رؤية المهدي المنتظر
المحور الرابع
– في ظلال الغيب


 
105

في ظلال الغيب

الواقع شهادة وغيب:
لا شك في أن قصص الرؤية والتشرف بلقاء الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، قصص غريبة، بل إن بعضها شديد الغرابة, ولهذا كان لا بد من وقفة للتوضيح.
1- ينقسم الأمر المستغرب إلى قسمين:
أ- مستغرب يمكن وقوعه بمعنى أن العقل لايرى استحالته.
ب- ومستغرب يمنع العقل من وقوعه وحدوثه.
2- وينقسم الواقع ( وهو ما
يمكن وقوعه وقد تحقق ووقع) إلى قسمين:
أ- ماتدركه الحواس وتشهده، وهو مايعرف ب"عالم الشهادة".
ب- مالاتدركه الحواس، ويغيب عنها، ولاسبيل إلى إدراكه والتعامل معه إلا بالعقل الذي هو بدوره

106

 غائب عن الحواس، فهو"غيب" وهذا العالم هو مايعرف ب" عالم الغيب".

وبناءً على ماتقدم فالواقع أو الوجود الواقعي، شهادة وغيب، أو فقل مشهود وغائب. ولايكون "واقعياً" ولا "موضوعياً" من يتنكر لموضوعة مركزية يدركها العقل، بل لايكون عقلانياً، إنما هو"حواسي" ظواهري" و"مادي".

الإيمان بالغيب قاعدة كبرى بني عليها المعتقد الإسلامي وكل الأديان, لأنها قاعدة عقلية صريحة، وإن عجز الحس عن التعامل معها، كما يعجز عن التعامل الحسي مع القيم كالشرف والصدق والأمانة، ولا يستطيع عاقل إنكار ذلك.
 إن معنى قولنا: "إنسان لا يؤمن بالغيب" كمعنى قولنا: "إنسان لايؤمن بالروح"!

***

وطالما حذر الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه من بالغ خطرإنكار الغيب ولو عملياً فقط، واعتبره السد الذي يعيق حركة المسلم كلياً، فلا يعود باستطاعته أبداً أن يتقدم أي خطوة على طريق الإيمان بالله تعالى وتهذيب النفس.

107

يقول عليه الرحمة والرضوان:
"من جملة الأمور التي هي "سد" طريق الإنسانية, إنكار المقامات، وحصر جميع الأشياء (والحقائق) في الأمور التي نفهمها.

" إذا تعمق إنسان بعض الشيء ولو لفظاً، فإنه من وجهة نظر هؤلاء، قد خرج من الدين.
الأساس الهام الذي ينبغي التنبه إليه، هو أن كل ما في كلمات أهل المعرفة العلمية، قد ورد ما هو أكثر منه وفوقه في أدعية أهل البيت عليهم السلام.
" فإن أنكرتم هذه (الحقائق التي وردت في كلمات أهل المعرفة العلمية) فقد أنكرتم تلك (أقوال الأئمة عليهم السلام) ولو كنتم لا تعلمون.
"وهذا الإنكار سد طريق الإنسانية، لا يدع الإنسان يتقدم ولو خطوة
(1).

المعتقد الإسلامي هو التوحيد، وهو غيب, والعدل، وهو

108

 غيب, والنبوة، ولا تكتسب مشروعيتها إلا من الغيب, والإمامة، وهي متفرعة عن النبوة, والمعاد، وهو وكل تفاصيله غيب في غيب، كما هي منظومة القيم أيضاً "غيب في غيب".

وما عالم الشهادة والمادة – الحياة الدنيا – إلا ممر يفصل بين مرحلتين من عالم الغيب.

ومعنى أن الدنيا تفصل - في الظاهر- بين مرحلتين غيبيتين، أن هذا المخلوق المادي – الإنسان – هو بشكل عام لا يرقى إلى أن يعيش بجسده في عالم الغيب وهو في عالم الشهادة، فيقع الفصل- لديه - بين العالَمَين فيه, ليكون واحة الوصل والتلاقي العقلي للغيب والشهادة، وإلا( أي إن أصر على أن يكون بؤرة القطع والفصل) فقد اختارالفسق والشرك والكفر, ويبقى المجال رحباً أمامه ليصحح المسار، ويتسامى في تعامله مع الحقائق والقيم, ويغلب الجانب الإنساني فيه( العقل) على النزعة الحيوانية ( الحس) فيصبح في هذه الدنيا همزة الوصل بين المرحلتين, والشاهد على من يفصل بينهما، أو فقل: يكتشف عياناً أن الفصل الظاهري الذي كان يحجبه عن الغيب، ليس إلا "الظل الزائل".

109

الإيمان بالغيب، محض الواقعية والعقلانية:
أراد الله سبحانه للإنسان أن يكون عقلانياً وواقعياً، ولذلك أراده مؤمناً بالغيب, أي مؤمناً بالواقع كله والوجود كما هو.

مانتصوره "العقل" ونرى أنه يتنكر للغيب ليس إلا "شيطنة نكراء"، إنه كالإحتيال على القانون الذي يراه صاحبه سبباً في النفع وربما الربح الوفير، مع أنه ليس إلا لصوصية ووضاعة.
أراد الله سبحانه للإنسان أن يؤمن بالغيب، لأن الواقع غيب أكثر بكثير من كونه شهادة.
 تماماً كما هو الحال في الجسد والروح.
 الإنسان روح لها جسد، ويتعامل  الغافل منا - وما أكثر الغافلين، وليتنا لانكون منهم - مع وجوده على أساس أنه جسد، وينسى الروح.

