أجزاء الفصل الثالث (1) (2) (3)

 

* عمرو بن الحجاج؟
تردد إسم هذا "الوجيه" الدمية كثيراً في ما مضى، وقد اتضحت بعض معالم دوره الخطير الذي شكل مع دور شريح الثنائي الذي لا تخلو منه حركة طاغوت في مواجهة روح الممانعة والإعتراض.

ومن المناسب هنا التعريف بعمرو بن الحجاج هذا بما يحفظ وحدة السياق، فمن هو؟ (1)

في الإصابة: ذكر الطبراني أن له صحبة واستدركه ابن فتحون والله أعلم.

وكلامه ظاهر في عدم اطمئنانه إلى أنه من الصحابة.

ولم أجد لعمرو بن الحجاج ذكراً في حروب الجمل وصفين والنهروان.

 وأول ما يطالعنا عنه أنه أحد شهود الزور ضد الشهيد حجر بن عدي الكندي وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم.

ومن كان مستهلّ حياته السياسية زوراً بهذا الحجم، فمن الطبيعي أن يصل إلى آخر المنحدر الكوفي.

وتدور دورة الزمن، لتحط الرحال على عشية هلاك معاوية.

وإذا بالتفاعلات الإجتماعية والنفسية في الكوفة طيلة عشرين عاماً، تقدم لنا عمرو بن الحجاج شخصية تتظاهر بالتشيع، من سنخ شَبَث بن ربعي، وعُزرة بن قيس، وسائر الذين وقَّعوا رسالة: أما بعد فقد اخضر الجناب، أولئك الذين قال الإمام الحسين عليه السلام لهم ولأمثالهم: يا شيعة آل أبي سفيان.

وكان عمرو بن الحجاج الزبيدي أحد هؤلاء الموقّعين، إلا أن الإمام الحسين عليه السلام لم يناده باسمه - كما نادى آخرين من أصحاب هذه الرسالة - يوم عاشوراء.

ويبدو أن السبب هو ما مرّت الإشارة إليه من أنه كان وضيعاً رغم احتلاله صدارة كوفية تتناسب مع رَوَغانه والإلتواءات.

من شاهد زور على حجر، لأنه من أصحاب أمير المؤمنين، إلى طليعي في مراسلة سيد الشهداء.

هكذا قدمت تفاعلات النسيج الكوفي شخصية عمرو بن الحجاج.

وربما.. كان من بين الأسباب التي يرجع إليها هذا التبدل، أن الشهيد الجليل الصحابي الكبير هانيء بن عروة كان صهر عمرو بن الحجاج.

وقد كانت هذه العلاقة مؤهلة لأن تلقي بظلالها على شخصية عمرو هذا.

فلقد كان الشهيد هانيء بن عروة - كما عرفت- شيخ دار الجِند بلا منازع، متميزاً بشخصيته المتماسكة الصلبة، وتاريخه الجهادي العريق، ورجاحة العقل وسداد الرأي.

وعندما تقارن بين هذه المقوّمات، وبين اهتزاز شخصية عمرو بن الحجاج وذيليته، تجزم بأنه كان أمام الشهيد هانيء هامشياً، وكان يتاح له أن يتواصل معه أكثر من غيره بحكم المصاهرة.

إلا أن شخصية عمرو بن الحجاج كانت زئبقية، خاوية.

فكما لم تنفعه صحبة رسول الله صلى الله عليه وآله - على فرض ثبوتها - لم تنفعه، وبطريق أولى- صحبته لهانيء بن عروة، بل كانت ثمة معادلة سياسية في الكوفة لصالح الشهيد هانيء فانسجم معه، حتى إذا لاحت له فرصة للتسلق اقتنصها، وكان الثمن دم الشهيد هانيء بن عروة كما سنرى.

ويورد الطبري مساجلة جرت في مجلس ابن زياد في نفس اليوم الذي تم فيه اعتقال الشهيد هانيء، تكشف كيف كان عمرو بن الحجاج يكني عن إيقاعه بهانيء بطريقة تكشف عن مدى وضاعته ولؤمه.

ولئن كان نص الطبري قد ورد مضطرباً، فإن القراءة الداخلية فيه تجعله كما يلي:

" وقال غير أبى جعفر{ الإمام الباقر عليه السلام} الذى جاء بهانئ بن عروة إلى عبيدالله بن زياد عمرو بن الحجاج الزبيدى ذكر من قال ذلك : حدثنا عمرو بن علي قال حدثنا أبو قتيبة قال حدثنا يونس بن أبى اسحاق عن العيزار بن حريث قال حدثنا عمارة بن عقبة بن أبى معيط { جاء عمرو بن الحجاج الزبيدى} فجلس في مجلس ابن زياد فحدَّث قال: طردت اليوم حمراً فأصبت منها حماراً فعقرته { يكني بذلك عن دوره الرئيس في اعتقال الشهيد هانيء. فقلت} له: إن حماراً تعقره أنت لحمار حائن" {أي هالك} فقال ألا أخبرك بأحين من هذا كله؟ رجل جئ بأبيه كافراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به أن يضرب عنقه فقال يا محمد فمن للصبية قال النار فأنت من الصبية وأنت في النار قال فضحك ابن زياد ".(2)

وهذا النص شديد الأهمية جداً، وهو يكشف أن هذه المساجلة بين عمرو بن الحجاج الزبيدي وعمارة بن عقبة في مجلس ابن زياد، قد حصلت في نفس اليوم الذي تم فيه استدراج هانيء إلى قصر الإمارة، وإلا لما أورده الطبري تحت عنوان" ذكر من قال ذلك" أي مسؤولية عمرو عن دم هانيء، ولا ينافي هذا ما تقدم من عدم وجوده - على الأرجح الأقوى- مع من توجه لاستدراج هانيء، فإن دوره أبعد من ذلك خطراً.

وكان ابن زياد قد بنى بابنة عمارة بن عقبة ليلة ذلك اليوم، وكان قد عقد عليها ليلة وصوله من البصرة كما ذكر الطبري، فعمارة عمه والد زوجته، وقد أهين في مجلسه إهانة كبيرة، مؤداها أنك ابن عقبة بن أبي مُعَيط الذي قال النبي له إن لصبيتك النار، وأنت منهم، ومع ذلك فقد ضحك ابن زياد.

