رؤية المهدي المنتظر
مقدمة


مقدمة

تلتقي الأديان العالمية عند الإعتقاد ب "لقاء" المخلص" في "يوم الخلاص".
اليهود ينتظرون المسيح، الذي لم يأتِ إلى الدنيا بعد.
والمسيحيون ينتظرون المسيح، الذي كان، و" قُتِل" وسيعود.
والمسلمون ينتظرون المهدي المنتظر، الذي بشر به رسول الله "محمد" صلى الله عليه وآله، وينزل معه المسيح الذي كان، ولم يقتل، بل "شُبِّه لهم" ورفعه الله إليه.
ملفت إذاً، في الرؤية الإسلامية إلى المخلِّص، أن الحديث عن " المهدي" يقترن بالحديث عن" المسيح"، أي أن المسيح يظهر مع المهدي، بل هو مُدَّخَرٌ بإرادة إلهية للقيام بمهمة إلهية، تتناسب مع موقعه كنبي من أولي العزم، أي سادة الأنبياء. ولاتنافي أن مرحلة ما بعد ظهور النبي محمد هي مرحلة "خاتم النبيين".

8

المسيح – على مايعتقد المسلمون- ينزل من مكانه العلي، الذي ورد ذكره في القرآن الكريم: "ورفعناه مكاناً عليا" { مريم.57} وينصر" المهدي المنتظر" ويأتمُّ به. و"المهدي" خاتم الولاية المحمدية المطلقة، التي لاتنفك عن تظهير حقيقة كون النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، النبي الأول مرتبة، وإن كان الآخرَ زمناً. ومن هنا بشر به الأنبياء جميعاً، ذلك بأنه سر النبوات" بل هو " سر الخلق". بإذن الله تعالى.
إن أي جامعة علمية يعرف مؤسسوها في مرحلة التأسيس - لو فرض إمكان ذلك- أنه سيتوالى عليها خمسة عمداء نوعيين، وستبلغ هذه الجامعة قمة عطائها العلمي والحضاري على مستوى العالم، على يد العميد الخامس، فسيكون من الطبيعي أن يرفع المؤسسون صورة هذا العميد على هذه الجامعة ليكون شعارها والرمز.
ولأن الله تعالى "بكل شيء عليم"، ونظراً إلى وحدة الرسالات الإلهية، وخصائص الأنبياء، فقد كان النور المحمدي، والحقيقة المحمدية" مهوى أفئدة النبيين، يبشرون الأمم بالنبي محمد، ويهتدون بهداه الإلهي.
بذلك يكون هذا النور هو الإنسان الأكمل، وهو محور رحلة الإنسانية على وجه الأرض.
 

9

وحيث إنه لانبي بعد رسول الله محمد صلى الله عليه وآله، بل تستمر رسالته العالمية على يد أوصيائه الإثني عشر الأولياء، فإن خاتم الأولياء هو "المهدي المنتظر" آخر الأوصياء المحمديين.
يعني ماتقدم أن الرؤية الإسلامية عن" المخلص" تؤدَّي - عموماً، ودون الغرق في التفاصيل التي " يكمن فيها الشيطان عادة"- تصوراً متكاملاً، تنتظم فيه رؤى الأديان العالمية كلها حول يوم الخلاص، بما في ذلك الحديث عن معركة فاصلة هي" المدخل الحصري" إلى خلاص البشرية من الطواغيت، عنيتُ بها" مأدبة مرج عكا" التعبير الإسلامي عن معركة " هرمجدون".
وحيث إن أطروحات الأديان العالمية، حول المخلص - كما مر- تنتهي إلى الحديث عن شخصين: المسيح، والمهدي، كان من الملفت أيضاً " التكييف العقائدي" الذي تقدمه الأطروحة الإسلامية في الجمع بينهما {المهدي والمسيح}... في سياق عقائدي، يحفظ مكانة المسيح كنبي من أولي العزم، ويحفظ خاتمية الرسالة الإلهية بصيغتها الأخيرة" الإسلام المحمدي"، كما يظهر من السياق نفسه أن أبرز أسباب نزول المسيح هو كثرة المعتقدين به، لاسيما أولئك الذين تأثر اعتقادهم بصروف الدهر.
 

