهائي العاملي (الوفاة: 1031هج) مفتاح الفلاح، ط الأعلمي، بيروت، ص101 (في التعقيب) بعد صلاة الصبح.
(31) في تفسير قوله تعالى "فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد قال السيد الطباطبائي: "ولا وجه للغطاء إلا أن يكون هناك مغطى عليه، فقد كان ما يلقاه ويبصره من الجزاء يوم القيامة حاضرا" تفسير الميزان ج6/376.
(32) أنظر: سورة البقرة، 259.
(33) أنظر: سورة البقرة، 243.
(34) انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 14/315، والسيوطي، الدر المنثور 4/334، وتجد فيه الرواية المشار إليها عن رسول الله صلى الله عليه وآله، والتي أوردها في الميزان عنه، والثعالبي في تفسيره 4/99 والشوكاني، فتح القدير 3/424 وابن كثير في تفسيره في أكثر من موضع منها 3/202 وقريب من ذلك: القرطبي في تفسيره 11/334.
(35) لاحظ مثلاً قوله تعالى: "هنالك دعا زكريا ربه،." آل عمران - 38 والآيات بعدها وكيف أن الدعاء تسبب – بإذن الله تعالى- بأن تنجب العاقر، ولاحظ قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام "وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" آل عمران - 49, وحول العبد الصالح يقول لموسى عليهما السلام: "قال إنك لن تستطيع معي صبرا" وهو صريح بالعلم بما سيكون، وربما دل على علمه بما ستحدثه به نفسه، وحول نبي الله سليمان عليه السلام حكاية "عُلمنا منطق الطير" وقوله تعالى ". أمم أمثالكم،." وقوله عز من قائل: "لا تفقهون تسبيحهم" وقوله في نفس الآية المتقدمة من آل عمران حكاية عن عيسى عليه السلام "وأبريء الأكمه والأبرص، وأحيي الموتى،." وقوله سبحانه حكاية عنه إثر ولادته مباشرة "قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا" . وحول العبد الصالح (الخضر) ". آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما".
وحول بعض تفاصيل العلم اللدني وطرق الوصول إليه التي قد يأتي في سياقها "عمود من نور" انظر دلائل الإمامة للطبري الشيعي ط.مؤسسة البعثة/304، والهداية الكبرى للخصيبي ط.مؤسسة البلاغ، بيروت الطبعة الرابعة/240 و354 وبحار الأنوار ج25/40 و41 و48 و25/134 وغيره كثير، وحول ما يدل على "ضغط المعلومات" راجع الإختصاص للشيخ المفيد أو المنسوب إليه، تحقيق الغفاري، ط: جماعة المدرسين بقم ص/302 والبحار في موارد متعددة منها ج24/127 و41/290 و58/133، وحول تصرف المعصوم في ما ابتعد عنه يلاحظ قوله تعالى "قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ،." النمل - 40، وحول الثواب الكثير فإن جميع ما ورد في الروايات، ليس أكثر ولا أكبر من الثواب الذي وعد الله تعالى به على صلاة الليل: "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين" وقد ورد في تفسير ذلك أنه عبارة عن جزاء يفوق كل جزاء ذكر في القرآن الكريم. أنظر: النسائي، السنن الكبرى ج6/317 وابن حبان في صحيحه ج2/91 والطبراني، المعجم الكبير ج9/213 والطوسي، التبيان ج8/302 والطباطبائي، تفسير الميزان ج16/269.

(36) أوردته بتصرف من بحث هام ومطول، للسيد الطباطبائي في تفسير الميزان 6/369، ذكر فيه عدة نماذج حول عصمة الأنبياء، وقد تحدث حول آية ليغفر لك الله، في موارد متعددة منها: ج1/329, ج6/363 و368 وج9/286 والبحث المركزي حولها ج18/253 - 258 وانظر ص270 - 272 في البحث الروائي الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام في تفسير الآية في مجلس المأمون، وقد أورده عدد كبير من المفسرين، أنظر مثلا: الفيض الكاشاني في التفسير الصافي5/38 والحويزي في تفسير نور الثقلين 4/443، وحول معنى الآية، وبعد ذكر الوجوه التي تذكر عادة، قال الشيخ الطوسي: وهذه الوجوه كلها لا تجوز عندنا، لأن الأنبياء عليهم السلام لا يجوز عليهم فعل شيء من القبيح لا قبل النبوة ولا بعدها، لا صغيرها ولا كبيرها،." التبيان 9/314.