ويرجع ذلك إلى أمرين:
الأول: أن شخصية عمارة كانت هامشية كما يتضح من ترجمته.
الثاني: أن عمرو بن الحجاج الذي وجّه له هذه الإهانة كان قد أسدى يداً إلى ابن زياد تعادل تسليمه مفاتيح الكوفة، ولذلك احتمل منه ابن زياد ما لا يحتمل عادة، بل وأضحكه ذلك.

وفي المساجلة بعدُ إشارة إلى هامشية شخصية عمرو أيضا بحيث أن عمارة يهزأ به.

ولقد كان دور ابن الحجاج هذا في كربلاء غاية في الشراسة والحقد، ويكفي دليلاً على ذلك قوله:
يا أهل الكوفة، إلزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتال من مرق من الدين، وخالف الإمام.
فناداه سيد الشهداء عليه صلوات الرحمن:
يا عمرو بن الحجاج أعليَّ تحرض الناس.. أنحن مرقنا (من الدين) وأنتم ثبتّم عليه؟ أما والله لتعلمُنّ لو قبضت أرواحكم ومتّم على أعمالكم، أيُّنا مرق من الدين، ومن هو أولى بصليِّ النار .
(3)

وقد ظل هذا القاتل يحتطب الأوزار إلى زمن ثورة المختار، فخاض الحرب ضده حتى لاحت تباشير النصر للمختار، فولى عمرو بن الحجاج هارباً، ثم فقد أثره، ولم تعرف على وجه التحديد نهايته.

قال ابن كثير:
" وجعل أصحاب عمر بن سعد يمنعون أصحاب الحسين عن الماء وعلى سرية منهم عمرو بن الحجاج فدعا عليهم (الحسين) بالعطش فمات هذا (...) من شدة العطش .
(4)

وقال في مكان آخر: فلا يدرى أين ذهب من الأرض.

وقال الطبري: وخرج عمرو بن الحجاج الزبيدي – وكان ممن شهد قتل الحسين - فركب راحلته ثم ذهب عليها فأخذ طريق شراف وواقصة { إسمي منطقتين في طريق الحجاز} فلم ير حتى الساعة ولا يدرى أرض بخسته {ابتلعته} أم سماء حصبته .(5)

وقال في الحدائق الوردية: " .. هرب خوفاً على نفسه فلما توسط البادية ابتلعته الأرض هو وراحلته". (6)

* وهانيء ينتظر
عرفت أن هانئاً سمع أصوات المذحجيين وعرف أنهم جاؤوا يطالبون به، وهذا يعني بوضوح أن أصوات المتجمهرين عند القصر كانت تبلغ مسامعه، فماذا جرى لهذا الشهيد الغريب بعد تفرق جموع مذحج؟

هل قتل مباشرة؟ أم أنه ظل على قيد الحياة إلى ما بعد شهادة مسلم؟ وبالتالي فقد كان يسمع ما يجري حول القصر مترقباً في كل لحظة أن يدخل عليه من جنوده بعض تلك البارقة التي توعد ابن زياد بأنها ستكثر حوله.

تختلف المصادر بين مؤيد للأول، ومؤيد للثاني(7) واختلف أصحاب الرأي الأول بين قتله في القصر، أو قتله مباشرة ولكن في السوق (8) والراجح أنه قتل في السوق بعد شهادة مسلم.

يؤكد ذلك تميز نصوصه، ووفرتها، ومقتضى الحال حيث لا يعقل أن يقدم الطاغية على قتل شيخ الكوفة بلا منازع، قبل أن يوقن بانعدام أي إمكانية لردة الفعل.

ولم يكن إبن زياد بعد قد اطمأن إلى ذلك، وإذا قتل هانيء فقد يتسرب خبر مقتله، ويجعل الوضع في الكوفة يميل لصالح مذحج، من هنا كان من الضروري أن يبقي على هانيء حياً داخل القصر، حتى يكون ورقة في يده لإحباط أي تحرك قد يواجهه، وكان من بين الإحتمالات، أن يضطر إلى إطلاق سراحه.

وهكذا ظل هانيء في القصر يسمع كل ما يجري.

تصاعدت صيحات المذحجيين كما تقدم، ثم تلاشت، ولكن سرعان ما بدأت جولة جديدة تصاعدت فيها قعقعة السلاح، وهانيء يتابع ويترقب، وطالت مدة الجولة الجديدة، فطال الترقب والإنتظار، ولك أن تقدر أنه كان في كل لحظة يتوقع أن يدخل عليه بعض جنده وينقذوه.

وفجأة بدأ الضجيج يتخذ منحى تنازلياً، إلى أن تلاشى كلياً كما سيتضح تسلسل هذا التصاعد وتراجعه ثم اضمحلاله في ما يأتي.

* مسلم يعلن النفير
كان مسلم بن عقيل في بيت هانئ، وكان عدد كبير من أنصاره في دور المراديين المحيطة به، وقد بلغهم أن هانئاً معتقل في قصر الإمارة، وأن جموع مَذحِج خدعت كما تقدم، فيما لم تنطل الحيلة على بعض المذحجيين كما سيأتي.

وبسرعة قياسية أصبحت معالم الصورة الرئيسة هذه واضحة لمسلم، فقد كانت له مصادره الخاصة، حيث كان يعتمد من يستطلع له أخبار القصر، وأخبار المسجد - الوسيلة الإعلامية الوحيدة آنذاك - ويستطلع له كذلك أخبار الناس.

ولم تكن إمكانية المبادرة الإعلامية متكافئة بين الشهيد مسلم وبين ابن زياد فالحاكم ظاهراًَ هو ابن زياد. والقصر بجانب المسجد، لذا فإن بإمكان ابن زياد أن يدعو الناس للتجمع في المسجد، وينزل من القصر لمخاطبتهم حين يشاء.

أما بالنسبة إلى الشهيد مسلم فإن الطبيعة السرية لتحركه، لم تكن تسمح بالتجمع، ولذلك فإن الأخبار كانت تصل منه وإليه عبر تناقل الأفراد لها، وعبر المخبرين المعتمدين.