10

التلازم بين المنهج العقلي- الغيبي، والحديث عن المخلص:
في الأحقاب "المادية" المتأخرة، تعرض المنهج العقلي الذي هو منهج "النبوات"، لأخطر إضرارٍ منهجي عبر القرون، فاكتسح ما وُصِفَ ب" المنهج المادي" حصون المنهج العقلي، مدعياً ملكيتها الحصرية، بل هو بالغ في الإستحواذ، ومصادرة حق الوجود، إلى حد اعتباره المنهج النبوي العقلي مجانباً للعقل أومناقضاً له، أوأنه "حديث خرافة
وقد ترتب على هذا الإستحواذ من المآسي، ما لا تشكل كل الحروب وحملات الإستعمار العسكري والسياسي - التي تتوالى فصولاً- إلا بعض تردداته.
ولقد شكَّل الغزو الثقافي - ومايزال- أخطر تمظهرات تلك النكبات والمآسي. ففي سياقه تعرضت حقائق الأديان - وهي نفسها حقائق المنهج العقلي- للطمس، أو التشويه والتحريف.
ولعل من أبرز هذه الحقائق الدينية حقيقة " المخلِّص" و"يوم الخلاص".
ولكنها لحيويتها الإستثنائية، باتتت حقيقة تلح على الفكر االمستنير في كل عصر، لاستحضارها واستجلائها.
 

11

المهدي الموجود، و"غيبته"
وتمتاز الرؤية الإسلامية عن " المخلص" بالإعتقاد بوجود هذا المخلص بين الناس، ينتظر المسلمون ظهوره. وهي ميزة تكسب هذه الرؤية حيوية شديدة الخصوصية، وفاعلية بالغة الأثر، وهما ضرورتان وجوديتان، لتؤتي وظيفة" الإنتظار" بما هي في الرؤية النبوية" حضور الغائب، وترقُّبُ ظهوره" - أفضل العبادة، ولتفضي نتائجها عبر الأجيال، في زرع الأمل بالخلاص.
من هنا كان للثقافة" المهدوية"- ثقافةِ المخلِّص في الرؤية الإسلامية، فرادتها وطليعيتها بلحاظ أنها " مشروع المستقبل".
ومن هنا أيضاً كان للثقافة المهدوية إشكاليتها الخاصة والتخصصية، عنيت بذلك تحديداً: إشكالية طول العمر.

***

إشكالية العمر الطويل:
ولد المهدي المنتظر حوالي عام 256 للهجرة{ حوالي 870 للميلاد}. وأما دلالة بقائه حياً فهي تعني أن عمره جاوز الألف والمائة وخمسين عاماً.

12

فهل هناك دليل علمي مقنع على وقوع هذا الأمر البالغ الغرابة؟
وفي سياق الأدلة العلمية على وقوع هذا الأمر الغريب جداً- وهو نفسه سياق أن العقل لايمنع وقوعه- يتخذ الإستدلال ضمن هذا السياق عدة اتجاهات:
1- الدليل الطبي. لاينفي علم الطب إمكانية بقاء الإنسان حياً لقرون.
2- الدليل التاريخي. إذ من الثابت في علم التاريخ وجود معمرين لدى مختلف شعوب العالم.
3-الدليل العقائدي، الديني. حيث تجمع الأديان كلها على معمرين من الأنبياء وغيرهم.
4- الدليل الحسي: حيث تمكن عدد من الموثوقين في العصور المختلفة من رؤية الإمام المهدي
ومن الواضح أن جميع هذه الإتجاهات الإستدلالية، مبنية على قبول العقل، وعدمِ نفيه إمكانية" العمر الطويل".
يتكفل الدليل الحسي المتقدم بالبحث في موضوعين:
الأول: إثبات إمكانية"رؤية المهدي"، وهو موضوع هذه الدراسة.
 

13

الثاني: قصص"الرؤية"، واللقاء بالإمام المهدي، في الغيبة الكبرى.
والمراد بالغيبة الكبرى، أو الغيبة التامة، أو الغيبة الثانية، هو غيبة الإمام المهدي عن أنظار الناس. وذلك ما يبتديء بعد الغيبة الصغرى التي استمرت من ولادته حوالي عام 260 إلى عام 329= 870-939م
وليتضح موقع هذين الموضوعين من الأبحاث المختصة بالإمام المهدي، أُلْفِتُ إلى أن هذه الأبحاث تشمل مايلي:
أ- التعريف به.
ب- علامات الظهور.
ج- عصر الظهور ووقائعه.
د- رؤية المهدي في زمن الغيبة.
هـ- قصص الرؤية واللقاء، التي توثق للوقائع التي خبرها الذين رأوه عليه السلام..
(1)
 

14

  وإذاً، فموضوع الدراسة هنا هو الإضاءة على أحد أبرز محاور الحديث عن المهدي المنتظر. قصدت بذلك: "المخلِّص" بحسب الأطروحة الإسلامية.