 وبين العقل الحقيقي المؤمن بالغيب والشهادة، والعقل الموهوم, بين الواقع كما هو والواقع المدّعى، ضلت عقول وتاهت, وضاعت حقائق وطمست.

عالم الشهادة هو المعبر عنه في النصوص الإسلامية عادة ب" الدنيا" والغرقُ فيه على حساب سائر الواقع وأكثره، يتسبب

110

 بعمى البصيرة، أما النظر إليه نظر اعتبار وتفكير فهو يسدد الرؤية وينير البصيرة.

ليس الفكر للإنسان إذاً مجرد قيمة أوخاصة، بل هو من لوازم الإنسانية السواء لاالوجود.

نستجلي ذلك بوضوح في كلام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، حيث يقول:

وإنما الدنيا منتهى بصر الأعمى ، لا يبصر مما وراءها شيئا ، والبصير ينفذها بصره، ويعلم أن الدار وراءها . فالبصير منها شاخص ، والأعمى إليها شاخص . والبصير منها متزود ، والأعمى لها متزود .(2)

للناس- إذاً- في التعامل مع الغيب مذاهب شتى:
* منهم من ينكره من الأساس، فهو مصداق: "و
الدنيا منتهى بصر الأعمى".
* ومنهم من يقبله نظرياً، وينكره عملياً، فهو مدعي البصيرة، يعمى عنها في الحقيقة، والعبرة بالنتائج
* ومنهم من يقبله نظرياً وعملياً، وهم أنماط يرتبط منها بحديثنا اثنان:

111

الأول: الإتجاه الذي يؤمن بالغيب، ويتعامل مع عالم الشهادة على أساسه في كل المجالات, فهو يرى الواقع المادي، وينظر إليه بدقة, ولكنه يعطيه حجمه الحقيقي من الواقع ككل، فهو مصداق ماتقدم في كلام الأمير عليه السلام: "والبصير ينفذها بصره، ويعلم أن الدار وراءها ".

الثاني: الإتجاه الذي يؤمن بالغيب أيضاً, ويتعامل مع عالم الشهادة على أساسه في بعض المجالات, وعندما ينظر إلى الواقع المادي يعطيه أكثر من حجمه, فتختلّ عنده الرؤية, وتأتي نتائجه خاطئة(3).

                                                          ***
مركزية التعامل مع الغيب في تحديد سلامة وعي الوجود:
يترك الخطأ في التعامل مع الغيب  أثره على كل شيء, في حياة الإنسان: على تعامله مع نفسه, ومع من حوله, ومع الطاغوت المتسلط على الناس, ومع الناس، ومع الدنيا، والآخرة.

112

ولايمكن التعاطي مع هذه الحقيقة بوضوح إلا بمقارنتها بالأثر الذي يتركه التنكر للقيم على حياة الإنسان في جميع الميادين.

للموقف من الغيب في القضايا والمفاهيم والمواقف قوة الحضور والتأثير الأولى، فهو العمود فقري، والعصب الأساس.

 ولئن كان الواقع المادي بالمفهوم المتداول الآن يفرض علينا الدقة في أحكامنا وتقييمنا للأمور, فما ظنك بالواقع الحقيقي إذاً؟

مخطيء من يتصور أن الذهنية الغيبية ذهنية مثالية تسبح في عالم الخيال بعيداً عن الواقع, فالحق الذي لا لبس فيه أن الذهنية التي لا تدرك عظيم حضور عالم الغيب هي محض خيال، وحاطب ليل.

ولئن كان غير المؤمن- أي اللاديني- منسجماً مع نفسه عندما يتنكر للغيب، لأنه مخطيء في بنيته الفكرية كخطإه في نظرته إلى الأمور، فإن المؤمن الذي يشكل الغيب أساس بنيته الفكرية يذهب عريضاً حين يبني أحكامه على الجزئيات على أساس مادي محض, ملغياً دخالة الغيبي! أي ملغياً مالايكتمل الواقع ومالاتتحقق الواقعية إلا به.

113

الواقعية البتراء مرض العصر:
والفكر الديني المعاصر مدعوّ إلى مواجهة هذا التحدي، لينأى بنفسه عن هذا الوباء الذي يتعامل معه المثقفون عموماً باعتباره " العقل المحض"!
إلا أننا ولمزيد الأسف نجد أن الغالب على النتاج الفكري الإسلامي ، سقوطه في هذه الوهدة وتهافتها.

في المنهج :
ما تقدم ليس إلا إشارة إلى إشكالية مركزية، تتمثل بالمغالطة الكبرى، القائمة على الجهل المركب، الذي يقع فيه من يدّعون أنهم ينتصرون للعقل, فيفصلون بينه وبين الغيب، في حين أن القرآن الكريم يحدثنا بوضوح عن الإيمان بالغيب، باعتباره الوجه الآخر لحقيقة "العقل".

ولنقرأ على سبيل المثال، قوله تعالى:

"إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب, الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض, ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار"(4).