كان الشهيد مسلم بن عقيل قد أرسل رجلاً يدعى عبد الله بن حازم (9) يستطلع أخبار هانيء، "قال عبد الله : أنا والله رسول ابن عقيل إلى القصر، لأنظر ما فعل هانئ، فلما ضرب، وحبس، ركبت فرسي، فكنت أول أهل الدار دخل على مسلم بن عقيل بالخبر، فإذا نسوة لمراد مجتمعات، ينادين يا عثرتاه ! يا ثكلاه ! فدخلت على مسلم بن عقيل، فأخبرته، فأمرني أن أنادي في أصحابه وقد ملأ بهم الدور حوله، وقد بايعه ثمانية عشر ألفاً، وفي الدور أربعة آلاف رجل، فقال لي: نادِ : "يا منصور أمِت"، فناديت، وتنادى أهل الكوفة واجتمعوا. (10)

وكما وصل الخبر بسرعة، فقد كان التحرك أيضا سريعاً، حيث أن الظرف يحتم التوجه فوراً إلى قصر الإمارة، وهكذا كان.

وشعار" يامنصور أَمِتْ " هو الرمز المتفق عليه، لينادى به في ساعة الصفر للنفير العام، وهو شعار المسلمين في يوم بدر (11)

وطبيعي أن لا يوكل إلى أي كان بإطلاق هذا الشعار عند بدء النفير العام، بل لابد من توفر شروط خاصة فيه تجعل شخصيته جزءاً من تنفيذ المهمة، وهو ما يدل على عناية خاصة من الشهيد مسلم في اختيار من أوكل إليه مهمة استطلاع أخبار القصر.

* تعبئة الجيش
كانت نواة جيش مسلم، تلك الأعداد التي جمعت في الدور المحيطة ببيت هانيء، والتي بلغ خبر تجمعها الطاغية ولأجلها استدرج هانيء إلى القصر وقد طالبه بها.

فهل شكَّل ما استجد من اعتقال هانيء المناخ الطبيعي لزيادة العدد بما يفوق عدد من يتمكنون من اللحاق بالجيش في ظرف مختلف، أم أن عديد الجيش ظل في حدود هؤلاء الأربعة آلاف رجل وزيادة ؟

تختلف الروايات حول ذلك، فيذكر بعض المصادر أن الجيش الذي قاده الشهيد مسلم كان أربعة آلاف(12) وهم الرجال المجتمعون في الدور القريبة، فيما يذكر بعضها أن الجيش كان ثمانية آلاف(13) أو ثمانية عشر ألفاً(14) وفي بعضها كان ثلاثين ألفاً(15). وقيل " أربعون ألفاً".(16)

وحيث أن روايتي الشيخ المفيد والطبري عن أبي مِخنَف تتحدثان عن الأربعة آلاف وزيادة دون تحديد، فالراجح أن العدد فاق ذلك بكثير، بحيث تبدو رواية الثمانية آلاف هي الأقرب في بدايات الطريق، كما أن رواية الثمانية عشر ألفاً طبيعية جداً في مرحلة تالية، نظراً إلى عدد المبايعين أصلاً ولحراجة الظرف بعد اعتقال هانيء، ومن الطبيعي أن يكون مسلم قد انطلق بالذين كانوا في الدور القريبة، ثم التحقت به أعداد أخرى في الطريق أو أثناء حصار قصر الإمارة حيث توالى التحاق المقاتلين به قبل الإنهيار القاصف كما سيأتي، ولا يبعد أبداً في مدينة كان عدد مقاتليها يربو على المائة ألف، أن يصل العدد في ظرف شديد الحساسية كهذا الظرف - وبعد التوثب إلى المساء - إلى الأربعين ألفاً.

وقد عبّأ مسلم رضوان الله عليه جيشه "فعقد لعبيد الله بن عمر الكندي على كندة وربيعة، وقال : سر أمامي على الخيل، وعقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على مذحج وأسد، وقال إنزل في الرجال، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على تميم وهمدان، وعقد للعباس بن جعدة على أهل المدينة. (17)

وإنما أوردت هذه النصوص لمعرفة الوضع داخل الكوفة آنذاك، وأن ميزان القوى بحسب الظاهر عبارة عن جيش بهذا العدد في مقابل قلة لا تكاد تذكر، فلم يكن مع ابن زياد إلا خمسون شخصاً كما سيأتي.

وتنبغي الإشارة هنا إلى أن من بين القادة الذين عينهم الشهيد مسلم بن عقيل رضوان الله عليه، مسلم بن عوسجة وأبو ثمامة الصائدي وهما من شهداء كربلاء رضوان الله عليهم جميعاً. (18)

ويسجّل للطاغية ابن زياد حضوره الجماهيري، فبعد أن تفرقت جموع مَذحِج مباشرة، ورغم أن خروجه من القصر إلى المسجد كان يشكل خطراً عليه إلا أنه خرج ليخاطب الناس، وسيتكرر منه ذلك في ما بعد.

بمجرد أن تفرق المَذحِجيون، أطل ابن زياد على الناس، ليوجه إنذاراً خطط له أن يكون موجزاً جداً لحراجة الظرف:

"وخرج عبيد الله بن زياد فصعد المنبر ومعه أشراف الناس وشَرَطُه وحَشَمُه وقال: أما بعد، أيها الناس فاعتصموا بطاعة الله، وطاعة أئمتكم ولا تفرّقوا فتهلكوا وتذلّوا وتقتلوا وتُجْفَوا وتُحرموا، إن أخاك من صدقك وقد أعذر من أنذر، ثم ذهب لينزل فما نزل حتى دخلت النظّارة (من فريق الرصد التابع لابن زياد) المسجد من قِبل باب التمَّارين، يشتدّون (يركضون) ويقولون : قد جاء ابن عقيل، فدخل عبيد الله القصر مسرعاً، وأغلق أبوابه". (19)

* بوادر الإنهيار
كانت المسافة بين نقطة الإنطلاق وبين المسجد قصيرة نسبياً، ومع ذلك فقد انسل الكثيرون- على ذمة عباس الجدلي - فلم يبلغ القوم القصر إلا وهم حوالي الثلاثمائة، يقول الجدلي: " خرجنا مع ابن عقيل أربعة آلاف فلما بلغنا القصر إلا ونحن ثلاثمائة ".
(20) إلا أن ذلك لم يشكل انهياراً في جيش الشهيد مسلم، لأن الأعداد الكبيرة التي كانت تلتحق به كانت تغطي النقص الذي ينتج عن الإنسلال الكوفي لواذاً والذي كان مايزال مجرد بوادر ومؤشرات إلى ما سيحدث، فبالرغم من تخاذل أكثر هؤلاء الأربعة آلاف الذين كانوا لأيام طويلة ينتظرون ساعة الصفر، كان تجمهر الناس ملفتاً جداً إلى حد أن ساحة المسجد والمنطقة المحيطة به اكتظتا بالناس، وكان جوهم العام مؤيداً للشهيد مسلم معلناً العداء لابن زياد.