(37) المصدر السابق ص368 /370.
(38) الإمام الخميني، شرح دعاء السحر، ص98.
(39) نفس المصدر/97.
(40) نهج البلاغة (عبده) ج3/136 (ط: مكتبة المعرفة، بيروت) من وصية الإمام لعبد الله بن عباس حين وجهه للإحتجاج على الخوارج، وانظر كلام الشريف الرضي حوله في المجازات النبوية ص251 - 252 وقد ذكر حديث الظهر والبطن ثم قال: "وقد قيل في ذلك أقوال: منها أن يكون المراد أن القرآن يتقلب وجوهاً ويحتمل من التأويلات ضروباً، كما وصفه أمير المؤمنين علي عليه السلام في كلام له، فقال: القرآن حمال ذو وجوه، أي يحتمل التصريف على التأويلات، والحمل على الوجوه المختلفات. وقد ذكرنا هذا الكلام في كتابنا الموسوم بنهج البلاغة". وانظر: الشيخ المفيد، أوائل المقالات ص401.
(41) قال السيد نعمة الله الجزائري في نور البراهين ج1/182: وقد مدح الله تعالى أقواما على استخراج معاني القرآن، فقال: (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) وقال تعالى في قوم يذمهم حيث لم يدبروا القرآن ولم يتفكروا في معانيه: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها).
(42) فصلية "الحياة الطيبة" العدد الثامن، السنة الثالثة، شتاء 2002م، 1423هـ، "الثبات والتغير في فهم النص القرآني، في حوار مع سماحة العلامة السيد محمد حسين فضل الله"
(43) أنظر هامش 139.
(44) الطباطبائي، تفسير الميزان (م.م) ج1/7. وانظر: الأحسائي، عوالي اللئالي ج4/107، والمجلسي، بحار الأنوار ج98/78 باب أن للقرآن ظهراً وبطناً، وص90، والنمازي، مستدرك سفينة البحار ج8/455.
(45) المصدر ج3/72.
(46) المصدر ص73. وانظر: محمد بن مسعود العياشي، تفسيره، ج1/11. وانظر كذلك: الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، ج1/5.
(47) المصدر، ص74.
(48) - الهيثمي (نور الدين، الوفاة 807هـ) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، ج7/152. (دار الكتب العلمية، بيروت، ط1408هـ 1988م) وانظر: الموصلي، أبو يعلى، مسنده، ج9/278.
(49) المناوي (محمد عبد الرؤوف الوفاة 1331) فيض القدير شرح الجامع الصغير، ت: أحمد عبد السلام، ج3/60 (ط: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى 1415هـ)
(50) الكتاني (أبو الفيض (محمد بن) جعفر حسن الإدريسي، الوفاة345) من هدي الحديث النبوي، نظم المتناثر،.، ص18 (ت: شرف حجازي، ط2، دار الكتب السلفية، مصر). وقد ورد فيه ص137 ما يلي: "أنزل هذا القرآن على سبعة أحرف". أورده في الأزهار في كتاب الأدب من حديث (1) عمر (2) وعثمان (3) وأبي بن كعب (4) وأنس (5) وحذيفة بن اليمان (6) وزيد بن أرقم (7) وسمرة بن جندب (8) وسليمان بن صرد (9) وابن عباس (10) وابن مسعود (11) وعبد الرحمان بن عوف (12) وعمر بن أبي سلمة (13) وعمرو بن العاص (14) ومعاذ بن جبل (15) وهشام بن حكيم (16) وأبي بكرة (17) وأبي جهم (18) وأبي سعيد الخدري (19) وأبي طلحة الأنصاري (20) وأبي هريرة (21) وأم أيوب أحد وعشرين نفسا. (قلت) ورد أيضا من حديث (22) ابن عمر (23) وعبادة بن الصامت (24) وعبد الله بن عمرو بن العاص وفي الإبريز قال أبو عبيد وغيره من حفاظ الحديث أنه من الأحاديث المتواترة اهـ. وفي شرح المواهب في كتاب المعجزات والخصائص هو متواتر رواه أحد وعشرون صحابيا ونص على تواتره أبو عبيد اهـ. وذكر السيوطي في شرح لألفية العرافي أنه رواه نحو الثلاثين وقال أبو يعلى الموصلي في مسنده الكبير أن عثمان قام خطيبا