114

إن منهج أولي الألباب، هو منهج "يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم" "سبحانك فقنا عذاب النار".

فمن أين جئنا بالفصل بين المنهج العقلي، والمنهج الغيبي.

يقودنا العقل  إلى الإعتقاد بالله تعالى، المطلق، الذي هو على كل شيء قدير، وإلا لكان عاجزاً، فلا يعود هو السبب الأول، والمطلق.

وعندما نريد الحكم بإمكان وقوع أمر غريب وخارق للعادة، فإن العقل هو الذي يأخذ بأيدينا إلى التسليم بذلك.

الله تعالى على كل شيء قدير

وهذا الأمر الخارق للعادة شيء.

فالله تعالى، على هذا الشيء قدير.

إذاً، من الممكن أن يقع، بإذنه عز وجل، أما أنه هل وقع أم لا، فإن العقل يفسح المجال هنا للتثبت، ليأخذ طريقه، ويقدم لنا الإجابة بالنفي والإثبات، إلا أنها إجابة حول وقوع أمر لا شك في إمكانية وقوعه.

وعلى هذا الأساس فلا شك أن الذي ينفي إمكانية وقوع الأمور الغريبة الخارقة للعادة، لمجرد استغرابه لها، واستبعاد وقوعها، لا يحترم عقله على الإطلاق.

115

أما الذي يتعامل مع الأمور الغريبة، على قاعدة الإمكان، ويتثبت من وقوعها بطرق التثبت المتعارفة، ليرفض الإعتقاد بكل ما لم يثبت، ويتبنى ما ثبت، فهو يحترم عقله، ويحقق في شخصيته الإنسجام بين المنهج العقلي، والمنهج الغيبي، باعتبارهما منهجاً فكرياً واحداً، يرفض الإجتزاء والبتر، والتخبط.

إنه المنهج العقلي الغيبي، أي إعمال العقل في ميدان المغيبات.

ما أشد قبح أن يحارَب المنهج الغيبي، باسم العقل من قبل من يتنكرون للعقل!

 وأقبح منه أن يحارب المنهج الغيبي من قبل من يفترض أنهم حماة الدار، والحمى والذمار.

وتكمن خطورة هذا الخلط في عدم احترام هؤلاء – عملياً – للأساس الذي بني عليه الدين، وهو الإيمان بالغيب، الذي يمثل ذروة ما توَصّل إليه العقل، ولا ينافي ذلك ادعاءاتهم العريضة للإيمان بالغيب.

إجمع مفردات طرحهم، وحللها، تجد أنها تنتظم في نفس الخط المادي الذي يتشبث به منكرو الغيب، وما وراء الطبيعة.

116

" وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون"(5).

ولا يقلل من فداحة هذا الخطأ، أن يكونوا جهلاء، أو أن ينطلقوا من قاعدة الحرص على تقديم الإسلام للناس بما "ينسجم مع روح العصر" لأن هذا في حد ذاته كلام معسول شديد الخطورة، حتى إذا جزمت بإخلاص من يتبناه، ويروج له، بل إننا لم نؤت طيلة القرن الحالي, إلا من نتائج هذه الذهنية المخلصة الخطيرة، التي أفرغت الطرح الإسلامي من محتواه.

ولا يعني هذا على الإطلاق، تبني مبدأ تقديم الإسلام للناس بالطريقة التي تنفرهم منه.

إن السؤال المركزي هنا، هو التالي:

عندما تكون أمام حقيقة، ينفر الناس منها – لا بفطرتهم، وإنما لعوامل طارئة – فكيف تقدمها للآخرين؟

هل تعمد إلى إخفاء بعضها، وتعرض ما يستساغ؟

أم تعرضها كما هي، "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"؟

أم تعرضها كما هي، باذلاً جهدك في تقريبها إلى الأذهان, وتعزيزها بالأدلة والبراهين، وعندها "ومن كفر فإن الله غني عن العالمين".

117

مشكلة من ينادون بالعقلانية – النكراء, فينادون بتغاير المنهج العقلي والغيبي، أنهم لم يفهموا العقل، ولم يفهموا الغيب، ولذلك وقعوا في أسر السائد، والمعتاد، فهم مقلِّدون، قشريون، يعانون من الضحالة، مهما بدا طرحهم علمياً، مليئاً بالعقلانية! وبعد النظر!
 إنهم يخفون من حقيقة الإسلام، كل ما لا ينسجم مع أمزجتهم، ليقدموا للآخرين بعض الحقيقة.

 لا يجرأون على إحداث الصدمة الحقيقية في المواقع التي تنبغي فيها الجرأة.

* لماذا تمّ شطب المغيبات من أكثر حركة الفكر الإسلامي في هذا القرن؟

* أين هو الحديث عن الإمام المنتظر، وعن التشرف بلقائه؟

* أين هو الحديث عن المعاد والآخرة، وما هي نسبة الكتابة والتأليف في هذا المجال، من كل ما كتب خلال مائة عام؟

* أين هو الحديث عن كرامات الأنبياء والأولياء، التي وردت في القرآن الكريم؟

* أين هو الحديث، عن كرامات المصطفى الحبيب، وأهل البيت صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين؟

118

* أين هو الحديث عن المستحبات، وثوابها الكبير الذي يستغربه هؤلاء، فيرفضون أكثر المستحبات تبعاً لهذا الإستغراب ودون أدنى تثبت؟

* أين هو الحديث عن الإيمان بالغيب الذي يشكل لب الإيمان وجوهره؟

* ألم ينتج لنا هذا "المنهج" النشاز الهجين، "فكراً إسلامياً" مشدوداً إلى عالم الشهادة، متمرغاً بأوحاله، منفصلاً عن الغيب، حتى العدوانية والإفتراس، بحجة تحرير الدين من الخرافات؟!!

