أجزاء الفصل الثاني (1) (2) (3)

 


* النعمان بن بشير
 
كان النعمان هذا والي الكوفة عندما دخلها مسلم بن عقيل رضوان الله تعالى عليه. (1)

وكما تجب معرفة أصحاب الإمام الحسين عليه السلام الذين وقفوا معه، يجب أن نعرف أعداء الإمام الحسين وأصحاب النبي وآله صلى الله عليه وعليهم، ونعرف أعداء هم عموماً، فإن الإطلاع على أحوال هؤلاء وتبدل مواقفهم سلباً وإيجاباً بالغ الأهمية في صناعة الوعي للأحداث والمواقف والأشخاص في الماضي والحاضر والمستقبل.

والنعمان بن بشير من الذين وقفوا ضد الإمام عليه السلام لكن بطريقته الخاصة كما سيأتي .
* أمه هي أخت عبد الرحمن بن رواحة الذي استشهد مع جعفر بن أبي طالب في معركة مؤتة .
(2)
* ولد في المدينة المنورة بعد أن دخل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان أول مولود ولد في الإسلام من الأنصار.
(3)
* أبوه بشير بن سعد، أول من قام يوم السقيفة من الأنصار إلى أبي بكر فبايعه، ثم توالت بيعة الأنصار.
(4)
هذه هي النشأة والجو، أما المعتقد والهوى فكان يبغض أهل الكوفة لرأيهم في علي عليه السلام، وقد شهد صفين مع معاوية، ولم يكن معه من الأنصار غيره، وكان أثيراً عنده، وكذلك عند يزيد،
(5) ورغم كل هذا فإن النعمان بن بشير، كان ينظر نظرة إيجابية إلى الإمام الحسين عليه السلام عند دخوله الكوفة إذ قال لمن ظن أنه الحسين : ما أنا بمؤدٍّ اليك أمانتي، يا ابن رسول الله !

وفي رواية : " أنشدك الله إلا ما تنحيت، فوالله ما أنا بمسلم إليك أمانتي، وما لي في قتالك من إرب". (6)
فهو" يحتاط !" بأن لا يسلم "أمانة" يزيد إلى ابن رسول الله !!
كما أنه "يحتاط! " فلا يوغل في عداوته، كما فعل غيره !
وينسب إلى النعمان قوله : لابن بنت رسول الله أحبّ إلينا من إبن بَحْدَل
(7)
وبحدل هذا نصراني، وهو جدّ يزيد لأمه ميسون التي ظلت على النصرانية،
(8) وهي إحدى أربع نصرانيات تزوجهن "أربعة خلفاء" (9) ولعل النعمان يعرِّض بكونها نصرانية.

إزاء هذا القلق الذي كان يطبع شخصية النعمان نتيجة ولائه ليزيد وركونه إليه من جهة، وتهيبه لخوض مواجهة مع الإمام الحسين عليه السلام، فإنه رغم علمه بوجود مسلم في الكوفة وتردد الناس إليه في أجواء البيعة، وقف موقفاً ليّناً كما نجد في النص التالي:

" فبلغ النعمان بن بشير ذلك وكان والياً على الكوفة من قبل معاوية، فأقرّه يزيد عليها، فصعد المنبر، فحمد الله سبحانه، وأثنى عليه، ثم قال : أما بعد، فاتقوا الله عباد الله، ولا تسارعوا إلى الفتنة والفرقة، فإن فيها يهلك الرجال ويسفك الدماء وتغتصب الأموال، إني لا أقاتل من لا يقاتلني ولا آتي على من لم يأتِ عليّ ولا أنبّه نائمكم ولا أتحرّش بكم ولا آخذ بالقرف، ولا الظنة، ولا التهمة، ولكنكم ان أبديتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنّكم بسيفي هذا ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكم ناصر، أما إني أرجو ان يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل. (10)

وطبيعي أن يستفز هذا الموقف من الوالي أشياع يزيد والأمويين في الكوفة، وقد بادروا فعلاً إلى الإنكار على النعمان، ثم كتبوا إلى يزيد مطالبين أن يولّي غيره الكوفة، وممن كتب إلى يزيد في ذلك : عمر بن سعد، عبد الله بن مسلم الحضرمي، عمارة بن عقبة بن الوليد. (11)