على المنبر وقال أنشد الله امرءا سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول أن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف فقام الصحابة من كل جانب حتى ما أحصى عددهم وكل واحد يقول أنا سمعته يقول ذلك فقال عثمان وأنا سمعته يقوله وممن نص على تواتره من غير أبي عبيد والسيوطي الحاكم انظر شرح الموطأ للزرقاني وقد أفرد الكلام على هذا الحديث بالتأليف جماعة كالحافظ أبي شامة وغيره. وانظر: الطبراني، المعجم الأوسط ج1/236 "لكل حرف ظهر وبطن" والمعجم الكبير ج9/136 "لكل حرف حد ولكل حد مطلع" وج10/106 "ولكل آية منها ظهر وبطن" والزمخشري، الفائق في غريب الحديث، ج2/308 "لكل حرف منه حد ولكل حد مطلع. أي مصعد يصعد إليه في معرفة علمه". والسيوطي، الجامع الصغير ج1/418 "لكل حرف منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد، ولكل حد مطلع" والمتقي الهندي، كنز العمال ج2/53 "لكل حرف منها ظهر وبطن، ولكل حرف حد ومطلع" وص55، وفي ص602 قوله: "ان القرآن أنزل على سبعة أحرف (ط ت وقال حسن صحيح قد روي عن أبي بن كعب من غير وجه) وانظر أيضاً: المناوي، شرح القدير ج2/692، وفيه قوله: "من المعاني المتفقة بألفاظ مختلفة على ما سلف تقريره وغلَّط أبو شامة من زعم أن المراد القراءات". وغير ذلك كثير. ولم أجد في حدود تتبعي رأياً مغايراً إلا لابن حزم الأندلسي في الإحكام في أصول الأحكام ج3/271 حيث يقول: "أنبأ مسلمة بن علي، عن هشام، عن الحسن أن رسول الله (ص) قال - فذكر حديثا، وذكر فيه القرآن وفيه: وما منه آية إلا ولها ظهر وبطن، وما فيه حرف إلا وله حد ولكل حد مطلع. قال علي (هو اسم ابن حزم): هذه كلها مرسلات لا تقوم بها حجة أصلا، ولو صحت لما كان لهم في شئ منها حجة بوجه من الوجوه، لانه لو كان كما ذكروا لكل آية ظهر وبطن، لكنا لا سبيل لنا إلى علم البطن منها بظن، ولا بقول قائل، لكن ببيان النبي (ص) الذي أمره الله تعالى بأن يبين للناس ما نزل إليهم، فإن أوجدونا بيانا عن النبي (ص)، بنقل الآية عن ظاهرها إلى باطن ما صرنا إليه طائعين، وإن لم يوجدونا بيانا عن النبي (ص)، فليس أحد أولى بالتأويل -في باطن ما تحتمله تلك الآية- من آخر من (كذا) تأول أيضا. ومن الباطل المحال أن يكون للآية باطن لا يبينه النبي (ص) لانه كان يكون حينئذ لم يبلغ كما أمر وهذا لا يقوله مسلم، فبطل ما ظنوه. وقد أتت الاحاديث الصحاح بحمل كل كلام على ظاهره".
(51) الآخوند (محمد كاظم) الخراساني (الوفاة 1328هـ) كفاية الأصول ج1/38 بتصرف يسير (ت وط: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث)
(52) تهذيب الأصول، تقرير أبحاثه، للشيخ جعفر السبحاني، ج1/72.
(53) السيد الروحاني (محمد) منتقى الأصول، تقرير أبحاثه للشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، ج1/318 - 320.
(54) تفسير الميزان ج3/48. بتصرف يسير.
(55) المصدر ج3 /64. وفيه إلى ص74 عدة أمثلة لتوضيح المراد
(56) الإمام الخوئي (السيد أبو القاسم) البيان في تفسير القرآن، ص224 (دار الزهراء، بيروت).
(57) تفسير الميزان ج3/44 - 46، بتصرف يسير.
(58) المصدر، ص49، وقد تناول السيد الطباطبائي مبحث التأويل، في العديد من مناسبات الحديث عنه في القرآن الكريم، أنظر ج1/6 و7 و13 و198 وج2/18 و73 و323 و347 وج3/21, و23 - 27 و32 و36 و38 و41 و43 وغيرها وأفرد بحثاً مستقلا له في ج3/44 - 55 ويرتبط به ما بعده إلى ص87 فلاحظ.