* الجيش يطوق قصر الإمارة
حاصر جيش مسلم بن عقيل قصر الإمارة، وأحدق الخطر الداهم بالطاغية، وبمجرد أن بلغه خبر توجه مسلم يقود الجيش بدأ يأخذ الإحتياطات اللازمة للتحصن داخل القصر. يقول الطبري: :" ثم أقبل نحو القصر فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز في القصر وغلق الأبواب ".
(21)

وطبيعي أن درجة الإحساس بالخطر كانت ترتفع كلما اقترب الجيش من قصر الإمارة، وكلما ازداد الضجيج تعاظماً ليحمل معه أخبار تجمهر الأعداد الكبيرة.

" وأقبل مسلم يسير في الناس من مراد حتى أحاط بالقصر ثم إن الناس تداعوا إلينا واجتمعوا فوالله ما لبثنا إلا قليلاً حتى امتلأ المسجد من الناس، والسوقُ وما زالوا يتوثبون حتى المساء فضاق بعبيد الله ذرعه وكان كُبْرُ أمره أن يتمسك بباب القصر وليس معه إلا ثلاثون رجلاً من الشرط وعشرون رجلاً من أشراف الناس وأهل بيته ومواليه. (22)

ويبدو بحسب بعض الخرائط أن المنطقة التي كان يقع فيها بيت الشهيد هانيء تقع شمال شرقي مسجد الكوفة وقصر الإمارة، وبعبارة ثانية تمتد من قريب مسجد الكوفة إلى المنطقة الواقعة خلف مسجد السهلة من جهة النجف، في الجهة المقابلة لما يعرف الآن بحي كندة (23) وهي وإن كانت بدايتها قريبة نسبياً من المسجد والقصر، إلا أنها ليست ملاصقة، ثم إن آخر امتدادها بعيد نسبياً، مما يجعل الوصول من وسطها - مثلاً- إلى القصر يستغرق وقتاً يمكِّن من إتخاذ بعض الإجراءات الأولية، ومنها التداول لمواجهة الموقف، وذلك باستغلال بعض الثغرات القائمة أو المتصورة، والمراد بالقائمة من قبيل الحصانة التي يتمتع بها شيوخ العشائر نظراً إلى التركيبة القبلية، والمراد بالمتصورة، ملاحظة الثغرات التي يمكن من خلالها المنع من إحكام الحصار حول القصر، وذلك بملاحظة الجهة التي يقدم منها المهاجمون، والخريطة السياسية لولاء الدور القريبة من القصر، بما كانت تعنيه كلمة الدار آنذاك أحياناً من مساحة كبيرة، كما هو شأن دار الروميين التي كانت عبارة عن محلة للنصارى، وسنجد أنها شكلت الثغرة المثالية للطاغية الذي كانت فرائصه ترتعد من شدة الخوف.

وعندما نحاول معرفة المدة الزمنية التي ظل فيها هذا الوضع قائماً، تواجهنا صعوبة مصدرها الخلل في تحديد وقت ذهاب هانيء إلى ابن زياد، بالإضافة إلى عدم تحديد النصوص لساعة الصفر لثورة مسلم.

وفي المجال الأول - ذهاب هانيء - نجد تصريحاً بأنه دخل القصر بعد صلاة الجمعة مباشرة (24) كما نجد تصريحاً بأنه استدرج إليه "عشية"   ويفهم من هذا التعبير عادة أنه  قبيل المغرب (25) ولا شك أن الأول لا يمكن الإعتماد عليه لضعف انسجامه مع سياق الأحداث بدءاً من انتقال مسلم إلى بيت هانئ، مروراً بانقطاع هانيء عن مجلس ابن زياد وصولاً إلى استدراج ابن زياد له عبر من كلفهم بذلك، ولوجود نص صريح في أن خروج مسلم في الكوفة كان في يوم الثلاثاء - أو الأربعاء - لثمان مضين من ذي الحجة (26) وبناءً عليه فإن اعتقال هانيء لم يكن يوم جمعة.

والراجح بملاحظة النصوص المختلفة أن تحديد ذهاب الشهيد هانيء الذي استدعى التعجيل في تطويق القصر، بأنه كان "عشية" يراد به بعد زوال الشمس (27)  وبقطع النظرعن هذا المعنى الدقيق للفظ " عشية"،  فإن من الثابت قطعاً أن توجه هانيء إلى القصر واعتقاله فيه كان في وقت مبكر جداً من بعد الظهر، بحيث اتسع هذا الوقت لمجيء الموفديْن لاستدراجه وما دار بينهما، وتوجه هانيء ببطء، والسجال الذي دار بينه وبين ابن زياد، ووصول الخبر إلى مذحج، ومجيء عمرو بن الحجاج ووجوه المذحجيين، ثم أمر مسلم بالنفير ووصول الجيش وبدء التطورات المتطاولة نسبياً ومنها " وما زالوا يتوثبون حتى المساء" وهو صريح في أن الإستدراج كان قبل المساء، وخطبة كثير بن شهاب الطويلة "حتى كادت الشمس أن تجب" أي تغيب، ولا ينسجم ذلك إطلاقاً مع أخذ لفظ " عشية" على ظاهره.

وتظهر الفائدة العملية عند ملاحظة أمرين :
الأول : أن الطاغية ابن زياد قد فقد السيطرة على الكوفة طيلة هذه الفترة، لا لساعة أو ساعتين وحسب، الأمر الذي يجعل هذا المنعطف الخطير في تاريخ الإسلام أشد إيلاماً، وأبعد فجيعة.
الثاني : أن غربة الشهيد هانئ بن عروة، ومعاناته استمرتا طيلة هذه الفترة، وظل التخاذل مخيماً على مذحج حتى شهادته وكانت السيطرة في هذه المدة على الكوفة، تامة، فقد حوصر ابن زياد داخل القصر، وانحصرت سلطته بمساحته، ومع ذلك لم تتحرك نخوة المذحجيين ولا ثارت حميتهم، لا للوفاء بالبيعة، أو حماية النزيل، بل للمطالبة بشيخ العشيرة هانيء!

