المقدمة

 حول مادة الكتاب
كانت أيام من عمر الجهاد الحسيني بصفحته الخمينية، تظل الصدارة ملازمة لها وإن تواصل الجهاد.
تماهى زخم انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وزخم أخبار "الجبهة" في الحرب المفروضة، حرب الدنيا كلها ببرقع صدامي ضد الإسلام، مع زخم تصاعد عمليات المقاومة الإسلامية في لبنان، فتشكلت لوحة فريدة لمناخٍ نسيج وحده، فإذا الغيب يقود الخطى، والبصيرة نافذة، والدنيا بحجمها، مزرعة نائية بالقياس إلى عالم الشهادة، وذرة تائهة لاترى بعين القلب المجردة بالقياس إلى الواقع الموضوعي الذي يشكل الغيب فيه الأصل والمحور والأساس، والذي تظل هذه الدنيا - رغم ما تقدم - الطريق الحصري إلى ذراه.

و كانت غربة المجاهدين المصقولة بالتنكر والإستهداف، المناخ الأفضل لتبلور جوهرة " أشداء على الكفار، رحماء بينهم " فإذا بأواصر التوحيد بلا شوائب الفتح، والمحمدية بلا مطامع، والعلوية بلا مواربة، تقدم هذا النموذج الذي سيظل على فرادته.

في هذا المناخ كانت "إذاعة النور" صوت الحق والهدى في غابة من الإعلام المضلل الماجن.

و كان من أصول "الإلتزام" في تلك المرحلة تواصل أذني القلب مع هذه الإذاعة التي بدأت متواضعة، وبقيت كذلك لفترة ليست قصيرة.

كان الأستوديو الذي كان يقال له ذلك، كقطعة قصيرة من زقاق ضيق، وضعت على جدرانه قطع إسفنجية كبيرة، بطريقة غير منتظمة.

و رغم ذلك كله كان الدور الذي أدته "إذاعة النور" تاريخياً مميزاً يرقى إلى الإسهام بقوة في تأسيس حالة المقاومة وثقافتها وجمهورها.

و متى كان العطاء يقاس بالإمكانات المادية؟ ونحن كأمة نتاج معركة فرضت، يذكر أن المسلمين كانوا يملكون فيها سيفين، ومئات من سعف النخيل.

و تعاظمت ثقافة المقاومة، وتنامت إمكانات "إذاعة النور" فاستقرت في موقعها الجديد.

في هذه المرحلة طلب مني مدير الإذاعة الأخ المجاهد السيد يوسف نور الدين على أبواب شهر محرم عام 1411للهجرة 1990 للميلاد تقديم برنامج يومي حول المناسبة، يستمر طيلة شهرمحرم.

أسجل هنا أني مدين لمبادرته الكريمة هذه التي ألزمتني بشرف البحث حول كربلاء.

و تم الإتفاق على أن يكون البرنامج باسم "في محراب كربلاء" وأن يكون البدء به قبل الأول من محرم بأيام، تهيئة للجو بالحديث عن المناسبة بشكل عام.

و قد وفق الله تعالى لاستمرار هذا البرنامج لمدة خمس سنوات متتالية - وكان في السنوات التالية يستمر طيلة شهري محرم وصفر- وقد توزع الحديث فيه كما يلي:

* السنة الأولى 1411 هجرية : تم استعراض النهضة المباركة باختصار مع نظرة تحليلية، وقد شمل الحديث ما وقع منذ خروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة، إلى رجوع السبايا إليها.(1)
* السنة الثانية 1412: تم فيها استعراض حوادث الكوفة بالتفصيل مع ترجمة عدد من أصحاب سيد الشهداء عليه السلام.
* السنة الثالثة 1413: مواصلة تراجم الشهداء الأصحاب.
* السنة الرابعة 1414: ترجمة القتلة لما في تراجمهم من دروس بليغة حول تبدل المواقف، وسوء العاقبة.
* السنة الخامسة 1415: حركة التوابين.

و كان المعدل العام لكل سنة - ماعدا الأولى- حوالي اثنتين وستين حلقة، تبدأ كل سنة بحديث لأيام كما مرت الإشارة حول عاشوراء عموماً.

و قد لوحظ في مادة الأيام الأولى أن تتكفل خلال سنوات البرنامج بتناول أهم العناوين العامة حول المناسبة، من قبيل: عاشوراء عند رسول الله وأهل البيت صلى الله عليه وعليهم، وثواب البكاء، وإحياء الذكرى وماشابه، فجاءت الحلقات الإفتتاحية التمهيدية متكاملة.(2)

و لم يقدر لباقي مادة هذا البرنامج – باستثناء السنة الأولى – أن يطبع، فظل حبيس الأشرطة والأوراق.