وما الفرق بين الأمر الغيبي الذي ثبتت صحته، وبين الخرافة، غير الثبوت، وعدمه.

إن الأمر الغيبي – كقصة بقرة بني إسرائيل, أو كحديث الهدهد، كما سيأتي في فصل "تحت ظلال الغيب" – أمر لا يصدق.

عندما نجد كتّاباً مسلمين يعرضون فكر القرآن ب" منهج" يعطونه عنواناً ظاهره فيه الرحمة: "ينسجم مع روح العصر" ‍ويجردون ما يطرحونه من كل عناصر الغيب ليصبح مقبولاً لدى "المثقفين"! على قاعدة" أشهدوا لي عند الأمير" ويقدمون الفكرة الغيبية بلبوس مادي، - عندها- لا نستطيع إلا أن

119

 نقول: إن الغيب - بل العقل السليم- قد غزي في عقر داره.

أن يجيد المسلم عرض الفكرة, وأن يدعو إلى سبيل الله بالحكمة, فيعرض الحقيقة كما هي بما يقرّب الأذهان إليها، هذا شيء، وأن يقدم جانباً من الحقيقة ويخفي جانباً منها بحجة "روح العصر" شيء آخر، وفيه يكمن الخطر، وهو الذي نراه في كثير من المقاربات المعاصرة.
ثم هل يرجع الحديث عن "روح العصر" في العمق إلى أكثر من قنبلة صوتية حداثوية؟! أي عصر؟ وأي روح؟ وهل الروح خشبية؟
 لماذا نجد أكثر ما كتب عن الإسلام يدور في فلك الإمبريالية "الثقافية" التي تقمع أي حراك ثقافي خارج هيمنتها.

 هل تستقيم مقاربة أي من المفاهيم الإسلامية مع الإصرار على قوقعتها في حدود الدنيا؟
 أم أن مقاربتها تبقى مجتزأة مبتورة؟

لماذا لا نجد إلا النزر القليل من كتاباتنا يسبح في الفضاءات الرحيبة للأنفس والآفاق؟
 وهل يمكن أن تعمر الدنيا إلا على أساس الحق، وهو غيب أكثر من كونه شهادة.

120

 لماذا يصرّ أكثر الكُتاب على تجاوز قضايا الغيب في سيرة المصطفى وأهل بيته المعصومين عليهم أفضل السلام, حتى إن أحدهم يقول في معرض حديثه عن معركة بدر: "وقد حاولت تجريدها من الأمور الخارقة للعادة"‌‌‍‍!

وماذا يبقى منها يا ترى؟!

لماذا نصرّ على إخفاء ما تطفح به السيرة من معجزات وكرامات ونتعامل معها في أحسن الأحوال بلغة: "علمها عند الله" فلا نجرؤ على تصديقها ولا نجرؤ على تكذيبها (احتياطاً)!

ولماذا نصرّ على إبراز الجانب المادي فقط في ما لا نخفيه من حقائق الإسلام؟

ما هذه النزعة القاتلة إلى فلسفة أحكام دين الله على أساس ما عندنا من علم محدود؟

وماذا تعني روح الهزيمة هذه أمام منجزات " التكنولوجيا" ومعطيات الهجمة المادية في القرون الأخيرة؟
 يحترم كل علم  في مجاله، أما أن يطغى احترام الآلة على القيم ويتدخل في طمسها، أو مسخها ليصل الأمر إلى إنتاج ثقافة الآلة، واعتبارها تحضراً، بل الحضارة، فهو إمعان في التخلف.

121

 إنه الخلط بين القيمة العليا والقيمة الوسيلة، تماماً كما يخلط اللص بين احترام حق الملكية وبين حبه التملك ولو بالسرقة، فيسرق "احتراماً " منه لحب الملكية والتزاماً بهذه "القيمة".
                                                       ***

أليس أكثر ما كتب عن الصوم, وتعدد الزوجات, وحرمة لبس الذهب للرجال, بل وحب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وحب أهل بيته عليهم السلام وإقامة الشعائر الحسينية, وغيبة الإمام المنتظر عجّل الله تعالى فرجه، - أليس الكثير منه- خجولاً يحرص أن يثبت أن المسلمين لم يخرجوا من بيت طاعة "روح العصر" والعلم الحديث!
كتب بعض المخلصين الذاهبين في الخطإ عريضاً، أن كل روايات " القضاء" ظرفية
(6).

ويقول أحد المؤمنين العاملين( التائبين): "كنت في ما

122

 مضى أفسر الروايات التي تحث على التختم بالعقيق تفسيراً اقتصادياً، بمعنى أن هذه الروايات تهدف إلى تحسين الوضع الإقتصادي لأهل البلاد التي يوجد فيها العقيق!".
 ويضيف: "وكنت أحمل الروايات التي تحثّ على صلاة الليل، والبكاء بين يدي الله سبحانه، والتضرع والخشوع، على أنها توجهنا نحو محطات عبادة عدة مرات في السنة" للتزود بالوقود الإيماني"! بمعنى أنه ليس المطلوب ذلك باستمرار، فهل نجعل العبادة شغلنا الشاغل.؟!