(59) أنظر بالإضافة إلى مبحث التأويل (الهامش السابق): تفسير الميزان ج8/135 و 138 - 139 و ج18/8.
(60) يندى جبين البشرية خجلاً لأبرز مظهرين من مظاهر التهافت في "الحضارة" المتخلفة الرائجة الآن، هما ما يجري على حلبات الملاكمة من عدوان صارخ على المشاعر والأحاسيس الإنسانية، سواء في الذي يسقط فريسة لخصمه الممعن في البطش به والتنكيل بطريقة "قانونية" أمام الحشود المتفرجة، وعدسات الكاميرات، أو في "المفترس" الذي يرى أن حيوانيته أثارت إعجاب الجماهير فيمعن فيها بكل فخر واعتزاز. وكذلك ما يجري في ساحات صراع الثيران، حين تصبح أرواح عدد من الناس رهن قرني الثور الهائج أو قرون الثيران، ولو لم يكن من دليل على " تشييء" الإنسان في هذا القرن إلا ما تقدم لكفى.
(61) تقدم تحت عنوان "حرية الفكر والخيانة العظمى" ما يضيء على هذه الإثارة، ويأتي ما يرتبط بها في الفصل الرابع.
(62) أنظر البجنوردي، السيد حسن، القواعد الفقهية، ج2/53، حول قاعدة "الإشتراك" في التكلبف، والأنصاري، الشيخ محمد علي، الموسوعة الفقهية الميسرة، ج3/304.
(63) ينقل الشهيد مطهري أنه وبعض زملائه من تلامذة السيد البروجردي، كانوا يستمعون إلى الرواية في مجلسه، فيسألهم ماذا فهمتم منها، فيجيبون، ثم يأخذ ببيان المعنى ممهداً بمقدمات، منها أن الراوي كان من البصرة مثلاً، وكانت لجو البصرة الخصائص التالية، وقد جرى توجيه السؤال في المدينة المنورة، وكان الجو فيها مختلفاً بما يلي،وبناءً عليه فقد راعى الإمام في الإجابة هذه الخصوصيات ويتضح ذلك بملاحظة النص في الموارد التالية. فتتبدل دلالة النص جذرياً في ضوء هذه المعطيات.
(64) أنظر: الشيخ الطوسي، عدة الأصول ج2, ص465والشيخ الأنصاري، فرائد الأصول (ط.ج) ج4/160و الطباطبائي، السيد علي، رياض المسائل (ط.ق) ج2/287و315والجواهري، الشيخ ج17/94,وج19/373وآقارضا الهمداني، مصباح الفقيه ج1ق2/617و الحكيم، السيد محمد سعيد، المحكم في أصول الفقه ج6/267.
(65) مبني على ما ورد بسند معتبر حول عمر نوح عليه السلام قبل النبوة وبعدها على مرحلتين قبل الطوفان وبعده، أنظر: الشيخ الصدوق، محمد بن علي بن الحسين، كمال الدين وتمام النعمة ط.جماعة المدرسين، 1405 هج.ت: الغفاري.ص133. وانظر الراوندي، قطب الدين، الخرائج والجرائح 2/964والمجلسي، بحار الأنوار11/285, وانظر ما ورد في الهامش، وكذلك في هامش 290 عن المسعودي المؤرخ المعروف، في إثبات الوصية ص17.
(66) إشارة إلى الحديث القدسي "أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام: لا تجعل بيني وبينك عالما مفتونا بالدنيا، فيصدك عن طريق محبتي، فإن أولئك قطاع طريق عبادي المريدين، إن أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم" أنظر: الشهيد الثاني، زين الدين بن علي العاملي (وفاة966) منية المريد ط مكتب الإعلام الإسلامي_قم، 1409هج، ت: رضا مختاري ص138والحر العاملي، محمد بن الحسن (وفاة 1104) الجواهر السنية في الأحاديث القدسية ص81.
(67) الإمام علي عليه السلام، نهج البلاغة، ت: الشيخ محمد عبده، ط، دار المعرفة - بيروت.ص99 - 100.