وتدخل سرجون الرومي وهو من نصارى الشام وكان مستشاراً لمعاوية ثم ليزيد في مصالح الدولة (12) فنصح يزيد بتولية إبن زياد الكوفة، وأخرج له كتاباً من معاوية كان - على ذمة سرجون ويزيد وبعض المؤرخين - قد كتبه بهذا الشأن. (13)

وكان إبن زياد آنذاك في البصرة والياً عليها، فكتب إليه يزيد مع مسلم بن عمرو الباهلي - جد عبد الله بن مسلم "بن قتيبة " بن مسلم بن عمرو، صاحب "الإمامة والسياسة" (14) - الذي سيتردد اسمه بشكل بارز في الأحداث التي أدّت إلى شهادة مسلم وهانيء، كما سيتكرر الإستشهاد بكلام حفيده.

وأنفذ يزيد مع كتابه كتاب أبيه الذي أخرجه سرجون، فأصبح ابن زياد والي العراقين، البصرة والكوفة.

وأكتفي هنا بالإشارة إلى أن موقع هذا النصراني وأضرابه من إدارة شؤون المسلمين لا تحظى بالعناية التي تتناسب مع خطورتها، والأدهى من ذلك أن دور اليهود والنصارى في مؤازرة الأمويين وغيرهم ضد الإسلام والمسلمين يكاد يكون البحث فيه مغيباً.

وليس ما تقدم إلا مجرد نفثة بمناسبة الحديث عن "كتاب" ادعى وجوده نصراني وكان له في مسار الأحداث ذلك الأثر الكبير، ولئن كان من المحتمل أن يكون معاوية قد كتبه، إلا أن ذلك لا يلغي الإحتمال الآخر، ولا يلغي السؤال عن وجود مثل هذا النصراني في مثل هذا الموقع، كما لا يلغيه وجود يزيد نفسه في موقعه المدعى.

* إبن زياد، إلى الكوفة
ولكي يضبط ابن زياد وضع البصرة قبل انتقاله إلى الكوفة فقد هدد أهل البصرة بالبطش في ما لو حاول بعضهم الإستجابة لتحرّك الإمام الحسين .
في هذه الأثناء كان الإمام عليه السلام قد أرسل كتاباً إلى وجهاء البصرة، ومن جملتهم والد زوجة ابن زياد، المنذر بن جارود العبدي، فوشى المنذر بالرسول والكتاب إلى ابن زياد، قبل خروجه إلى الكوفة، فقتل الرسول، وعيّن أخاه عثمان بن زياد والياً بالنيابة
(15) ثم خرج مع خمسمائة شخص من أهل البصرة إلى الكوفة، بناءً على ما في بعض المصادر. (16)


ويقف هنا بعض الباحثين عند ظاهرة الشلل الذي كان مستشرياً في الناس حينها، فهناك حالة رفض لحكم يزيد ولكنها لا تصل إلى حدّ القيام على أيّ موقف جريء، ألم يكن باستطاعة هؤلاء الخمسمائة الذين قدموا مع ابن زياد أن يقتلوه ؟ مع ذلك نجد أنّ خيرهم الذي يبدو أنه كان شريك الأعور تمارض في الطريق لعل ابن زياد يتأخر في الوصول إلى الكوفة.

و لم يكن شريك وحده الذي تمارض وسقط إلى الأرض بهذا الهدف، فقد قال الطبري : وسقط معه ناس، ورجوا أن يلوي عليهم {يرجع إليهم} عبيد الله، ويسبقه الحسين إلى الكوفة، فجعل لا يلتفت إلى من سقط، حتى دخل الكوفة . (17)

كان ابن زياد في منتهى التهالك للوصول إلى الكوفة بأسرع وقت ممكن لأسباب عديدة يأتي الحديث عنها في ترجمة رسول الإمام إلى البصرة، ومن تلك الأسباب أن في كتاب يزيد الذي جمع له المصرين: إن كان لك جناحان فطر إلى الكوفة". (18)

وينبغي الإشارة هنا إلى استبعاد أن يكون ابن زياد اصطحب معه "خمسمائة من أهل البصرة " ، لقرائن عديدة، وأدلة، في طليعتها أن كل من كان معه في القصر، بعد أيام من وصوله، وبعد زواجه ليلة دخوله الكوفة بابنة عمارة بن عقبة أخ الوليد بن عقبة، حوالي خمسين من الشرطة ورؤوس الضلال (19) وبناءً على ذلك فإن الأرجح هو الرواية الأخرى من روايتي الطبري، والتي تذكر أن من كانوا مع ابن زياد هم مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك، وحشمه وأهل بيته. (20) وإن كان الراجح إضافة عبيد الله بن الحارث، وسيأتي في ترجمته مزيد بيان.

