الحركات الثورية..والتحديات موقع السرائر

 

الحركات الثورية..والتحديات

 

 نكبة ال2002 هي نكبة الحركات الثورية:

أما وقد وقعت الواقعة، وماتزال تتوالى فصولاً، ونحن لانتقن حتى أن نتفرج، فإن السؤال الأكثر إلحاحا على جميع القوى التعبوية في الأمة - جماعاتٍ وأفرادا-ً هو التالي:

ماهي مسؤوليتنا عما حدث؟ ماالذي كان بوسعنا فعله لتفادي هذه المجازر الأمريكية الصهيونية - النكبة، التي سيظل أبشع مافيها هو هذاالشلل العربي والإسلامي حتى الموت، رغم العدة والعدد الغثاء،  كغثاء السيل.

ولايهدف هذا السؤال إلى جلد الذات كما لايهدف إلى التأسيس الجذري للمستقبل فالأول ضرب عبثي من العويل، والثاني سابق لأوانه.

يهدف السؤال إلى البحث في مايمكن فعله لوقف النزف و تطويق الإنهيار فلا يصل الأمر إلى حد دخول القضية الفلسطينية في النفق الأشد حراجة ودموية.

ماذا يمكننا أن نفعل لمنع تهجير الفلسطينيين وإدخال المنطقة في أتون انقلابات وحروب ومجازر، لايقاس بها ماشهدته منذ تأسيس الكيان الصهيوني الدخيل حتى يومنا هذا.

ولا تنحصر الإجابة على ذلك بموضوع واحد إلا أن الموضوع الذي أعتقد أنه - بعد المقاومة المسلحة - يهيء المناخ الأفضل لتحريك جميع مسارات الممانعة، بما فيها المسار العسكري، هو "مشروع مقاطعة البضائع الأمريكية".

ولقد كانت المقاربة السابقة دعوة عامة إلى التفكير بجدية المشروع وجذريته، خلافاً للتسطيح السائد المبني على وهم أن الداعين إلى المقاطعة سطحيون يجهلون "استحالة" منازلة أمريكا اقتصادياً!!
 وقد توصلت إلى إيضاح أن الحديث عن الإستحالة ليس إلا من باب الحديث عن استحالة مواجهتها سياسياً أو عسكرياً، وهو حديث غير موضوعي لأنه يلغي الفارق بين الإستحالة وشبهها، أأي بين الإستحالة وبينالصعوبة الشديدة والمكلفة، أو بين التعسر والتعذر. وهذه النقطة الفارق هي نفس النقطة التي يفترق فيها الثوري عن المستسلم، والمقاوم عن المساوم.

لايناقش أحد في أن المقاطعة الإقتصادية للمتحكم بشرايين الدنيا الإقتصادية ودورتها الدموية، ليست نزهة، إلا أنها ليست مستحيلة، رغم صعوبتها البالغة في البداية، والتي تضعف كلما اشتد ساعد المقاطعة، وتوهجت جذوتها، وليس العكس كما ربما يقال.

وأحاول هنا التوفر على ما يمثله "مشروع مقاطعة البضائع الأمريكية" في البعدين الثقافي والسياسي، مع وقفة عند البعد الإقتصادي.

ولابد من توكيد أن الخطاب موجه إلى الحركات الثورية العربية والإسلامية،التي كشفت الكارثة القائمة في فلسطين نقاط ضعفها المفرطة، وعجزها عن قيادة الجماهير في المسار التغييري الحقيقي، وهو ما يفترض به أن يكون الدرس المفصلي لمن أراد أن يخرج من صنميته التنظيمية.

لئن كانت نكبة ال48 نكبة الأنظمة العربية آنذاك، فإن نكبة ال2002 هي نكبة الحركات الثورية التي لم تستفد من كل تجارب الماضي فتبني برامجها الثورية على قاعدتين:

الأولى: المراهنة في المدى المادي على الشعوب، انطلاقاً من عقم المراهنة على الأنظمة التي تقوم ضروراتها على إلغاء خيارات الأمة.