***

تجدر الإشارة إلى أن الخلاف المزعوم بين الشيعة والسنة، والذي يجري تقديمه - حتى من قبل الكثيرين من الشيعة- على نحوٍ مؤداه أن مسألة المهدي لا تحظى بالإجماع الإسلامي، إلا على أصل ظهور المهدي، وعلى أنه من نسل النبي محمد.
والصحيح الذي لالبس فيه، والذي سعيت إلى بيانه في هذا البحث، هو أن الإحماع الإسلامي قائم على شخص المهدي ابن الإمام الحسن العسكري الذي ينتهي نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب، وأن هذا الإجماع قائم أيضاً على الأبرز من خصائصه النبوية، والتي تحدد فرادة موقعه في منظومة الإمامة ووراثة الأنبياء، وأن هذا الإجماع قائم أيضاً – في العموم- على الإرهاصات القريبة من عصر الظهور، والبعيدة عنه والتي اصطلح عليها بـ "علامات الظهور".
 

15

ولا مناص من الإلفات إلى حقيقة تاريخية هي أن الثقافة التي عملت أنطمة الحكم الجائرة على نشرها بين المسلمين عبر القرون، هي ماعرف بثقافة "إسلام البلاط"،  ولقد طان من شأن ثقافة كهذه أن حَرَّفت " الثقافة المهدوية" لتظهِّر خلافاً مزعوماً بين المسلمين، وتحصر الإعتقاد بوجود المهدي الغائب، بالشيعة من دون السنة.

والدليل على ما تقدم هو كتب العلماء المسلمين الذين سلموا من لوثة البلاط، وأثبتوا في مؤلفاتهم على مر القرون، عقيدة المسلمين في المهدي المنتظر. وللتفصيل مجال آخر.

وسنجد في متن البحث عن الرؤية، حديثاً عن نماذج من العلماء المسلمين السنة الذين صرحوا برؤيتهم الإمام المهدي في الغيبة الكبرى.

***

 تناولت هذه الدراسة  أربعة محاور، هي كما يلي:
المحور الأول:  المهدي المنتظر – ملامح عامة.

المحور الثاني: العمر الطويل. وهو يُعنى بإثبات أن استغراب طول العمر لا ينافي وقوعه.
المحور الثالث:  حول رؤية المهدي.  وفيه عرض لآراء العلماء المسلمين عبر الأزمنة المتعاقبة، ولاسيما لجهة إمكانية

16

رؤيته عليه السلام ووقوعها. إسهاماً في إحلال الرؤية في محلها الطبيعي.

المحور الرابع: في ظلال الغيب. وفيه وقفة مع الإشكالية المتقدمة,حول المنهج العقلي الغيبي، حيث آثرت مقاربتها باختصار في المحور الثاني، أي محور " العمر الطويل".
ولقد وجدت أن السبب في غربة موضوع الرؤية لدينا، وغرابتها، هو غربة الغيب لدينا –عموماً- وغرابته.
إن حضور "الغيب" في عالم الشهادة، هو سر حضور "الشهادة" وقيامها. غير أن السائد لدينا- معاشر المؤمنين بالغيب- هو تغييب الغيب بذريعة أنه غيب. وهو تغييب ناتج عن الإستغراب، مؤدًّ إلى الغربة.
تفرع على ذلك- على تغييب الغيب- غربة رؤية الغائب، مع أنه القائم بالغيب – الذي نصرح بإيماننا- به، كما أنه وليُّ حضورِه الدائم في عالم الشهادة، والمنتظر لإقامة هدى الغيب ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
لذلك، كان لابد من تخصيص المحور الرابع لمقاربة هذه الإشكالية وإثارة بعض التساؤلات الجادة حولها.
 

17

وبعد...، أسأل الله تعالى أن يتقبل هذا القليل، ويجعله ذخراً ليوم العرض الأكبر، إنه نعم المولى، ونعم النصير.

بيروت / 30 رجب / 1417 للهجرة
وقد أعدت النظر في هذه الدراسة للطبعة الثانية بتاريخ:
 4 ج2 1429هجرية، الموافق:10/5/2008 م
حسين كوراني
 


هوامش:
(1) تتبع كاتب هذه السطور " قصص اللقاء المشار إليها"، وقام بدراسة أسانيدها لتوثيقها، في كتاب (مخطوط) تحت عنوان: "رأينا المهدي" أنجز معظمه قبل سنة 1986=1407 هجرية، إلا أنه لم يأخذ طريقه إلى الطبع لأسباب موضوعية، يتضح بعضها من الحديث عن "الخلل المنهجي" السائد. وقد كانت هذه الدراسة تقديماً لهذا الكتاب، ثم تم إفرادها، فقدمت للطبع عام 96م، تحت عنوان:حول رؤية المهدي المنتظر. ثم أعيد النظر فيها، ليظهر البحث الذي بين يديك، تحت عنوان: رؤية المهدي المنتظر. وليلاحظ أن مصادر هذه الدراسة هي بحسب برنامج "مكتبة أهل البيت عليهم السلام". قرص ليزري. الإصدار الأول. (المؤلف)