كما تجدر الإشارة إلى أنه لا وجه لما ذكره الطبري من أن مسلم بن عقيل دخل الكوفة قبل ابن زياد بليلة (21) فقد كان مسلم دخلها قبل ذلك بكثير، وأصبح الناس ينتظرون قدوم الإمام الحسين عليه السلام، ولم يوَلّ يزيد ابن زياد إلا بعد وصول الرسائل إليه بدخول الشهيد مسلم الكوفة، وكان بين وصول بعض الرسائل إليه وبعضها الآخر يومان (22) ثم كتب يزيد مع عمرو بن مسلم الباهلي إلى ابن زياد بالتوجه إلى الكوفة والياً عليها، وهذا يعني بجلاء أن الشهيد قد دخل الكوفة قبل ابن زياد بحوالي عشرة أيام على أقل تقدير، وربما كانت المدة أطول بكثير.

* كيف دخل الكوفة ؟
كان دخول ابن زياد مدينة الكوفة من الجهة التي يدخل منها القادم من الحجاز آنذاك وبتعبير أدق من جهة النجف
(23) - الغرب - ليظن الناس أنه قادم من جهة الجنوب، وقد لبس عمامة سوداء.

يقول ابن الصباغ المالكي:
"فلما قرب من الكوفة تنكر ودخلها ليلاً، وأوهم أنه الحسين، ودخلها من جهة البادية في زي أهل الحجاز..". 
(24)
ويبدو من ضمّ النصوص إلى بعضها، مع ملاحظة مقتضى الحال، أنه لم يبق معه ممن خرج بهم من البصرة إلاّ عدة أشخاص، فقد تساقط خلال الطريق أكثر من كانوا مع ابن زياد، فلم ينتظر أحداً منهم، ومضى مسرعاً، وقيل إنه في آخر الطريق بقي وحيداً (25) حتى قدم الكوفة في الليل "وذلك في ليلة مقمرة ، والناس يتوقعون قدوم الحسين ، فجعلوا ينظرون إليه وإلى أصحابه، وهو يسلّم عليهم، وهم لا يشكّون في أنه الحسين بن علي، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول الله، قدمت خير مقدم، فرأى من تباشيرهم بالحسين ما ساءه". (26) وتزايد عدد المستقبلين المرافقين له بشكل ملحوظ، فقد "خرج إليه الناس من دورهم وبيوتهم" (27) وساروا خلفه في ما يشبه التظاهرة "ومعه الخلق يضجون" (28)

وتختلف المصادر في تحديد طريقة معرفة أهل الكوفة بأن هذا القادم هو ابن زياد على أقوال :
1- أنهم لم يعرفوا ذلك إلاّ بباب قصر الإمارة عندما نادى ابن زياد النعمان بن بشير: إفتح لا فتحت فقد طال ليلك، وسمعها أحدهم خلفه فقال : يا قوم إبن مرجانة والذي لا إله غيره. 
(29)

ويبدو أن هذا عرفه بلكنته، فقد كان يلفظ الحاء هاءً لأن أمه أعجمية. (30)
2- أن مسلم بن عمرو الباهلي لم يتحمّل ترحيب الناس بالحسين، فصاح بهم: " هذا الأمير عبيد الله بن زياد ".
(31)
3- أن ابن زياد نفسه تبرم بما سمع فحسر اللثام وقال : أنا عبيد الله ، فتساقط القوم ووطيء بعضهم بعضاً
(32) وحصبه الناس بالحصى حين عرفوه (33) فدخل القصر مسرعاً، وضرب الباب في وجوه الناس، فانفضوا. (34)

*الإستبدال الكوفي
كيف تبدلت مواقف أهل الكوفة جذرياً، من مدينة مغلقة للإمام الحسين عليه السلام، إلى مدينة مغلقة ضده، باستثناء القمم الكربلائية، ومن أُلقي بهم في غياهب السجون.

ما بين "جندٍ لك مجندة" (35) وبين" قاتلوا من مرق عن الدين" (36) أبعد مما بين الثريا والثرى، إنها مسافة ما بين الإيمان والكفر، والولاية والتبري، إلاّ أنّ حب الدنيا ودعتها والسلامة قطع هذه المسافة بأهل الكوفة كلمح البصر، خلال خفقات قلوب مظلمة ألحت - وما تزال - على الأحشاء بالزفرات.