و ما بين يديك هو أكثر مادة السنة الثانية، اقتضى تخصيصها بأحداث الكوفة، إلحاق بعض تراجم الأصحاب رضوان الله تعالى عليهم، وقد كان في الأصل في سياق تراجمهم التي ستقدم إلى الطبع لاحقاً بحوله تعالى.

المنهج المعتمد

1- أعدت النظر جذرياً في المادة التي كانت قد أعدت سابقاً، فرجعت إلى كثير من المصادر بالأناة التي لا يتيحها برنامج يومي، خاصة وأن الجو العام آنذاك كان للجميع جوَّ انشغال ضاغط.

2- كان الظرف الذي تم فيه تقديم المادة في الإذاعة حافلاً بعمليات المقاومة الإسلامية، مضمخاً بدماء الشهداء، مثقلاً بغربة المجاهدين بكل مافي حديثها من شجون وشجون، وكان من الطبيعي أن تحظى الدروس الكربلائية بما يشمل الكوفية بعناية خاصة، حرصت في تقديمها الآن على الإحتفاظ بها ليبقى المنحى العملي - لا التنظيري -  الطابع العام.

3- يمكن اعتبار ما يأتي من حديث بداية تراجم أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، ويمكن اعتباره خاصاً بأحداث الكوفة، وذلك لأن معظم هذه الأحداث إن لم تكن كلها عبارة عن ترجمة شهيدين: هما مسلم وهانيء رضوان الله عليهما.

4- ستجد في مطاوي هذه الأحاديث الحرص على التعريف بكل شخص يرد اسمه في سياق أحداث كربلاء، موالياً كان أو معادياً، لما في ذلك من فوائد جمّة، أما بالنسبة للموالين فذلك واضح، وأما غيرهم فلأن العبرة بليغة جداً حين نعرف مثلاً أن شَبَث بن رِبعي كان أحد القادة الميدانيين في معسكر الإمام في صفين! علماً بأني لم أكتف في الترجمة للقتلة بما ورد في سياق مجريات الكوفة، بل أفردت للحديث عنهم جزءاً خاصاً - كما مر- عسى أن يوفق الله تعالى لطبعه، بعد إنجاز القسم الخاص بالأصحاب.

3- وقد حرصت على الإستقصاء في الترجمة لشهداء كربلاء، من أجل تقديم كل التفاصيل التي يمكنني الحصول عليها حولهم، مع العناية التامة بالتمييز بين المصدر الرئيس، والثانوي، وما ليس مصدراً، وللتفصيل في ذلك مجال آخر.

4- وبالنسبة لأصحاب الحسين عليه السلام، الذين استشهدوا في الكوفة، كان لابد من ترجمة الشهيد ميثم التمار الذي لايذكر في عداد أصحاب سيد الشهداء إلا نادراً، وكذلك الوقوف عند تراجم عدد ممن قيل إنهم استشهدوا ولم تثبت شهادتهم، وقد جاء ذلك كله في سياق تحليل أحداث الكوفة بدءاً بمراسلة أهلها الأولى للإمام، وحتى استشهاد القائدين مسلم وهانيء رضوان الله عليهما، وما نتج عنه مما يتيح فهم تسلسل الأحداث، وتوقع ردّات الفعل، ثمّ تقويمها والبناء عليها بشكل أدق.

و قد كنت في ترجمتهم - أي الشهداء في الكوفة- بين هذا الخيار، وخيار الإقتصار على تراجمهم، مما يعني اجتزاء أحداث حارة ومتتالية، وتغييب الجوّ العام، الذي احتضن الأشخاص والمواقف، وهو ما يجعلنا أمام تراجم مبتورة، تثقلها كثرة الحلقات المفقودة.

وأعتقد أن الأسلوب المعتمد كثير الفائدة، كما سنرى إن شاء الله تعالى.

5- وأشير هنا الى أننا لا نملك في الكثير من المفاصل الحرجة من أحداث الكوفة - ولا أقصد حوادث الشهادة في ساحة كربلاء فلها حديث مختلف- التفاصيل الشافية حول حقيقة ماجرى، ومثال ذلك: انتقال مسلم إلى بيت هانيء، أواقتراح اغتيال ابن زياد، فرغم وجود النصوص التي تتسبب كثرتها بالمشكلة، إلا أنها لتضاربها لا ترقى إلى مستوى ملأ الفراغات الكثيرة، وأعتقد أن ذلك غالباً يرجع إلى أسباب متعددة، منها:

أ- أن أبرز أبطال أكثر تلك الأحداث استشهدوا خلال شهر وبضعة أيام، مابين أوائل ذي الحجة والعاشر من محرم.