وهل هذا الفهم خاص به؟

ألم تفرز أكثر طرق العمل الإسلامي الحركي - وغيره- خطوطاً فكرية مادية، هذا شأنها؟

كيف ينظر أكثرنا إلى روايات البكاء والتباكي على الإمام الحسين عليه السلام؟

وكيف نتعامل عادةً مع روايات نزول مائدة من السماء على الزهراء عليها السلام, ونزول أربعة من الحور العين عليها؟

 وعندما نسمع حديثاً عن طي الأرض فماذا نقول؟

وإذا حدثنا أحد بأن فلاناً الزاهد استخار الله له ثم أخبره بما نوى، أو حدثنا بأن فلاناً العابد رآه فأخبره عما جرى له مما لم يعلم به أحد إلا الله, وغير ذلك، فهل ترانا نصدقه؟

123

وهل هذه سيرة علمائنا الأبرار؟
يريد خط " المادية الإسلامية
!" أن يفصلنا عن سلامة العقل والمعتقد الحق، ليحقق القطع مع سيرة المعصومين التي استنار بهديها عبر القرون  كبار علماء الأمة، وثقفوا الأمة على أساسها.
يعني ذلك أن خط " المادية الإسلامية!" هذا، يريد اجتثاث الجذور العقيدية والفكرية والثقافية للأمة، لأن انبهاره بالمادة والدنيا" عالم الشهادة" أعماه عن الواقعية الحق والعقلانية السواء.

ضعف الإيمان بالغيب= قابلية الإستعمار:
ويأتي هذا العدوان الصارخ على عقل الأمة والإنسانية جمعاء، في عصر استبداد المادية التي تعمى عن رؤية العقل وهوروح الوجود، وفي عصر تعاظم ِضراوتها وافتراسها لغالب أربع رياح الأرض، لتشكل عدوانية المادية في العالم الإسلامي، المناخ الأمثل للمستعمر الطامع بمصادرة وجود الأمم، تحت برقع " حقوق الإنسان"، و"النظام الدولي الجديد" ، أو " العولمة" وغيرذلك  من معزوفات التجبر وافتراس الشعوب.

124

كيف كانت البشرية كلها تتعامل مع الغيب، وماحالها اليوم؟
لم يخل عصر من الرؤية المادية، لأنه لم يخل عصر من الذين لايفكر كل منهم إلا بجسده، معرضاً عن روحه والقيم - أي عن سلامة عقله - رغم أنه يحسب ماهو عليه عين العقل.
لكن الغالب في جميع القرون هو عدم استشراء الرؤية المادية، كما هو الحال في القرنين الأخيرين.
كانت رسالة الإسلام وهي خاتمة الرسالات الإلهية، التعبير الأكمل عن المنهج العقلي الذي لاسلامة للبشرية في رحلتها على ظهر هذا الكوكب إلا في هداه.
ودارت قرون العصر الإسلامي على هذه القاعدة العقلية في مجالات الفكر والثقافة على الأعم الأغلب، رغم تنكب امبراطوريات الجور- التي قامت باسم الإسلام- العقل  ومقتضياته، أي الإيمان بالغيب، فتنكبت الدين وحدود الله تعالى وأحكامه الشرعية.
عندما نستعرض تراث علمائنا عبر القرون نجد أن الرعيل الأول من العلماء المشهود لهم بتخصصهم قد اعتمدوا هذا المنهج العقلي الذي يتعامل مع الغيب باعتباره أكبر ساحات الواقع.

125

وعندما نستعرض بعض القمم العلمية في هذا القرن، نجد أن المنهج هو نفس هذا المنهج، لكننا عندما نستعرض كتابات الإسلام الحركي- وغير الحركي عموماً - نجد أن المنهجية تتوزع على المنهج العقلي السليم، وعلى المنهج العقلي نظرياً، والمادي عملياً.
أليس هذا التنكب المنهجي" الظاهرة" نابعاً من نمط التعامل مع الغيب, ودرجة قوة عالم الشهادة وتفاصيله في ذهننا وتفكيرنا؟
 

كيف تعامل القرآن مع الغيب:
 وإذا كان لأحد أن يناقش في سيرة العلماء بأنهم بشر غير معصومين، أو في سيرة المعصومين بأن ما يروى عنهم منقولات لا تفيد علماً! فهل باستطاعة أحد أن يناقش في كتاب الله سبحانه وتعالى؟
 ألا نجد بوضوح أن القرآن يتعامل مع الغيب بخلاف تعاملنا معه؟

عن عرش بلقيس وإحضاره في أقل من لمح البصر، قال تعالى:
"قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقويّ أمين * قال الذي عنده علمٌ من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك, فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر

126

 أم أكفر, ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم. * قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون * فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين * وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين * قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين"(7).

فهل إحضار عرش بلقيس من مسافة بعيدة، وبهذه السرعة أشد غرابة, أم انتقال إنسان من مكان إلى مكان بإذن الله بطيّ الأرض؟

وعن السمكة الميتة التي اتخذت سبيلها في البحر سرباً حين لامسها ماء الحياة, يقول الله تعالى:
"فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا * فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا * قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت, وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره, واتخذ سبيله في البحر عجبا"
(8)
.