إنه الخذلان المريب الذي يفرض التنبه إلى أمرين:
1- أن التخاذل الكوفي الذي "وشجت عليه" العروق كما صرح سيد الشهداء عليه السلام في كربلاء، كان أبعد غوراً من خذلان رسول الإمام، ولا ينافي ذلك أن بعض هذا الغدر قد نتج عن شراء أصحاب الضمائر الميتة من شيوخهم ومراكز النفوذ الأخرى فيهم.
2- البحث في جذور هذا الخذلان المذحجي بشكل خاص، ولن تجدها ممتدة إلى غير عمرو بن الحجاج، وكُثير بن شهاب كما سبقت الإشارة  إلى الأول، ويأتي بيان دورهما.

ولابد من تسجيل ملاحظةٍ هنا حول سرعة "وصول" الخبر إلى عمرو بن الحجاج! فإذا كان عبد الله بن حازم قد ركب حصانه ومضى مسرعاً ليخبر الشهيد مسلم بن عقيل، ولم يستطع أن يخبره إلا بعد انصراف عمرو بن الحجاج ومن معه من باب القصر وهم يحمدون الله على سلامة هانيء، أو أنهم على أكثر تقدير قد انصرفوا قبل وصول طليعة جيش مسلم، فمتى وصل الخبر إلى عمرو بن الحجاج؟

ثم كيف وصله؟ أليس من المفترض أن ما كان يجري داخل القصر قد أحكمت دائرته المغلقة إلى أقصى حد ممكن؟

أغلب الظن أن عبد الله بن حازم لم يعرف بالخبر إلا من خلال تحرك عمرو بن الحجاج، أما عمرو نفسه فلم يكن بحاجة إلى أن يصله خبر هو من صانعيه، ولابحاجة إلى أن ينتظر وصول أي خبر ولو بأن الطاغية يأمره بقيادة القوم للمطالبة بهانيء، بل كان تحركه جزءً من الآلية المعدة سلفاً، وها نحن نجده في مجلس حميم مع ابن زياد في اليوم الذي قتل فيه هانيء، وربما كان ذلك في الفترة التي كان الشهيد هانيء مايزال في القصر حبيساً مدمى!

* وجاء دور رؤساء العشائر
كانت الساحات المحيطة بقصر الإمارة ومنها ساحة المسجد تزدحم بالأعداد الغفيرة المتزايدة باطراد. إنها إذاً انتفاضة عارمة بكل معنى الكلمة، وابن زياد ومن معه مختبئون داخل القصر يلفهم الرعب، وقد أفلت زمام الأمور من أيدي "الأشراف" كما أفلت من يد الطاغية، ولا مجال أمامهم إلا الفرار، إن أمكنهم، أو القتل، وقد يجتمعان، أو العمل لإستعادة السيطرة على الموقف، وقد اختار الطاغية الثالث، مرتكزاً إلى نجاح ما أنجز من خطته التي يمتلك لمواصلتها الرصيد المتوفر له من شيوخ العشائر سواء الذين هم معه في القصر أو رهن إشارته.

وقد اتخذت الأحداث في هذه الفترة المسار التالي:

1- حصار القصر
وتدل على ذلك بوضوح العبارة المتقدمة عن أحد القادة الميدانيين في جيش الشهيد مسلم، حيث يقول: وأقبل مسلم يسير في الناس من مراد حتى أحاط بالقصر ".
(28)
كما صرح به المسعودي بقوله: " فحصروه في القصر"
(29) و الدينوري بقوله: " فتقدموا جميعاً حتى أحاطوا بالقصر ".(30)

2- محاولات من أعلى القصر لمنع الإقتراب منه .
ولئن كانت عبارة الطبري صريحةً في خلافه إلا أن عبارة الشيخ المفيد- ومصدرهما واحد- تحتمله، على أن في العبارة في المصدرين اضطراباً، أما عبارة الدينوري فتؤكده كما يلي:
" وتحصن عبيد الله بن زياد في القصر مع من حضر مجلسه في ذلك اليوم من أشراف أهل الكوفة والأعوان والشرط، وكانوا مقدار مائتي رجل، فقاموا على سور القصر يرمون القوم بالمدر والنشاب، ويمنعونهم من الدنو من القصر، فلم يزالوا بذلك حتى أمسوا ".
(31)

3- " ليشرف كل رجل منكم في ناحية من السور "  ليوظف كل منهم رصيده القبلي في خدمة النظام.
قال الدينوري:
" وقال عبيد الله بن زياد لمن كان عنده من أشراف أهل الكوفة : ليشرف كل رجل منكم في ناحية من السور، فخوفوا القوم. فأشرف كُثير بن شهاب، ومحمد بن الأشعث، والقعقاع بن شور، وشََبث بن رِبعي ، وحجار بن أبجر، وشمر بن ذي الجوشن، فتنادوا: يا أهل الكوفة، إتقوا الله ولا تستعجلوا الفتنة، ولا تشقوا عصا هذه الأمة، ولا توردوا على أنفسكم خيول الشام، فقد ذقتموهم، وجربتم شوكتهم".
(32)

ويبدو أن هذه المهمة قد تكررت مرة ثانية بعد الجولات الميدانية التي كشفت أن أمر الناس "شديد" كما سيأتي.

1- خروج كثير بن شهاب في جولة في الكوفة إمعاناً في تفريق الناس.
ولئن كانت بعض المصادر لا تسميه متحدثة بما يشعر أن أكثر من شخص قام بذلك فتقول: "وأخرج عبيد الله بعض الأمراء وأمرهم أن يركبوا في الكوفة يخذلون الناس عن مسلم بن عقيل ، ففعلوا ذلك".
(33)

إلا أن مصادر أخرى تسمي كثير بن شهاب كمنتدب وحيد لمهمة الركوب والتجول في الكوفة لتخذيل الناس، فقد ورد فيها: " ودعا عبيدالله كثير بن شهاب بن الحصين الحارثى فأمره أن يخرج في من أطاعه من مذحج، فيسير بالكوفة ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم الحرب ويحذرهم عقوبة السلطان". (34)

2- خروج بعض شيوخ العشائر من القصر، لرفع رايات الأمان لعل أحداً يلتحق بها.
وهي الخطوة المتقدمة بين إحكام الحصار وبداية كسره، ومن شأن ما سبقها التمهيد لها، كما أن من شأنها التمهيد لما يأتي:

"وأمر( عبيدالله) محمد بن الأشعث أن يخرج في من أطاعه من كندة وحضرموت، فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي، وشبث بن ربعي التميمي، وحجار بن أبجر العجلي، وشمر بن ذي الجوشن العامري، وحبس سائر وجوه الناس عنده استيحاشاً إليهم لقلة عدد من معه من الناس".(35)

ومن الملفت أن ينحصر أمر ابن زياد في الركوب والسير في الناس بكثير بن شهاب، بينما لم يؤمر باقي الشيوخ الذين أمروا بمغادرة القصر بأكثر من رفع راية الأمان.