(68) أنظر في معنى الكبر: الطريحي، تفسير غريب القرآن ص274، والراغب الأصفهاني، مفردات غريب القرآن "كبر" وفي تفسير الآية: الطوسي، التبيان، ج9/88وفيه: ما هم ببالغي مقتضاه ولا نالوه لان الكبر إنما يعمله صاحبه لمقتضى ان يعظم حاله، وهؤلاء يصير حالهم إلى الإذلال والتحقير بكفرهم فلا يبلغون ما في صدورهم من مقتضي كبرهم. وانظر: الفيض الكاشاني، التفسير الصافي، ج4/345 والتفسير الأصفى ج2 / 1104 والطباطبائي، الميزان، ج 17/ 341 وفيه: "حصر للسبب الموجب لمجادلتهم في الكبر أي ليس عاملهم في ذلك طلب الحق أو الارتياب في آياتنا والشك فيها حتى يريدوا بها ظهور الحق، ولا حجة ولا سلطان عندهم حتى يريدوا إظهارها، بل الذى في صدورهم وهو الداعي لهم إلى الجدال، الكبر، يريدون به إدحاض الحق الصريح. وانظر: القرطبي في تفسيره ج15/324 وإبن كثير في تفسيره ج4/91 والشوكاني، فتح القدير ج4/497.
(69) في معرض شرح معنى الكبر، استعرض الراغب الأصفهاني في مفردات غريب القرآن، الآيات التي تتحدث عن الإستكبار والمتكبرين والمستكبرين، منها: (أبى واستكبر). وقال تعالى:" أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم" وقال:" وأصروا واستكبروا استكبارا. استكباراً في الأرض. فاستكبروا في الأرض. يستكبرون في الأرض بغير الحق". وقال:" إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء. قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون". "قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا" فقابل المستكبرين بالمستضعفين:"فاستكبروا وكانوا قوماً مجرمين. نبه بقوله فاستكبروا على تكبرهم وإعجابهم بأنفسهم وتعظمهم عن الإصغاء إليه، ونبه بقوله: " وكانوا قوما مجرمين". أن الذى حملهم على ذلك هو جرمهم وأن ذلك لم يكن شيئا حدث منهم بل كان ذلك دأبهم قبل. وقال تعالى: " فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون. وقال بعده:" إنه لا يحب المستكبرين".
(70) الإمام الخميني، بلسم الروح، ترجمة المؤلف، ط: دار التعارف - بيروت ط ثانية، 1992، ص48.
(71) صحيفه نور (فارسي) ج20/155، من وصية إلى ولده السيد أحمد، بتاريخ 15 ربيع الأول سنة 1407ه.ق.
(72) الشيخ الأنصاري (مرتضى، الوفاة 1281) فرائد الأصول، ط.ج ت: لجنة تراث الشيخ الأعظم. ن: مجمع الفكر الإسلامي - فم، 1419هـ.ق. ج1 ص243، عن الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج18/79، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 14.والحديث بهذه الصيغة مستفيض في المصادر.
وقد أورد الشيخ الأنصاري روايات كثيرة تقرب منه معنى منها: " أقرأني داود بن فرقد الفارسي كتابه إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام) وجوابه (عليه السلام) بخطه، فكتب: نسألك عن العلم المنقول عن آبائك وأجدادك صلوات الله عليهم أجمعين قد اختلفوا علينا فيه، فكيف العمل به على اختلافه؟ فكتب (عليه السلام) بخطه -وقرأته-: ما علمتم أنه قولنا فالزموه، وما لم تعلموه فردوه إلينا"
ورد في غير واحد من الأخبار: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "ما جاءكم عني لا يوافق القرآن فلم أقله" وقول أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام: "لا يصدق علينا إلا ما يوافق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله. وقوله عليه السلام: "إذا جاءكم حديث عنا فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به، وإلا فقفوا عنده، ثم ردوه إلينا حتى نبين لكم". ورواية ابن أبي يعفور قال: "سألت أبا عبد الله عليه السلام عن اختلاف الحديث، يرويه من نثق به ومن لا نثق به؟ قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهداً من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه وآله، فخذوا به، وإلا فالذي جاءكم به أولى به" وقوله عليه السلام لمحمد بن مسلم: "ما جاءك من رواية - من بر أو فاجر- يوافق كتاب الله فخذ به، وما جاءك من رواية - من بر أو فاجر- يخالف كتاب الله فلا تأخذ به". وقوله عليه السلام: "ما جاءكم من حديث لا يصدقه كتاب الله فهو باطل". وقول أبي جعفرعليه السلام: "ما جاءكم عنا فإن وجدتموه موافقاً للقرآن فخذوا به، وإن لم تجدوه موافقا فردوه، وإن اشتبه الأمر عندكم فقفوا عنده وردوه إلينا حتى نشرح من ذلك ما شرح لنا". وصحيحة هشام بن الحكم عن أبي عبد الله عليه السلام: "لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق الكتاب والسنة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة، فإن المغيرة بن سعيد لعنه الله دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وآله".