منهم: عبد الله بن بقطر، قيس بن مسهر، مسلم بن عقيل، هانيء بن عروة، مسلم بن عوسجة، أبو ثمامة الصائدي، حبيب بن مظاهر، عابس بن أبي شبيب.

وينبغي أن تلحظ وفاة شريك بن الأعور في هذا السياق.

ب- انتقال عدد كبير من"الأبطال" إلى معسكر الأعداء، وهو ما يفرض عليهم التنكر لمواقفهم السابقة وعدم التطرق إليها من قريب أو بعيد. منهم: عمرو بن الحجاج، شبث بن ربعي، عزرة بن قيس.

ت- تخاذل عدد منهم، ليشكل التخاذل بالتالي سبباً للكتمان، خصوصاً في ظل الوضع الأمني غير المؤاتي. منهم: سليمان بن صرد، عبدالله بن حازم، عبيد الله بن عمروبن عزيز الكندي، العباس بن جعدة الجدلي.

ث - استمرارالظروف الأمنية الحذرة حوالي ست سنوات إلى حركة المختار ، كانت دواعي الكتمان فيها متوفرة جداً، وقد استشهد خلالها عدد من المعنيين بدرجة كبيرة بتلك الأحداث، وأقصد بالخصوص شهداء التوابين في وقعة عين الوردة، وهو عامل شديد الأهمية في ما كان يستتبع انكشافه عقاباً إما من النظام، أو من الرأي العام.

ج- عدم وصول عدد كبير من كتب المقاتل الأقدم التي أرخت لهذه الفترة، والتي كان بإمكانها حصر الأضرار الناجمة عن العوامل المذكورة.

وقد نتج من ذلك:

أ- صعوبة التعرف على الخطط: وبديهي أن المراد عدم توفر المعطيات التي تضيء على كل جوانب الخطة بما يحسم النزاع.

إن بإمكان المتابع لأحداث الكوفة معرفة الخطوط العامة لتحرك كل من الطرفين: النظام والمعارضة، من خلال ماجرى ميدانياً، أما الخطط التي كانت الوقائع الميدانية ترجمة لها فقد بقيت طي الكتمان وإن تبدى في الأقوال بعض ما يدل عليها، وظهرت آثارها في المسار العملي.

والمثال الأبرز لذلك خطة ابن زياد لتفكيك المعارضة، وكيف استطاع أن يفرغ مَذحِجاً بالخصوص من مضمونها، فبالرغم من وجود معطيات كثيرة، إلا أنها في أحسن الحالات عبارة شديدة الإجمال يمكن وصفها بالإشارة المبهمة إلى الخطة، أو ما يصطلح عليه ب:
" السياسة العامة" التي تشكل المنطلق للخطة التي اعتمدت، من قبيل قول ابن زياد يقصد مسلماً وهانئاً: وإني جعلت عليهما العيون، ودسست إليهما الرجال، وكدتهما حتى استخرجتهما.

ثم لانجد ممن استمالهم الطاغية من مذحج إلا عمرو بن الحجاج وكثير بن شهاب، مع أن من المقطوع به أنهما لايكفيان لتفسير كل هذا النكوص المذحجي العجيب.

وكذلك غياب مايوضح خطة المعارضة في الإستيلاء على الكوفة، التي يشير استبعاد اقتراح اغتيال ابن زياد إلى الثقة بها والركون إليها.

ب- غياب المعطيات الدقيقة في كثير من الوقائع العامة أو الفردية: مثال الأول: تفرق الناس عن مسلم، ومثال الثاني: أين كان قادة جيش مسلم حين تفرق الناس؟ لئن أمكن احتمال التخاذل في حق بعضهم، فإن مسلم بن عوسجة وأبا ثمامة ليسا من هذا المعدن، ويؤكد ذلك أنه لم يصدر منهما أو من أحد غيرهما أدنى إشارة إلى ذلك، وكان اشتراكهما في كربلاء اشتراك من لم يشب جهاده شائبة.

ولا يعني ذلك أن الباحث يواجه مأزقاً في الوصول إلى حقيقة الأحداث الكوفية، التي لاتختلف مصادرها عن غيرها من الأحداث المشابهة إلا بتلك العناية المميزة بها عبر القرون، وإنما يعني بالتأكيد ضرورة مضاعفة الجهد، والأناة، والمثابرة، فإن المتوفر كثير غني الدلالات، إلا أن العوامل المتقدمة تجعل محاولة التعرف على الخطط أو حقائق الوقائع محفوفة بالمخاطر والمنزلقات، قد يستند فيها الباحث إلى مالا ينبغي الإستناد إليه من مصدر هامشي يعزز بالمنطلقات الخاطئة، أو يظن أن ما اطلع عليه من معطيات يسوغ له التخمين.