ماحصل كان في أفضل حالاته - في الغالب - مراهنة على الشعوب ضمن سقف النظام أدى إلى احتواء الأنظمة للحركات الثورية فإذا بمنطق الثورة يتماهى مع منطق الدولة، وإذا بالحركات الثورية تنظر لضرورات الأنظمة، وسيظل نشازاً صارخاً ومقيتاً في تاريخ الحركات الثورية أنها في مرحلة معينة بدت في خندق واحد مع أشد الأنظمة العربية ارتهاناً وتبعية.

الثانية: تقديم البرنامج العملي الذي يحول دون انطفاء شعلة الثورة المتوهجة في نفوس الجماهير، وإدراك خطورة العجز عن تقديمه،  وهذا ماحصل بعد تصاعد الإنتفاضة في فلسطين واستجابة الملايين لها، على امتداد رقعة العالم العربي والإسلامي، لقد تركت الحركات الثورية الجماهير بدون مشروع عملي يجعلها تشعر بأنها تنجز شيئاً من خلال التظاهر واقتصر الأمر على "التظاهر للتظاهر" ورويداً رويداً تضاءلت الجذوة ثم خبت، الأمر الذي يعني أن الحركات تركت الشعوب لقمة سائغة لأجهزة الأنظمة :الإعلامية، والأمنية ووعاظ السلاطين من رجال دين، وثوريين منقلبين على أعقابهم لهثاً خلف لقمة الموقع والعيش.

إن " مشروع المقاطعة " مثالي في رفد الجماهير بالمادة التي تُفعِّل تحركها، بل تمنحها خزيناً هائلاً من التوهج واللهب الثوريين، إلى حد أنا لانجد رديفاً له على الإطلاق .

وسيظل تعامل أكثر الحركات الثورية معه بفتور "ثوري!" سداً يحول دون تحوله إلى رافعة لكل المواقف التي تصب في خدمة القضية المركزية وبالخصوص مواقف الأنظمة السدنة للمصالح الإسرائيلية، إرضاء للسيد الأمريكي.

يشكل إخفاق الكثير من الحركات الثورية في التقاط فرادة هذا السلاح، الدليلَ القاطع على انتقالها من موقع الثورة والتغيير إلى موقع الأنظمة و"فن الممكن" حتى على حساب القضية، فالمهم هو أن لايصدم الخطاب مراكز النفوذ، خشية أن يؤثر ذلك على صورة الثوريين فيتهمون بـ "السوقية" والتهريج.

وأمام الحركات الثورية فرصة قبل أن تصدر الجماهير ويصدر التاريخ الرأي النهائي.

ولن تقف دورة الزمن عندما يجري، ولن تحتفظ الجماهير بأدنى احترام لأي حركة ثورية تثبت أنها ليست بمستوى التحديات.

وهولُ المجازر في فلسطين أبعد خطراً من أن يحتفظ الجميع - حكاماً وحركات- بمواقعهم، فالمستقبل يضج بالمتغيرات والغربلة.

تتكفل بذلك تداعيات ماحدث، خصوصاً في جنين، وهذه التداعيات من حيث القوة وبعد الأثر فوق التصور، تتناسب أخاديدها والتضاريس التي ستتركها في الخارطة السياسية والإجتماعية مستقبلاً، مع بعيد غور النصال التي استقرت في سويداء القلوب، ومرارة اللوعة والأسى التي عصفت بالأمة.

وهي تتابع و ما تزال شراسة العدوان، وضراوة الإستخفاف، وهول الإحتقار.

ستؤسس هذه التداعيات لاريب لحقبة جديدة، فبعد سنوات من النكبة الأولى عام 48 كانت ثورة الضباط الأحرار، وتوالت حلقات مسلسل الإنقلابات، بقطع النظر عن الرأي فيها وفي ماآلت إليه، كما انطلقت حلقات مسلسل التشكلات الإجتماعية السياسية، وإن لم يحالفها التوفيق، وها نحن الآن على عتبة مرحلة مشابهة تركم ذاكرتها كل التجارب السابقة وتثري عملها بمساراتها والنتائج.

إن على الحركات الإسلامية من بين كل الحركات الثورية أن تكون وقفتها على عتبة ماجرى مميزة جداُ، لأنها المعنية قبل غيرها بالنتائج والمتغيرات، فمنذ عام 52 وحتى عام 78 كان التيار القومي يقود الجماهير، ومنذال78 وحتى أواسط الثمانينات تقريباً كانت قيادة الجماهير موزعة بين القوميين والإسلاميين، ثم انفرد الإسلاميون بالقيادة الفاعلة رغم حضور التيارالقومي.