وهذا التبدل الكوفي، إثر دخول ابن زياد، هو الدرس الأعظم لكل الحالات المشابهة التي تهدد بتبدل الموقف.

مهم جداً - إذاً - أن نقف عند هذه المرحلة من مراحل ثورة الإمام الحسين عليه السلام وندخل إلى ثنايا النسيج الإجتماعي في الكوفة ، لنكوّن فكرة دقيقة عن تركيبة ذلك المجتمع .

كان ابن زياد يعرف الكوفة جيداً، فقد كان أبوه مع أمير المؤمنين عليه السلام ثم انحرف وتولى الكوفة في عهد معاوية، وسيرته الفرعونية فيها معروفة، طافحة بالبطش والتنكيل .

ولقد عاش عبيد الله مع أبيه شطراً وافياً من تجربته الحافلة في الكوفة، الأمر الذي مكّنه من متابعة أخبار الكوفة، في ضوء رصيد معرفته بها، حتى أصبح خبيراً بالتركيبة السياسية والإجتماعية، وخبايا النفسية الكوفية .

وعندما اقترح سرجون على يزيد أن يوليه الكوفة، فقد كان يعرف بأنه يرشح الشخص القادر على أن يضبط الوضع في تلك المرحلة .

دخل ابن زياد الكوفة ليلاً، وفي تلك الليلة، بادر إلى عقد اجتماع عام في المسجد (37) وكان ذلك أول تحرك سياسي ينذر بالخطر الداهم، ويهدف إلى تسجيل أول اختراق لإجماع الكوفة على بيعة الإمام الحسين عليه السلام.

أمر ابن زياد المنادي أن ينادي الصلاة جامعة فحضر الناس وهذا يدل على المدى الذي بلغه التخاذل بمجرد انتشار خبر وجود ابن زياد في الكوفة، فإن مجرد الإستجابة لدعوة ابن زياد، مؤشر كبير على أن الوضع بدأ يميل لصالحه، فضلاً عن كون ذلك أول اختراق لإجماع الكوفة، كما تقدم.

صعد ابن زياد المنبر فقال : " أما بعد فإن أمير المؤمنين ولاّني مصركم وثغركم وفيئكم وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم { يُلاحظ أنه يخاطب النفسية الكوفية التي يعرف حساسيتها المفرطة تجاه المال، وصحيح أنها خصوصية بشرية عامة – إلاّ من عصم الله - لكن أهل الكوفة لم يتركوا عذراً لمعتذر عنهم} والإحسان إلى سامعكم ومطيعكم وأمرني بالشدة على مريبكم وعاصيكم، وأنا متّبع فيكم أمره، ومنفّذ فيكم عهده، وأنا لمحسنكم ومطيعكم كالوالد البرّ، وسوطي وسيفي على من خالف أمري وترك عهدي { بدأ أسلوب التهديد والترهيب } فلْيُبْقِ امرؤٌ على نفسه، الصدق ينبىء عنك لا الوعيد". (38) {أي أن عملي هو الذي سيؤكد مدى سطوتي وبطشي، لا التهديد بالكلام. وهذا أبلغ من أي تهديد آخر، خاصة ممن يعرف بالبطش، ولمن يعرف بالتخاذل }

وفي رواية أخرى ورد قوله : فأبلغوا هذا الرجل الهاشمي مقالتي، ليتقي غضبي". (39)

ويلاحظ في هذه الخطبة والزيادة، أنه تجنب التصريح باسم مسلم، لأنه لم يكن قد سيطر على الوضع في الكوفة، والأرجح بالرجوع إلى سائر النصوص، أنه لم يستعمل في هذه المرحلة إلا مصطلح "بغية أمير المؤمنين" أو "طلبة أمير المؤمنين" كما سيأتي، وأن مصطلح "الرجل الهاشمي" استعمل في مرحلة تالية.

وفي نص ملفت، نجد أن ابن زياد طمأن أهل الكوفة إلى أنه لم يعرف أحداً ممن استقبله مرحِّباً به حين دخل متنكراً، وظن الناس أنه الحسين عليه السلام:

" وأصبح فجلس على المنبر فقال: أيها الناس، إني لأعلم أنه قد سار معي وأظهر الطاعة لي من هو عدو للحسين حين ظنّ أن الحسين قد دخل البلد وغلب عليه، والله ما عرفت منكم أحداً ثم نزل " (40)

أراد بهذا التطمين أن يحيِّد من طريقه هؤلاء الذين انكشفت أوراقهم أمامه، حتى لا يتصرفوا على أساس أن مواجهتهم له هي خيارهم الوحيد.