إن بإمكان الباحث إذا تجنب المنزلقات، أن يقدم الأدلة التي تقطع الشك باليقين، إلا أنها مهمة مضنية، يتوقف الوصول فيها إلى نتائج نهائية على تضافر جهود الباحثين وتراكمها، ولا يستطيع عمل فردي مهما حالفه التوفيق إلا أن يكون مساهمة تختلف مرتبتها باختلاف المنطلقات والجهد.

6- من بين أبعاد كربلاء التي لم تحظ حتى الآن بالعناية الكافية، بُعد أصحاب الحسين، كما سمّاهم هو عليه السلام، ولولا بعض الدراسات القليلة والجادة، لظل هذا البعد بكراً لم يمس، علماً بأن هذه الدراسات لم تتكفل استقصاء سيرتهم جميعاً، ولا كل ما توفر مما يرتبط بمن شملته منهم.

والأمر الذي ينبغي أن نعنى به في مقام استلهام الدروس من هؤلاء العظماء رضوان الله تعالى عليهم، هو أن نعرف كل ما يمكننا الوصول إليه من سيرتهم، كما يحب أن يعرف أحدنا قدوته بعد المعصوم، في مختلف الظروف والمراحل، في ضعفه وقوته، وفي الشدَة والرخاء، كيف يفكر؟ ما هي نظرته إلى المال والولد وسائر الشؤون الشخصية؟ وما هي نظرته إلى الحاكم الفاسق؟ ما هو رأيه في الإمامة والولاية ؟

نريد أن نتعرّف على "خير الأصحاب" من هذا المنطلق لنعيش معهم وتخفق قلوبنا بحبّهم، ونحاول أن نعرف هل نفكر كما فكروا، فنكون كربلائيين، أم نفكر بطريقة أخرى فنكون – والعياذ بالله - كوفيين.

كان لكلٌّ منهم له دنياً كما لكل منّا، وكانت لهم علائقهم، التي كانوا يفكرون بها شأن أي إنسان، إلاّ ان طريقتهم في التفكير مكنتهم من حفظ توازنهم أمام كلّ دوائر الجذب هذه، ولم يستطع الشيطان إغواءهم فوقفوا المواقف الكربلائية.

كيف وصل هؤلاء العظماء إلى هذه القمة ؟

و كيف يمكننا أن نستلهم منهم الدروس؟ ونشحذ العزائم، لنقف المواقف الكربلائية، عندما يخيّم الموقف الكوفي؟

لابد لمن يريدون أن يكونوا أنصار أبي عبدالله عليه السلام في مختلف العصور، أن يضعوا في طليعة أولوياتهم معرفة أصحابه " الذين بذلوا مهجهم دون الحسين عليه السلام ".

وتشكل الأجواء التي خيمت على الكوفة المناخ الأمثل لمعرفة الأصحاب سواء الذين استشهدوا في الكوفة، أو الذين خرجوا منها والتحقوا بسيد الشهداء عليه السلام، وكذلك من لم يكن منهم من سكان الكوفة أو أهلها، لأن دراسة الموقف الكربلائي بمعزل عن مناخه، لاتتيح استلهامه بنفس المرتبة التي تمكن منها دراسة المناخ وموقع الموقف منه.

7- وقد جاءت مادة الكتاب في خمسة فصول، وأوردت في آخر الفصل الخامس ترجمة رسول الإمام الحسين عليه السلام إلى البصرة، وذلك بلحاظين: أن الظرف الذي وقعت فيه حادثة شهادته في البصرة، مساوق لانطلاقة الأحداث في الكوفة، وأنه الشهيد الكربلائي الأول لتقدم زمن استشهاده على شهادة مسلم رضوان الله عليهما.

كما أضفت ملحقين في تحديد " المضيق من بطن الخبت " وخرائط حوله وحول مسجد الكوفة وقصر الإمارة.

و الله تعالى أسأل أن يجعل ذلك مقبولاً بمنه وكرمه، إنه ولي الإحسان والنعم.

حسين محمد كَوْراني
بيروت- لبنان
السبت 22ذ.ح 1424هجرية
14 شباط 2004م
[email protected]

الفهارس


(1) وقد طُبعتْ مادة هذه السنة خطأ- من الناشر- تحت عنوان "في رحاب كربلاء".
(2) تم حذف هذه الحلقات التمهيدية لتطبع لاحقاً بحوله تعالى كمادة مستقلة تجمع ماتفرق على سنوات وذلك مراعاة لوحدة الموضوع.