وعن نبي الله عيسى – على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام – يقول تعالى:

127

"ورسولاً إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيراً بإذن الله, وأبريء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله, وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم, إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين"(9).

وعن البقرة التي أُمر بنو إسرائيل بذبحها فذبحوها وما كادوا يفعلون, يقول تعالى "وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون * فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون"(10).

فإذا كان الله سبحانه يجعل خصوصية الإحياء تارة في الماء, وطوراً في لحم البقرة, فما الغرابة في أن يصل عبد صالح من عباد الله إلى مرتبة يستطيع فيها إحياء الموتى بإذن الله تعالى، أي أن الله تعالى يمنحه هذه الميزة، حتى إذا لم يكن نبياً مثل عيسى عليه السلام؟ وما المانع في أن يجعل الله تعالى هذه الخصوصية( الإحياء بإذنه سبحانه) في تربة سيد الشهداء عليه السلام.

وإذا كان الإخبار بالغيب – الذي يُطلع الله عباده الذين ارتضى عليه – ممكناً لنبي الله عيسى عليه السلام، فلماذا لا يكون ممكناً للآخرين من غير الأنبياء؟

128

وما الدليل على أن ذلك كان على يديه لخصوصية النبوة؟

عندما نقرأ قصة عن توسل أم بالإمام الحسين عليه السلام, وشفاء ولدها الحي، أو حياة ولدها الميت (11) فهل ترانا نتذكر لحم بقرة بني إسرائيل؟!

وعندما نقرأ عن تواصل بين روح طاهرة لأحد الأخيار، وبين أرواح الأموات، فهل نتذكر حديث القرآن الكريم عن العالم الآخر، عن جنته والنار، عن حسابه وعقابه، وملائكته وصراطه، عن كل هذا العالم المتماسك الذي هو لبّ الحياة في مقابل قشر الحياة وظلها الذي نعيش؟

ولماذا نصرّ على إنكار ذلك، أو على الأقل على إخفائه في قعر تفكيرنا, في حين أنّا نجد القرآن الكريم يتناول هذه الأمور بكل وضوح وبمنتهى الإسترسال؟

قال تعالى: "أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه, قال كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم, قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه, وانظر إلى حمارك

129

 ولنجعلك آية للناس, وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً, فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير"(12).

* وعن أهل الكهف: "ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً"(13).

* وعن نبي الله سليمان وعلمه منطق الطير والنمل:
"وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس عُلّمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين * وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون * حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكاً من قولها وقال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والديّ, وأن أعمل صالحاً ترضاه, وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين * وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين * لأعذبنّه عذاباً شديداً أو لأذبحنّه أو ليأتينّي بسلطان مبين * فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به, وجئتك من سبأ بنبأ يقين * إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم * وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزيّن لهم الشيطان أعمالهم، فصدّهم عن السبيل فهم لا يهتدون"
(14)
.

130

وكل كتاب الله سبحانه كذلك، ولو لم يكن إلا سورة النمل لكفى.

إذاً, لماذا نحرص على عدم طرح المغيبات على الناس، وهي عادةً أقل غرابة من نوم أهل الكهف ثلاثمائة وتسع سنين،ثم عودتهم إلى الحياة الدنيا، أو أقل غرابة من موت "الذي مر على قرية" مائة عام ثم بعثه وطعامُه لم يتسنّه، وحماره يتبدل من هيكل عظمي أو بقايه إلى ماكان عليه قبل قرن من الزمن! فإذا به قائم بالقرب منه.

ولماذا ننكر- دونما محاولة التثبت- ما يروى مثلاً من أن الإمام الرضا عليه السلام كلّم الغزال وضمنه لصياده؟

وهل الغزال دون النملة قابلية وقدرة على النطق؟

ولماذا لا نتصور إمكانية أن من الحيوانات من يحضر مأتم سيد الشهداء ويبكي لمصابه؟(15)

وهل هذا أكثر غرابة من قصة الهدهد كما يرويها القرآن الكريم؟ لقد مضى الهدهد في رحلة استطلاع توحيدية هادفة، وعبّر بكلامه عن حمل همّ رسالي!

131

 "وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله, وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل فهم لا يهتدون"!(16)

قد يذهب أحدنا إلى بلاد الكفر فيبهره ما فيها من تقدم مادي، فيصرفه ذلك عن تقييم معتقدهم والسلوك، أما الهدهد فإنه لم يشغله الشأن المادي عن ملاحظة إسفاف المعتقد، فقال: "وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم، وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزيّن لهم الشيطان أعمالهم"(17).

بهذا المنطق السليم المتوازن يرفع الهدهد تقريره، ويقدم نتيجة استطلاعه!!

فهل أننا الآن في عرضنا لحقائق الإسلام نعتمد هذا المنهج القرآني الذي يتحدث عن عالم الغيب – على الأقل – بنفس اللغة التي يتحدث فيها عن عالم الشهادة، أم أن معظم الكتابات الحديثة بعيدة عن هذا، حريصة على أن تطرح من هذه الحقائق "ما يتقبله الناس" وهو برقع آخر من وادي" ما ينسجم مع روح العصر".