وقد حدد الطاغية في خطابه الأول الجانب العلني من الخطوط العامة لسياسته في الكوفة التي أوضحتها ممارساته، ومكّنته بالتالي من تحقيق الإستبدال الكوفي، فكانت بمجموعها عبر أساليب أربعة :

* الأسلوب الأول: إعلان الأحكام العرفية والتي تعني أن هناك وضعاً استثنائياً: رقابه مشددة، ومفارز على السكك، أي حواجز على الطرق، ومداهمات، وما تقتضيه مصلحة النظام من البطش الشديد والقتل على الظن والتهمة.

يوضح هذه السياسة، ما ورد من أنه بعد أن نزل عن المنبر مطمئناً الناس إلى أنه لم يعرف أحداً : " أخذ العرفاء أخذاً شديداً، { العرفاء جمع عريف وهو في النطام الإداري آنذاك كالمختاربحسب المتداول الآن، المكلف إدارياً بشؤون فريق من الناس في منطقة معينة (41) } فقال : أكتبوا لي الغرباء ومن فيكم من طلبة أمير المؤمنين ومن فيكم من الحرورية { الخوارج } ومن فيكم من أهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق، ثم يجاء بهم لنرى رأينا فيهم، ومن لم يكتب لنا أحداً فليضمن لنا ما في عرافته، ألاّ يخالفنا منهم مخالف، ولا يبغي علينا منهم باغٍ، فمن لم يفعل برئت منه الذمة، وحلالٌ لنا دمه وماله، وأيما عريف وجد في عرافته من "بغية أمير المؤمنين " أحد، لم يرفعه إلينا صلب على باب داره وألغيت تلك العرافة من العطاء وسيِّر إلى موضع بعُمان الزارة ". (42)

ونجد هنا بوضوح ما يقتضيه الحال من أن هدف ابن زياد هو إلقاء القبض على مسلم بن عقيل، و سيتكرر تعبير بغية أمير المؤمنين، في ما بعد كإشارة إلى مسلم الذي أطلق كل ذلك التهديد من أجله .

وكما تقدمت الإشارة فإن إعلان الأحكام العرفية يتلازم عادة مع سياسة البطش، وقد اعتمد ابن زياد هذه السياسة متشدداً في تطبيقها إلى أبعد الحدود : " وأمسك جماعة من أهل الكوفة فقتلهم في تلك الساعة ". (43)

*الأسلوب الثاني : العمل الأمني
وهو يقتضي نشر المخبرين على أوسع نطاق لرفع التقارير إلى قصر الإمارة حول ما يجري في الكوفة، وبصورة خاصة ما يقود إلى معرفة مكان تواجد الشهيد مسلم، ومن البديهي أن العمل الأمني في مثل تلك الظروف بالإضافة إلى أنه ضرورة ملحة، فإن باستطاعته تغيير مسار الثورة وهو ما حصل .

ورغم أننا نواجه ضحالة في النصوص التي تكشف لنا تشعب المخبرين والجواسيس وكثرتهم، فإن من الطبيعي جداً أن هؤلاء كانوا مبثوثين في كل مكان، سيّما في المفاصل الإجتماعية والسياسية، ولم يكن معقل إلاّ واحداً من هؤلاء، تفرّد من بينهم بالوصول إلى مسلم والدخول عليه يومياً، والتواجد عنده أو على مقربة منه حتى المساء، كما سيأتي.

ويدل على ذلك ماورد في رسالة ابن زياد ليزيد بعد أن سيطر على الوضع في الكوفة، فقد أخبره فيها إجمالاً عن الخطة التي اعتمدها لضرب المعارضة والقضاء عليها، فقال:

" أخبر أمير المؤمنين ".." أن مسلم بن عقيل لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادى وإنى جعلت عليهما العيون ودسست إليهما الرجال وكدتهما حتى استخرجتهما وأمكن الله منهما ". (44)

فإن التعبير واضح الدلالة على عدد من المخبرين من الطبيعي أن يكون كبيراً.

ويبدو أن الفارق بين العين والدسيس في كلام ابن زياد، هو في بعض مظاهره الفارق بين المخبر العادي، وبين شيخ العشيرة أو الوجه الإجتماعي البارز يكلف بمهمة خاصة.