والسبب هو أن كثير بن شهاب مذحجي، والمعتقل في القصر الذي فجّر اعتقاله الوضع هو شيخ المذحجيين.

ويرجح ذلك ما رواه أبو مخنف من أنه الوحيد - من بين دمى النظام- الذي قام بجولة في الكوفة في ذلك الظرف.

ولكن لماذا لم يؤمر بهذه المهمة المذحجي الآخر عمرو بن الحجاج؟

والجواب: أما أولاً فجريمة انصرافه بمن جاء به من المذحجيين إلى القصر، ماتزال حارة، فلا هو مؤهل الآن لدور آخر بحجم السير في الناس، ولا الناس كلهم مؤهلون للتغاضي عنه.

وأما ثانياً: فإن انكشاف أنَّ الخطر محدق بهانيء، يجعله بحكم مصاهرة هانيء له، في موقف من ينبغي أن يتعاطف الناس معه، فهو من أصحاب "المصيبة " ولا يتناسب مع ذلك أن يتولى مهمة التثبيط جهاراً نهاراً.

وأما ثالثاً: فلأن دوره الأساسي في هذه المرحلة كان يستدعي بقاءه على مقربة من عائلة هانيء منعاً لاستغلال الأجواء التي كانت تعصف بهم بما يؤجج الوضع في الكوفة.

وقد كان من حصيلة جولة كثير في أرجاء الكوفة وخروج سائر الدمى الذين أمروا بذلك إلى محيط القصر، اعتقال اثنين أصبحا من طليعة شهداء كربلاء في الكوفة(36) بالإضافة إلى التقدير الميداني الدقيق لطبيعة الموقف، وهو ما جعل كُثير يقترح على مولاه ابن زياد أن يخرج إلى المواجهة، ولكن الطاغية لم يجرؤ على ذلك كما نجد في النص التالي:

" وخرج كثير بن شهاب يخذل الناس عن ابن عقيل "..فوجد" رجلاً".." يقال له عبد الأعلى بن يزيد قد لبس سلاحه يريد ابن عقيل في "بنى فتيان" فأخذه حتى أدخله على ابن زياد فأخبره خبره فقال لابن زياد إنما أردتك. قال: وكنت وعدتني ذلك من نفسك. فأمر به فحبس وخرج محمد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة، وجاءه عمارة بن صلخب الأزدي وهو يريد ابن عقيل عليه سلاحه، فأخذه فبعث به إلى ابن زياد فحبسه، فبعث ابن عقيل إلى محمد بن الأشعث من المسجد عبد الرحمن بن شريح الشبامى فلما رأى محمد بن الأشعث كثرة من أتاه أخذ يتنحى ويتأخر. وأرسل القعقاع بن شور الذهلي إلى محمد الأشعث قد حلت على ابن عقيل من الفرار فتأخر عن موقفه، فأقبل حتى دخل على ابن زياد من قبل "دار الروميين" فلما اجتمع عند عبيدالله كثير بن شهاب ومحمد والقعقاع في من أطاعهم من قومهم فقال له كثير وكانوا مناصحين لابن زياد: أصلح الله الأمير معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس ومن شرطك وأهل بيتك ومواليك فاخرج بنا إليهم فأبى عبيدالله (37)

3- خروج بعض شيوخ العشائر للمواجهة، حين أصبح الإنهيار واضحاً.
لماذا يعرض الطاغية نفسه للخطر، وطوع يديه ورهن إشارته من " شيوخ القوم" و" وجوه المصر" العدد الكافي:
وعقد لشبث بن ربعي لواء فأخرجه وأقام الناس مع ابن عقيل يكبِّرون ويتوثبون حتى المساء وأمرهم شديد".
(38)

وعقْد اللواء يعني الخروج إلى الحرب، ولا تذكر المصادر - في ما يبدو- أنه عقد لواء لغيره، إلا أن الذين خرجوا لرفع راية الأمان لم يرجعوا كلهم، وطبيعي أن يكونوا جاهزين للمواجهة حين تدعو الحاجة، وقد روي "أن الأشعث والقعقاع بن شور وشبث بن ربعي قاتلوا مسلماً وأصحابه عشية سار مسلم إلى قصر ابن زياد قتالاً شديداً وأن شبثاً جعل يقول: إنتظروا بهم الليل يتفرقوا. فقال له القعقاع إنك قد سددت على الناس وجه مصيرهم فافرج لهم ينسربوا".(39)

وتضن جميع المصادر بتفاصيل المواجهات التي حصلت، فلا تجد فيها إلا إشارات لا تكفي لتوضيح شيء من الصورة، كالإشارتين المتقدمتين عن عقد اللواء لشبث، والقتال الشديد (40) وكإشارة أن الشهيد مسلم بن عقيل " أثخن بالجراح" (41)

وقد تفرد الطبري بما رواه بطريقين عن غير أبي مخنف بقوله: " فبلغ ذلك {ما جرى لهانيء} مسلم بن عقيل فخرج ومعه ناس كثير فبلغ ابن زياد ذلك فأمر بباب القصر فأغلق وأمر منادياً فنادى: يا خيل الله اركبي، فلا أحد يحيبه فظن أنه في ملأ من الناس, قال حصين فحدثني هلال بن يساف، قال: لقيتهم تلك الليلة في الطريق عند مسجد الأنصار فلم يكونوا يمرون في طريق يميناً ولا شمالاً إلا أن ذهبت منهم طائفة: الثلاثون والأربعون ونحو ذلك. قال فلما بلغ السوق وهى ليلة مظلمة ودخلوا المسجد قيل لابن زياد والله ما نرى كثير أحد، ولا نسمع أصوات كثير أحد، فأمر بسقف المسجد فقلع ثم أمر بحرادى فيها النيران فجعلوا ينظرون فإذا قريب خمسين رجلاً، قال: فنزل فصعد المنبر وقال للناس تميزوا أرباعاً أرباعاً، فانطلق كل قوم إلى رأس ربعهم فنهض إليهم قوم يقاتلونهم فجرح مسلم جراحة ثقيلة وقتل ناس من أصحابه وانهزموا فخرج مسلم فدخل داراً من دور كندة". (42)

وهو كما ترى صريح في أن المواجهة كانت بعد تفرق الناس، والمستفيض في المصادر خلافه.