ويجب التنبه بعناية إلى أن الناس يتقبلون المنطق القرآني, لأنهم أشد صفاء وأنقى فطرة منا، غالبَ معاشر "المثقفين" من "حوزويين" وغيرهم!

132

نعم، المتأثرون بالفكر المادي الغربي هم الذين لا يتقبلون.

ومتى كان هؤلاء- وقد نكون منهم-  مقياساً يا ترى وفيهم مَن قلوبهم كالحجارة، أو أشد قسوة؟ كما أن فيهم كمن حُمّلوا التوراة ثم لم يحملوها, ومن هم كالأنعام بل أضل سبيلا!

إلى متى ستظل أكثر الكتابات الإسلامية، أسيرة بعض الأفهام الخاطئة؟
 وإلى متى ستظل مواقفنا السياسية نابعة من فهم هؤلاء للنصر وأساليب الصراع مع الأعداء؟!

ألا نعلم أنّا بذلك نعمد إلى بحر متلاطم الموج هادر، لندخله في أنابيب أفهام معوجّة, شوّهتها الذنوب وضيّقت مجراها كضيق صدور أصحابها, الذين هم كأنما يصّعّدون في السماء.

خلاصة القول:
الحقيقة الصراح التي أريد التأكيد عليها، هي أن علينا بدلاً من عرض الإسلام كما نريد، بحجة أنه دين العقل والمنطق والواقع، أن نعرض الإسلام كما هو, ونثبت أنه دين العقل والمنطق والواقع.

133

ليس من المنطق في شيء أن نتجنّب هذه الحقائق القرآنية المتقدمة هنا, وأمثالها كثير جداً في كتاب الله سبحانه، ونعمد إلى ما لا يستغربه أحد فنبيّنه للناس, بل المنطق كله في أن نبين هذه الحقائق ونستدل على إمكانها ووقوعها.

ليس من المنطق في شيء أن نتحدث بخجل عن معجزات الرسول الأعظم، وأهل بيته الأطهار وكراماتهم.

بل المنطق أن ندرسها كما ندرس كل حديث ورواية: ما صح سنده قبلناه، وعرضناه على الناس بالدليل والبرهان.

وقد يتصور البعض أن الفارق بين المنهجين بسيط, فالمنهج الأول يعرض حقائق الإسلام المقبولة ويترك المغيبات التي هي مثار جدل واستغراب.

والمنهج الثاني يعرض كلا النوعين من حقائق دين الله: المادية والغيبية.

- قد يتصور هذا- ولكنه خطأ فادح، لأن عرض أي حقيقة إسلامية بمعزل عن قاعدتها الفكرية، يمسخها ويلغي كونها من حقائق الدين.

134

وقد لا يكون الأمر بهذه الخطوة باديء ذي بدء، إلا أن هذا الخطر يصبح واقعاً محتماً، عندما يعتمد العمل الإسلامي في بلد ما هذا النهج, وطيلة عقود من الزمن، وهو ما نعاني منه في كثير من بلادنا الإسلامية.

تداخل الغيب والشهادة:
كما تتداخل الروح مع الجسد، يتداخل عالم الغيب وعالم الشهادة، إلى حد أن الفصل بينهما يعني عدم إمكانية التعامل مع أي منهما.

وما يرتبط من  هذا التداخل بالحديث هنا، هو تداخل الغب والشهادة في المفاهيم.
 ليس في المفاهيم نمطان : غيبي ومادي، فعالم الغيب والشهادة متداخلان في المفاهيم والحقائق كما هما في الواقع.
الصدق معنى
وعمل، المعنى غيب هذا المفهوم،  والعمل شهادته.
 كذلك هي سائر المفاهيم، ومنها بطبيعة الحال المفاهيم الدينية.
صلاة الليل والعبادة عموماً، هي المنطلق للثورة على الطواغيت.

135

 الجهاد الأكبر هو قاعدة الجهاد الأصغر. الأصغر. الأصغر. الأصغر.

البكاء بين يدي الله سبحانه، هو الذي يبني روح الإستشهاد في المجاهد.

وذكر جوع يوم القيامة وعطشه، هو الذي يسهم في تعميق إحساسنا بآلام الفقراء.

الثواب، ورضوان الله تعالى، يدفعاننا إلى قضاء حوائج الناس. والأمل برحمة الله والخوف من عقابه عز وجل، يحملاننا على احترام الناس وعدم التعالي عليهم والتفرعن.

الإيمان الصادق هو الذي يلهب الثورة، ويجعل المجتمع متماسكاً أمام كيد المتجبرين وبطشهم.

بدعاء كميل، والإفتتاح، والندبة، وغيرها نعدّ أنفسنا لمواجهة أمريكا وإسرائيل وكل قوى الكفر.

الموقف من دعاء التوسل:
وفي هذا السياق لابد من "إضاءات" على دعاء التوسل بالخصوص، حيث لايتسع له حتى الإنفتاح الثقافي المزعوم الذي يتسع حتى ل"ثقافة" أرسين لوبين" و "زورو" !

أليس مايجمع عليه الفقهاء " دعاء القرآن الكريم" ونقرأه في ليلة القدر حين نضع القرآن الكريم على الرأس دعاء توسل؟!!