* الأسلوب الثالث: استعمال الأداة الرخيصة، وعاظ السلاطين، وقداستهم المزيفة
ولقد كان في أحداث الكوفة أشد الأساليب فتكاً كما هو حاله في الغالب، فقد كان للدمية "شريح القاضي" وأضرابه، الدور الطليعي في تفجير حركة الإعتراض من الداخل، ولم تكن "معلومات" معقل، ولا تهالك عمرو بن الحجاج وسائر اللاهثين خلف سراب هوى النفس لتؤثر شيئاً لولا ذلك الموقف الذي وقفه شريح على شرفة قصر الإمارة كما سيأتي.

ولم أذكر هذا الأسلوب أولاً ولا أعطيته عنوان "الإستمالة" بل الإستعمال لأن هذه الكائنات الشوهاء أحط قدراً من أن يبذل الطاغوت جهداً لتوظيفها لخدمة مصالحه، أو أن تستمال، وإنما موقعها الإستعمال عند الحاجة، ولئن كان غيرها يحصل على فتات من فضلات الطاغوت فإنها لا تحصل من ذلك إلا على القراضة.

* الأسلوب الرابع : شراء رؤساء العشائر والوجهاء
ولا ينفصل هذا في العمق عن العمل الأمني، إلا فصل اختصاص- كما تقدمت الإشارة حول الفرق بين العين والدسيس- ويظهر الدور الكبير لهؤلاء الوجهاء عند إعلان مسلم لثورته على ابن زياد، فسوف نجد أن هؤلاء هم الذين أجهضوا ثورة مسلم في الكوفة وهم الذين كانوا سباقين إلى قتل الإمام عليه السلام، وأن شخصاً مثل شبث بن ربعي الذي كتب إلى الإمام الحسين بلهجة ملؤها الثقة والولاء { فإنما تقدم على جند لك مجندة } كان من الواقفين بباب قصر الإمارة يثبّط الناس عن مسلم بن عقيل، ولم يكن غيره أفضل حالاً منه.

ومن الوثائق التاريخية حول هذه الإستمالة أو الشراء لافرق، ماحدث به أحد شهداء كربلاء حين وصل ومن معه إلى الإمام الحسين عليه السلام وكانوا قادمين من الكوفة " فقال لهم الحسين أخبروني خبر الناس وراءكم، فقال له مجمع بن عبد الله العائذى، وهو أحد النفر الأربعة الذين جاؤوه: أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم، وملئت غرائرهم، يستمال ودهم، ويستخلص به نصيحتهم، فهم إلبٌ واحد عليك، وأما سائر الناس بعد، فان أفئدتهم تهوى إليك، وسيوفهم غداً مشهورة عليك".  (45)

والغرائر جمع الغِرارة، وهي الكيس الكبير من الصوف أو الشَّعر (46) وفي التعبير دلالة واضحة على المبالغ الطائلة التي عبر عنها بقوله " أعظمت رشوتهم" ليوضح أنها أكثر مما قد يتصور بالحديث عن عِظم الرشوة.

وقد كان غالب الوجهاء ورؤساء العشائر في الكوفة على نمطين :
1- أسرى العقد النفسية من عدل أمير المؤمنين عليه السلام كأولاد الأشعث بن قيس وشريح القاضي اللذين حاول الإمام علي عزلهما، فلم يساعده الظرف
(47) وعمرو بن حريث الذي قال فيه الإمام وفي بعض من كان معه :
" ليُحشرنّ قوم يوم القيامة وإمامهم ضب"
(48) إلى غير هؤلاء من المعقدين الذين ضاق بهم عدل أمير المؤمنين، فكان الجور عليهم أضيق .

2- أسرى مراكز النفوذ، وهم أصحاب المراكز الذين يخافون عليها، وأولئك الطامحون لها وهم لا يرون سبيلاً للوصول إليها إلا باقتناص الفرص والتزلف لمن يحتملون الحظوة عنده، حتى إذا كان الشيطان نفسه.

والمثال البارز بين هؤلاء شبث بن ربعي من الخائفين، وكثير بن شهاب، وعمرو بن الحجاج من الطامحين.

بهذه الأساليب الأربعة { إعلان الأحكام العرفية، العمل الأمني، إستعمال وعاظ السلاطين وقداستهم المزيفة، شراء الوجهاء } استطاع ابن زياد أن يجعل مؤشر ميزان القوى يميل لصالحه وبشكل سريع، وقد ساعده العمل الأمني - بقسميه - بشكل فعال، وكان دور شريح الفتيل والصاعق.