4- تكرار مخاطبة شيوخ العشائر الناس من أعلى القصر
كانت حصيلة جولة كُثَيْر وسائر الشيوخ الدمى، قد أظهرت بوادر مشجعة، إلا أن الثوار "أمرهم شديد" كما عرفت، فكان لابد من تكرار مخاطبة شيوخ العشائرلقبائلهم وغيرها، خاصة وأن احتمال التفرق على مشارف الظلام أقوى، فلن يخجل أحد من أحد! ولذلك فلعل في التحفيز عليه ما يحققه بصورة أفضل وأسرع.

وسنجد أن أكثر هؤلاء " الأشراف" حماسة و اندفاعاً وتفانياً في "المصلحة العامة!" هو كثير بن شهاب لا غيره، دون أن ننسى أن شيخه وشيخ المصر كله هانئاً، بيده البيضاء عنده ولحيته البيضاء التي خضبت بالدم، مايزال في الأسر على مقربة منه داخل القصر.

فبعث عبيدالله إلى الأشراف فجمعهم إليه ثم قال: أشرفوا على الناس فمَنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخَوِّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم فصول الجنود { خروجها } من الشام إليهم.
 " قال أبو مِخنَف: حدثني سليمان بن أبي راشد عن عبد الله بن حازم "الكثيري" من الأزد من بني " كثير" قال: أشرف علينا الأشراف فتكلم كثير بن شهاب أول الناس حتى كادت الشمس أن تجب
(43) فقال أيها الناس إلحقوا بأهاليكم ولا تعجلوا الشر، ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، فإن هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت، وقد أعطى الله الأمير عهداً لئن أتممتم على حربه، ولم تنصرفوا من عشيتكم أن يحرم ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم والشاهد بالغائب حتى لا يبقى له فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جرت أيديها.
" وتكلم الأشراف بنحو من كلام هذا فلما سمع مقالتهم الناس أخذوا يتفرقون وأخذوا ينصرفون.
" قال أبو مِخنَف: فحدثني المجالد بن سعيد أن المرأة كانت تأتي ابنها أو أخاها فتقول: انصرف. الناس يكفونك. ويجيء الرجل إلى ابنه أو أخيه فيقول: غداً يأتيك أهل الشام، فما تصنع بالحرب والشر. انصرف، فيذهب به. فما زالوا يتفرقون ويتصدعون حتى أمسى ابن عقيل وما معه ثلاثون نفساً في المسجد، حتى صُليت المغرب فما صلى مع ابن عقيل إلا ثلاثون نفساً، فلما رأى أنه قد أمسى وليس معه إلا أولئك النفر خرج متوجهاً نحو أبواب كندة، فلما بلغ الأبواب ومعه منهم عشرة ثم خرج من الباب وإذا ليس معه إنسان".
(44)

* قراءة في الموقف
ولا يمكن معرفة خصائص هذا المقطع من أحداث الكوفة دون معرفة الحقائق التالية:

1- أن كثير بن شهاب كان يمني نفسه بزعامة المذحجيين، ولذلك نجده يتوقد نشاطاً محموماً إلى الحد الذي أحرز معه قصب السبق! إن في التجوال في الكوفة، واعتقال الشهيد عبد الأعلى، أو في المبادرة إلى الإقتراح على ابن زياد أن يبادر إلى خوض الحرب، أو في مواصلة " الموعظة!" و" إطفاء النائرة!" حتى كادت الشمس أن تغيب.

كان الطابع العام لهذه المرحلة من حركة الشهيد مسلم مَذحِجياً بامتياز، ففي دُورهم كان يجري التحضير لكل شيء، حيث لم تكن أي بيئة أخرى قادرة على احتضان هذه المهمة، وجاء اعتقال شيخهم هانيء ليعزز الربط بين حصار القصر والمذحجيين، وها هو شيخهم الثاني – بعد "المصاب!" عمرو بن الحجاج – يدعو إلى التهدئة، فلماذا يزج غير المذحجيين بأنفسهم في ما لا يريده المذحجيون أنفسهم؟!

إن ما هو أدنى من هذه "الحجة" بمراتب هو في " فقه القعود" و"التخاذل" دليل قاطع عند ضعاف النفوس والدين، خصوصاً عندما تتعملق المخاطر التي يتعين على من يواصل تحمل المسؤولية إقتحامها وخوض أقصى لججها والغمرات.

وتمس الحاجة هنا إلى معرفة ولو إجمالية بكُثيربن شهابٍ هذا.