ويشكل ماجرى في فلسطين عام 2002 مفصلاً مايزال باستطاعة التيار الإسلامي أن يبادر للإمساك خلاله مجدداً بمركز الريادة والقيادة، كما يمكن للتيار القومي أن يكون البديل، أو أن ندخل في مرحلة تقطيع الوقت، واستحكام انعدام الوزن حتى متغير آخر واستبدال جديد.

من بين كل الحركات الثورية يمكن أن يكون بمستوى التحديات ذلك الفريق الذي ينازل العدو عسكرياً فيشعر الأمة بأنه يثأر لكرامتها، ويضيق الخناق على العدو في النقطة الموجعة التي تصيب منه مقتلاً.

 وسنرى في هذه المقاربة أن "مشروع مقاطعة البضائع الأمريكية" بالغ الأهمية، يرقى بكل جدارة إلى مستوى المشروع الإستراتيجي، كما تضمنت الدراسة السابقة، ورغم أن انطلاقته قد تتعثر أو تتلاشى عدة مرات، فلا بد أن يأتي يوم يستعصي فيه على كل المحاولات "الواقعية!" أو "الثورية!" للغمز من قناته، لأن ألفباء الثورة على أمريكا تبدأ بتعلم أسماء سلعها التي يجب أن تقاطع تجسيداً للغضب من سياسة أمريكا وتعبيراً عن الصدق في الوقوف في النقطة المواجهة لها.

يمكنك أن تحكم ببساطة على مستقبل الثوري المجلي في ميادين النضال والجهاد، بالإنقلاب على عقبيه، والخروج من جلده الثوري، ولو بعد حين، إذا كان يتقلب بين البضائع الأمريكية، فمن لاتذكره السلعة الأمريكية الصغيرة بمجازر أمريكا، فهو مؤهل سلفاً لنسيان كل شيء حتى تاريخه الثوري، فـ "الواقعية!" التي حملته على الإشمئزاز ممن يدعون إلى المقاطعة الإقتصادية هي "الواقعية!" التي ستحمله على البطش بمن يريدون مواجهة أمريكا، و "فن المكن" الذي جعله يستهلك -كما يتنفس- السلع الأكثر انتشاراً، هو "فن الممكن" نفسه الذي يحمله على إعادة ترتيب الأولويات بما يحفظ موقعه على الخارطة السياسية التي ترضي أمريكا.

وهل منطق الأنظمة التي برر التخلص منها امتلاء قوائم الحركات الثورية بالأسماء، غير هذا المنطق وهو أن العجز عن مواجهة أمريكا يحتم التكيف معها ومحاولة إقناعها بالوقوف إلى جانب قضايانا العادلة.

وهم بعد يعتبرون هذا دهاء سياسياً وفق مبدأ أن السياسة "فن الممكن".

وقد بات في غاية الوضوح أن رهان أمريكا أو أي قوة متجبرة أخرى على لَيِّ ذراع أي حركة ثورية إنما هو رهان على هذه النقطة بالذات: الإفراط في الواقعية، وتجاوز الحد الفاصل بين واقعية المبدئي والمصلحي.

 والنفس ميالة إلى الدعة، تثَّاقل إلى الأرض بدون أن تستمريء طعم كيل المديح، ومصفى هذا العسل ولباب القمح، فكيف بها مع الترف الثوري والأبراج العاجية، وكيف بها وقد تشابك كل ذلك مع مخاطر التهور، ومنجزات الحكمة والمرونة والأعصاب الباردة.

أبسط النتائج أن تنفر هذه النفس "الثورية" من الدعوة إلى "مقاطعة البضائع الأمريكية" فيشكل هذا النفور غير المبرر منطلقاً لإضعاف المشروع العملي الأمثل دون تقديم البديل عنه، أو حتى تقديم الأدلة المقنعة على رفضه .

إن المرحلة شديدة القسوة، وجراح القلب النازفة بعيدة الغور حتى جذور الكرامة المهدورة، ومن الطبيعي أن يحتم ذلك حديثاً يحمل من سمات الراهن بعض خصائصه، علَّ وعسى.