وغني عن البيان أن إعلان الأحكام العرفية هو مناخ الترهيب، والإستمالة هي الترغيب، الذي يشكل الترهيب مناخه المثالي لاجتياح كل "معاقل" ضعاف النفوس واليقين، والعمل الأمني بشقه المعلوماتي عصب ذلك كله، ولكن بشرط تأمين الغطاء من باعة الضمير "وعاظ السلاطين" خصوصاً في المجتمع الكوفي آنذاك وكل حالة مماثلة، وسنرى كيف تضافرت هذه العوامل فأجهضت كل الآمال العراض.

ومن الواضح أن هذه الأساليب تتضافر جميعاً لتصب في ما يعرف ب "الحرب النفسية" التي يشكل إعلان الأحكام العرفية مناخها العام، الذي تتوقف الإفادة منه على حسن أداء شبكة المخبرين والجواسيس، وعلى إضفاء طابع القداسة على سياسة النظام، وتبني المفاصل الإجتماعية الحقيقية أو المخترعة لهذه السياسة، للجم اندفاعة الجماهير باتجاه المعارضة.

***

كانت هذه خطة النظام في مواجهة المعارضة، فماذا كان يجري في المقابل، وكيف كانت المعارضة تخطط لمواجهة النظام.

تتوقف معرفة ذلك بجلاء على معرفة الشهيد هانيء بن عروة، وما كان يمثله في الكوفة، وما كان يجري في بيته والدُّور من حوله، حيث استقر الشهيد مسلم بن عقيل بعد دخول ابن زياد الكوفة.