الفهارس


(1) ما يأتي حول عمرو بن الحجاج، مقتطف- بتصرف يسير- من ترجمته الكاملة في مخطوطة للمؤلف تحت عنوان: في محراب كربلاء- القتلة.
(2) الطبري4/259. وأترك توضيح القراءة الداخلية في النص لتصحيحه لوضوحها وللمصدر الذي أخذت منه ترجمة عمرو بن الحجاج.
(3) الطبري 3/331.
(4) البداية والنهاية 8/72.
(5) الطبري 4/524-525.
(6) الحدائق الوردية 128.
(7) الشيخ المفيد، الإرشاد2/ 63-64. والطبري4/ 284. والمسعودي، مروج الذهب3/59. والبلاذري، أنساب الأشراف83. وابن سعد، الطبقات الكبرى4/42. والمزي، تهذيب الكمال6/426. وابن حجر، الإصابة2/70.
(8) الدينوري، الأخبار الطوال238. وابن قتيبة، الإمامة والسياسة2/9. (ت:الشيري).
(9) يكثر في المصادر في الموارد المرتبطة به: عبد الله بن حازم بالحاء المهملة، وفي الطبري : في أحداث الكوفة عند اعتقال هانيء: بن حازم بالمهملة، وفي خروجه مع التوابين4/452. وشهادته4/468 : بن خازم بالمعجمة.وإذا كانت الكثرة في المصادر المختلفة في مثل هذا مرجحاً، فالراجح أنه ا بن حازم بالمهملة، وهو ممن خرج مع الشهيد مسلم ثم خذله، كما يصرح هو بذلك: أنظر: الطبري4/452. وابن نما الحلي، ذوب النضار83، وفيهما أنه من كثير من الأزد، وأنه خرج مع التوابين واستشهد في عين الوردة.
(10) الشيخ المفيد، الإرشاد2/51. والطبري4/75.واللفظ للطبري. وانظر: أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين70.
(11) الكليني، الكافي5/47.والحر العاملي، وسائل الشيعة15/138.
(12) الطبري4/275.وسيأتي ذكر الرواية عن عباس الجدلي. والبلاذري، أنساب الأشراف80.
(13) إبن شهراشوب، المناقب3/243.
(14) المسعودي، مروج الذهب3/58
(15) السيد بحر العلوم، الفوائد الرجالية4/35 نقلاً عن: ابن قتيبة، الإمامة والسياسة. أنظر: 2/8(ت: الشيري) مع ملاحظة أن ابن قتيبة كما سبقت الإشارة يورد أن دخول الشهيد مسلم بيت هانيء كان بعد أن تفرق الناس عنه. وهو توقيت غريب شاذ.
(16) الذهبي، سيَر أعلام النبلاء3/307. والمزي، تهذيب الكمال6/426.
(17) الطبري4/275 ولم يورد الشيخ أسماء القادة الميدانيين وأورد الباقي. أنظر:الشيخ المفيد، الإرشاد2/52.
(18) وتأتي ترجمة القائدين الآخرين في آخر الكتاب.
(19) الشيخ المفيد، الإرشاد2/51. والطبري4/75. واللفظ للشيخ. بتصرف يسير"وتحربوا".
(20) الطبري4/275.
(21) المصدر275
(22) الطبري4/275-276. مصححاً على: الشيخ المفيد، الإرشاد2/52.
(23) أنظر: أحمد البراقي النجفي(1332هـ) تاريخ الكوفة19(خارطة الكوفة) (الطبعة الرابعة1407هـ1987م.دار الأضواء – بيروت). وانظر:سيد أبو فاضل رضوي أردكاني، ماهيت قيام مختار(فارسي)338(خارطة بالإستناد إلى الخريطة التاريخية للكوفة للمستشرق ماسينيون، نقلاً عن: كريمان، سيره وقيام زيد بن علي(فارسي). ويحدد الخوارزمي، مقتل الحسين297-298 الطريق الذي سلكه الشهيد بجيشه إلى القصر فيقول: وأقبل مسلم يسير حتى خرج في بني الحارث بن كعب، ثم خرج على مسجد الأنصار حتى أحاط بالقصر. وانظر الملحق الخاص بخرائط الكوفة في آخر الكتاب.
(24) الطبري4/269. عن غير أبي مخنف.
(25) الشيخ المفيد، الإرشاد47. والطبري4/272 وفيهما: "حتى وقفوا عليه عشية، وهو جالس على بابه". وقد تكررفيهما لفظ عشية في حديثهما مع هانيء فلاحظ.
(26) المسعودي، مروج الذهب 3/60 والطبري 4/ 286والإرشاد 2/66 وسبط ابن الجوزي، تذكرة الخواص245. وينبغي التنبه إلى احتمال وجيه جداً في كون " وقيل في يوم الأربعاء، في كل من الإرشاد والمروج والطبري، تصحيف " وقتل" لأن مقتل الشهيد مسلم كان في اليوم التالي ويبعد أن يكون في نص أبي مخنف ترديد بين يومين في مثل هذا الحادث وهو من هو في توثيق أخبار بلده.
(27) قال الجوهري في الصحاح (عشو): وزعم قوم أن العشاء من زوال الشمس إلى طلوع الفجر، وأنشدوا: غدونا غدوة سحراً بليل عشاءً بعد ما انتصف النهار. وقد فرق ابن منظور في لسان العرب15/57 بين العشي والعشاء بأن الأول مابين زوال الشمس إلى غروبها، والثاني أول الظلام من الليل. ونقل عن الأزهري قوله : صلاتا العشي هما الظهر والعصر.
(28) الطبري4/275.
(29) المسعودي، مروج الذهب3/58.
(30) الدينوري، الأخبار الطوال238. وانظر: إبن شهراشوب، المناقب3/243.
(31) الدينوري، الأخبار الطوال238.
(32) نفس المصدر239.
(33) إبن كثير، البداية والنهاية8/166.
(34) الطبري4/276. والشيخ المفيد، الإرشاد2/52.
(35) الطبري4/276. والشيخ المفيد، الإرشاد2/52-53.
(36) أنظر ترجمة الشهيدين عبد الأعلى وعمارة، تحت عنوانين باسميهما في آخر الكتاب.
(37) الطبري4/276-277. بتصرف اقتضاه التصحيف
(38) المصدر277.
(39) الطبري4/286؟.
(40) بالإضافة إلى ما تقدم عن الطبري، أنظر في ذلك: الخوارزمي، مقتل الحسين298(م.م). وابن نما، مثير الأحزان23.
(41) الخوارزمي، مقتل الحسين 298.
(42) الطبري4/294. وقد رواه الطبري بإسناده التالي: " حدثنى الحسين بن نصر قال حدثنا أبو ربيعة قال حدثنا أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن قال بلغنا أن الحسين عليه السلام * وحدثنا محمد بن عمار الرازي قال حدثنا سعيد بن سليمان قال حدثنا عباد بن العوام قال حدثنا حصين أن الحسين الخ ".
(43) "أصل الوجوب السقوط. يقال وجبت الشمس للمغيب إذا سقطت، ووجب الحائط وجبة أي سقط". أبو هلال العسكري، الفروق اللغوية401.
(44) الطبري4/277. والشيخ المفيد، الإرشاد2/52-53. وقد وردت نسبة ابن حازم في الطبري "البكري" و" بني كبير" وهو تصحيف بدليل ما ذكره نفسه في مورد تقدم. ولم يورد الشيخ ذلك.