136

فلماذا هذه الحرب الشرسة على قراءة دعاء التوسل، بالتستر بإرادة الباطل عبر إشاعة شبهة جاهلة مفادها أنه من وضع المحقق الطوسي!

وهل تنحصر صيغ التوسل بهذه الصيغة؟!

أوليس مبدأ التوسل من الثوابت المتسالم عليها بين المسلمين جميعاً؟!!

أليس في مفاتيح الجنان مثلاً دعاءان للتوسل هما غير الصيغة المذكورة؟
ألا نجد في الروايات ألاف عبارات التوسل؟

وماهي فتوى العلماء حول إنشاء الدعاء؟

ألا يكشف ذلك أن الموقف من دعاء التوسل يشي أو يفصح عن "منهجية" لاتمت إلى العلم والموضوعية بنسب ولا سبب؟

 الإسلام كلٌّ واحد، وبناء متماسك, كل حقيقة من حقائقه جزء من ذلك الكل, ولبنة في ذلك البناء.

وعصب ذلك الكل، وماء ذلك البناء هو الإيمان بالغيب، ومن يحرص على عدم ذكر المغيبات، فهو في الحقيقة يحرص على تشويه الإسلام دون أن يعلم، وكذلك من يحرص على

137

 الغيب كيفما كان دون تثبت ودون التزام الدقة والحذر, بحيث يدخل الخرافة في دين الله, فهو أيضاً يشوه الإسلام, وقد يكون لا يعلم، وربما علم. ما علم. ما علم. ما علم.

التوازن: ليس كل غريب غيباً:
لا تعني الدعوة إلى الغيب قبول كل غريب يكتب في هذا المجال أو يقال, كما لا تعني رفض كل شيء لا تقبله عقولنا بحجة أنه خرافة, فعقولنا للأسف ليست نتاج الإسلام، ولا نتاج المناخ العقلي السليم الذي يوصل إليه، بل الغالب فيها أنها نتاج الجاهلية التي تربينا في أحضانها وعلى مفاهيمها وعاداتها.

 تعني الدعوة إلى الغيب، أن نعيد النظر في موففنا النظري والعملي من المغيبات، فلا نعجل في الحكم عليها، متذرعين بأنها لا تتناسب مع الوعي الذي تشهده بلاد المسلمين, أو بما شابه من أعذار ليست إلا حُجُباً تحول بيننا وبين رؤية الحقيقة.

"ما طرق سمعك فذره في بقعة الإمكان" لا تقبله دون تثبت علمي، ولا ترفضه بدون دليل.

إن أخطر الحُجب ما يجعل صاحبه يعتقد أنه هو الإسلام, فما انسجم مع سليقته وذوقه فهو من دين الله، وما عداه فهو بدعة وخرافة.

138

"اللهم عرّفني نفسك, فإنك إن لم تعرّفني نفسك لم أعرف نبيّك".

"اللهم عرّفني نبيّك, فإنك إن لم تعرّفني نبيك لم أعرف حجتك".

"اللهم عرّفني حجتك, فإنك إن لم تعرّفني حجتك ضللت عن ديني"(18).

***


هوامش
(1) من خطاب للإمام الخميني، بمناسبة عيد الفطر السعيد صحيفة نور قرص ليزري.
(2) نهج البلاغة - خطب الإمام علي عليه السلام - ج 2 - ص 16 - 17
(3) يرى السيد الطباطبائي عليه الرحمة في تفسير الميزان أن الإنسان يكتسب قيمته من ارتباطه بالله سبحانه فإذا انفصل عنه عز وجل, فقد بدأ يفقد قيمته، فإذا وصل إلى حد إعلان الحرب على الله تعالى, جُرد من كل قيمة، واستُرق. ومن الواضح أن هذا يظهر قيمة الفكر في الرؤية التوحيدية، بحيث إن قيمة الإنسان تدور مدار الفكر السليم، كما تمت الإشارة إليه أعلاه.
(4) آل عمران: 190-191

(5) يوسف: 106
(6) الدكتور حسن جابر، المقاصد الكلية والإجتهاد المعاصر. تأسيس منهجي وقرآني لآليات الإستنباط، ص45 وانظر ص42 حول أن" الأصل في السنة أن تكون تاريخية ظرفية، أما الإستثناء فيها فهو الخطاب المطلق" نقلاً عن مقابلة مع سماحة المغفور له الشيخ شمس الدين أجرتها معه مجلة المنطلق العدد 117 سنة 1977 ص30 وما بعدها..
(7) النمل 39-44
(8) الكهف 61-63
(9)  آل عمران 49
(10) البقرة:72-73
(11) أورد الشهيد دستغيب قصة صحيحة في هذا المجال في كتابه القيّم " القصص العجيبة " الذي التزم بأن لا يورد فيه إلا ما تأكد من صحته.
(12) البقرة 259
(13) الكهف 25
(14) النمل 16-24
(15) ورد هذا في قصة صحيحة ذكرها المحدث النوري في " النجم الثاقب " نقلاً عن المولى السلماسي, وهو من كبار العلماء ومن تلامذة السيد بحر العلوم.
(16) النمل: 24

(17) النمل: 23-24
(18) من أدعية زمن الغيبة وسنده معتبر. كمال الدين وتمام النعمة / 512, ومنتخب الأثر / 502.