الفهارس


(1) تفرد ابن سعد في الطبقات6/53 بخلاف ذلك. أنظر: بالإضافة إلى الطبري في موارد عديدة: البخاري، التاريخ الكبير6/ 533 والدينوري، الأخبارالطوال225و227و229و233 وابن حبان، الثقاة2/307. وهو مستفيض في المصادر.
(2) إبن سعد، الطبقات الكبرى6/53.
(3) المصدر.
(4) اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي2/124. والطبري2/458.
(5) المحدث القمي، نفس المهموم86-87.
(6) المقرم، مقتل الحسين149.وانظر: الطبري4/268.
(7) إبن قتيبة ، الإمامة والسياسة ج2 \ 8 (تحقيق الشيري) ونفس المهموم \ 87 وفيه "من إبن بنت بحدل". وانظر: القاضي النعمان، شرح الأخبار3/147.
(8) محمود أبو رية، شيخ المضيرة، أبو هريرة177.وانظر:history.al-islam.comفي ترجمة ميسون، فقد ورد فيه التصريح ببقائها على النصرانية.
(9) عبد المعين الملوحي، الحب بين المسلمين والنصارى في التاريخ العربي. الناشر: دار الكنوز الأدبية-بيروت. عرض: الدكتور محمد عبد الرحمن يونس على موقع: www.ofouq.com و"الخلفاء" الأربعة هم: عثمان، معاوية، الوليد بن يزيد،المتوكل.
(10) الشيخ المفيد، الإرشاد2/41.والطبري4/264.
(11) المصدران، وابن شهراشوب، مناقب آل أبي طالب242.. وكان أشدهم خطراً عمارة بن عقبة وهو أخو الوليد بن عقبة الفاسق، وكان عيناً لمعاوية على الكوفة أيام الأمير عليه السلام، وقد تزوج ابن زياد ابنته حين قدم الكوفة وقبل اعتقال هانيء.
(12) هامش مقتل المقرّم 148 نقلاًعن: محمد كرد علي- الإسلام والحضارة العربية ج2/ 158 وانظر: التاريخ الإسلامي على موقع: www.islalampedia.com وفيه" وكان سرجون صاحب أمره – أي معاوية- ومدبره ومشيره.
(13) الطبري4/265.
(14) أنظر: المسعودي، مروج الذهب3/59. والقمي، نفس المهموم86و87.
(15) أنظر تفصيل ذلك في ترجمة رسول الإمام إلى البصرة، الشهيد أبي رزين، في آخر الكتاب.
(16) الطبري4/267.
(17) الطبري 4/267. وانظر: السيد محمد تقي بحر العلوم،مقتل الحسين أو واقعة الطف 220(مكتبة العلمين العامة. النجف- العراق. رقم 17. ط: دار الزهراء- بيروت، 1405هجرية 1985م)
(18) الذهبي،سير أعلام النبلاء ج3/299
(19) الطبري4/276.
(20) الطبري4/266.
(21) المصدر268.
(22)المصدر265.
(23) المسعودي، مروج الذهب57.
(24) إبن الصباغ المالكي(الوفاة855) الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة184(مطبعة العدل، النجف، أوفست: منشورات الأعلمي، طهران).
(25) الطبري4/268.
(26) السيد بحر العلوم(محمد تقي) مقتل الحسين \ 221 عن نهاية الإرب20 / 390 وانظر: المجلسي، البحار 44 / 340 وأبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين63.
(27) الطبري4/268.
(28) نفس المصدر .
(29) الشيخ المفيد، الإرشاد2/44. والطبري4/268.
(30) السيد المقرم، مقتل الحسين(م.م)150 نقلاً عن ،الجاحظ،البيان والتبيين1/75وأورد عنه" كان ألكناً يقلب الحاء هاءً قال لهارون بن قبيصة:أهروري يريد: أحروري. ويقلب القاف كافاً يقول: كلت له يريد قلت له.
(31) الطبرسي، إعلام الورى بأعلام الهدى1/438.
(32) إبن نما، مثيرالأحزان19 وعنه: المجلسي، البحار44/340.
(33) المسعودي، مروج الذهب 3 / 57.
(34) الشيخ المفيد، الإرشاد2/44. والطبري4/268.
(35) من رسالة عدد من قادة الكوفة إلى الإمام الحسين، ومنهم عمرو بن الحجاج كما تقدم
(36) شعار رفعه في كربلاء أحد هؤلاء القادة عمرو بن الحجاج، قائد ميمنة ابن سعد!.
(37) الطبري 4/267. "لمانزل القصر نودي:الصلاة جامعة".." فاجتمع الناس".
(38) الشيخ المفيد، الإرشاد2/44. والطبري4/267.
(39) إبن نما، مثير الأحزان20.
(40) الطبري4/268.
(41) قال السيد الأمين رحمه الله: " العرفاء: جمع عريف كأمير وهو الرئيس والظاهر أنه كان يجعل لكل قوم رئيس من قبل السلطان يطالب بأمورهم يسمى العريف كما هو متعارف إلى اليوم وكان يجعل للعرفاء أيضا رؤساء يقال لهم المناكب". لواعج الأشجان45 الهامش. وقدمر مزيد إيضاح في الحديث عن تمصير الكوفة.
(42) الطبري 4/267 والإرشاد 44-45 باختلاف يسير، والزارة قرية كبيرة في البحرين كما ذكر المامقاني،تنقيح المقال3/ 261 وأنها هي التي كان زياد وابنه ينفيان من شاءا نفيه إليها من أهل البصرة والكوفة،. ويظهر من الحموي في معجم البلدان أنها اسم مكان في البحرين ، وعمان ، ولعل السبب عدم وجود حدود بينهما آنذاك .
(43) المحدث القمي، نفس المهموم 94 نقلاً عن: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي. أنظر:185.
(44) الطبري4/285.
(45) الطبري4/306.
(46) قال الجوهري في الصحاح : والغرارة واحدة الغرائر التي للتبن، وأظنه معرباً. وفي معجم الفقهاء لقلعجي: الغرارة بكسر الغين ج غرائر، الكيس الكبير من الصوف أو الشعر. وقال الشيخ ابراهيم سليمان في الأوزان والمقادير85:" الغرارة المتعارفة في لبنان وسوريا ونواحيهما الآن ( سنة 1361 ) هي اسم لاثني عشر كيْلاً متعارفا ( الكيل 6 أمداد ) فهي اثنان وسبعون مداً من الامداد المتعارفة في لبنان وسوريا ونواحيهما ، وهذا شئ معروف متفق عليه ، وقد نص عليه في حلية الطلاب ( ص 54 ) ويعرفه حتى العوام".
(47) حول عزل شريح، أنظر: المامقاني، تنقيح المقال3/83وفيه: " لأن أهل الكوفة قالوا له: لاتعزله لأنه منصوب من قبل عمر.." وحول الأشعث، أنظر: إبن مزاحم المنقري، وقعة صفين137.
(48) الحر العاملي، إثباة الهداة بالنصوص والمعجزات 2/426. في حادثة طويلة معروفة.