(73) أنظر: الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول (م.م) ج1/245 - 246.
(74) الإمام الخميني، تهذيب الأصول، تقرير أبحاثه للشيخ جعفر السبحاني، نشردار الفكر - قم، ج2/175 - 176. والإمام الخوئي، مصباح الأصول، تقرير أبحاثه للبهسودي ج2/149و151، (ط5 مكتبة الداوري، قم 1417هـ ق) والشهيد السيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، ج3/255 والسيد الحكيم (محمد سعيد) المحكم في أصول الفقه ج3/209 والشيخ عبد الهادي الفضلي، دروس في أصول فقه الإمامية، ط.أولى (1420) مؤسسة أم القرى للتحقيق والنشر، ص289. والسيد مصطفى الخميني، تحريرات الأصول، ج5/384
(75) الأنصاري، فرائد الأصول (م.م) ص247.
(76) السيد البروجردي، نهاية الأصول تقرير أبحاثه، ص329. والسيد مصطفى الخميني، تحريرات الأصول ج5/384. والشهيد السيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول ج3/254.
(77) الشيخ الأنصاري، فرائد الأصول (م.م).ص251.
(78) أنظر: الفاضل التوني (الوفاة 1071هق) الوافية في أصول الفقه، ص141 - 143 (ط.1، 1412هق، الناشر: مؤسسة مجمع الفكر الإسلامي، قم)
(79) الآخوند الخراساني (محمد كاظم الوفاة 1328 هق) كفاية الأصول ص237، تحقيق ونشر: مؤسسة آل البيت لإحياء التراث. وتقريرات البروجردي للشيخ بهاء الدين الحجتي، حاشية على كفاية الأصول، ص561 (ط، أ، 1412هق، مؤسسة أنصاريان - قم). والإمام الخميني، تهذيب الأصول ج2/58، والشهيد السيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، ج3/254.
(80) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، ص460، والعراقي (آقا ضياء الوفاة 1361هق) نهاية الأفكار (مؤسسة النشر التابعة لجماعة المدرسين - قم 1405هق) ج1/549وج4/196 - 197 وتقرير أبحاث الميرزا النائيني، للكاظمي (محمد علي الوفاة 1355هق) فوائد الأصول، ج4/791 - 792 (ط: 1، ج1409هق، مؤسسة النشرالإسلامي - قم) والإمام الخوئي، مصباح الأصول، تقرير أبحاثه للبهسودي، (م.م) ج2/149 - 150 وج3/406 و430، والإمام الحكيم (السيد محسن الوفاة1390هق) حقائق الأصول، ج2/598 - 599.
(81) كفاية الأصول (م.م) ص295 وانظر حول عبارته ما ذكره السيد الروحاني كاحتمال في بيان المراد، منتقى الأصول ج4/25. وانظر السيد البروجردي، حاشية على كفاية الأصول، ج1/562. والسيد الگُلبايگاني (الوفاة1315هق)، إفاضة العوائد، تعليقة على درر الفوائد، ج1/359 (ط 1، 1411هق، دار القرآن الكريم، قم)
(82) تحدث عن هذه النقطة بعنوان "محيط التشريع" الإمام الخميني، في تهذيب الأصول، وولده السيد مصطفى في تحريرات الأصول (لاحظ الهوامش المتقدمة) وكلمات العلماء تلتقي عندها وإن كان التعبير مختلفاً.
(83) المقصود بشكل خاص الحديث عن الشاهد والشاهدين. وتقدم في الهوامش ذكر مظان ذلك.
(84) لاحظ هوامش السؤالين السابع والثامن.
(85) الإمام الخوئي، محاضرات في أصول الفقه، تقرير أبحاثه، للفياض ج5/312
(86) الشهيد السيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، ج3/254.
(87) الإمام الخوئي، مصباح الأصول، تقرير أبحاثه، للبهسودي ج2/149.
(88) الفاضل التوني، الوافية (م.م) ص143