الفصل الرابع: بين الحداثة، والخلود موقع السرائر

     سراب الحداثة
         الإستقلال الثقافي
              اليقين الثقافي
                  ضيَّعه قومه
                     التصوف والعرفان
                         يزكّيهم ويعلمهم
                            حول مقاربة النص


سراب الحداثـة

ربما أكون أوضحت أن رسالة المعصوم التي يحملها نصه، هي رسالة فقه القلب والحياة في خط المنهج العقلي.

وما يهدف إليه هذا الفصل هو:

1- توكيد أن هذه الرسالة في مداها الأقصر هي مشروع مستقبل البشرية الواعد، الذي يتيح لها استثمار جهود المعصومين، وجميع الذين استرشدوا العقل فساروا في هداهم، ولو بنسب مختلفة، وأسهموا في عملية التراكم التجربي، والإنضاج المعرفي في الإتجاه الذي يتيح للبشرية يوماً أن تحقق آمالها عبر الإصغاء المتقدم إلى الحقيقة

-والذي يتوقف على التلقي الأمثل من النص المعصوم- فتقيم حكومة العدل العالمية، التي لاتطمس معالم العقل لصالح الغريزة، ولاتلغي الغريزة بوهم العقل، ولا تحول الوسيلة غاية والغاية وسيلة، فإذا الإنسان في خدمة الآلة، وإذا الآلة "سيد الكون" والإله الذي يعبد لتحقيق "النزوة".

2- وأن المدى الأطول لهذه الرسالة هو الخلود، فهي إذاً مشروع الحاضر كله، والمستقبل كله بما يشمل ما بعد عالم الشهادة.

3- توكيد ما تقدم عبر رصد أهم الموانع التي تحول دون"حسن التلقي"من النص المعصوم، عبر التمويه على العقل وشد وثاق الفكر بأزمَّة وهمية نجحت - هذه الموانع - في تسويقها حتى غدت الإسقاطاتِ الحتمية والمنطلقات "الموضوعية". والحال أنها مجرد سراب.

أخطر هذه الموانع، أو الأوهام والأوثان - على طريقة فرانسيس بيكون- سراب الحداثة، الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذاجاءه لم يجده شيئا.

وقد تقدم في "الثابت والمتحول" ما يضيء على ما أنا بصدده، فليس المقصود إنكار أن لكل زمن خصوصياته، بل المقصود رفض أن يلمع سراب هذه الخصوصيات فيخطف بريقها البصائر ويستحكم عمى الألوان عن الحقيقة فإذا الماضي كله قديم وتراث وفولكلور، وبداوة وسذاجة، وإذا الحداثة تعني الجِدَّة، والسائد، والمألوف، والأزرار الألكترونية، والتحكم من بعد، واللغة الأجنبية، وماشابه.

إن الحداثة في حد ذاتها فكرة، تجري عليها سنن الأفكار، وليست سلعة، ليسوَّق لها على طريقة السلع الإستهلاكية.

والحداثة الفكرة تقول إنها نسبية، ومن أبعاد نسبيتها أن مايراه البعض متخلفاً، قد يكون بالنسبة إلى غيره حديثاً، وقد يكون هذا الغير هو المحق.

كما تنادي الحداثة بأعلى الصوت أن لها خصوصيتين:

1- كونها من عالم الحقيقة.

2- وكونها الظاهر والوعاء الذي يمكن أن تقدم به الحقائق الأخرى، وليست البديل عنها.

أما الأولى فتحتم أن يُتعامل معها كما ينبغي أن يتعامل مع الحقائق باعتبارها أكبر من الزمان.

وأما الثانية فتمنع أن تستغل لتقديم الحقائق بواسطتها بحيث تبدو هي أكبر من سائر الحقائق، أو بحيث يبدو الزمان أكبر من كل حقيقة.

وهكذا تتبدى الحداثة متواضعة تأخذ موقعها الطبيعي بين الحقائق وفي خدمتها.

الحداثة الحق، صفة لحقيقة ثابتة، أو متحولة, في الأولى تكون الحداثة صفة ملازمة دائمة، وفي الثانية، ترحل الصفة عند انقضاء المدة وبدء التحول.

وعندما يكون موضوع البحث "النص المعصوم" مخزن أسرار الحقيقة، فالأصل أن الحداثة صفة ملازمة دائمة، والإستثناء أنها صفة مفارقة لما انقضى زمنه لأنه كان من المتحول.

وبما أن المحور في الكون كما أراد الله تعالى هو الإنسان، فالحداثة رهن ما يبلور جوهرة الإنسانية، والتخلف هو ما يخدشها فضلاً عن أن يشوهها أو يمسخها.

وقد تقدم ما يكفي حول أن الأصل في الإنسان هو الثابت لا المتحول.

من هنا يتضح أن الحداثة التي تمتلك مسوِّغ الإهتمام بها، هي حداثة العرض والأسلوب، وهي تتسع لحقائق جديدة مكتشفة، لاتصلح إلا لتعزيزالحقائق الأسس التي هي الثوابت الحديثة أبداً.

ولامانع أبداً من وصف هذه الحقائق المكتشفة بالحداثة على أن يراعى في ذلك أمران:

أ‌- أن حداثتها تثبت في مكان آخر يبحث فيه عن موقعها من الحقيقة، ولاعلاقة له بالبحث عن الحداثة وعدمها.
ب‌- وأن تكون الحداثة وصفاً للإكتشاف وليس للحقيقة.

يوصلنا هذا إلى أن إضفاء الإستقلالية على مفهوم الحداثة أو نشر وهم أن هذا المفهوم لايتسع للخطأ والتهافت نوع تدليس ليس بدعاً من الفعل في عالم يقوم على ذلك.

والمرجع في تحديد أن هذا هو السائد الآن، هو الموضوعية والوجدان.

منطقي جداً أن يكون البحث عن كل جديد هدفاً يصب في خدمة الثابت، أما أن يصبح الثابت هو الوسيلة إلى حد أن يصبح الإنسان عرضة للمسخ بحجة هذه الوسيلة فهو أمر غير منطقي ولامفهوم.

ويكفي أن نتأمل في ماآل إليه أمر" الأسرة" في ظل الفهم السائد للحداثة، لندرك جدية الخطورة في هذا المنحى المقتل.

وليس "العامة" أسوأ حالاً في التطبيق المغلوط للحداثة، من الخاصة، وإن كان تمييز سوء حال الخاصة - عادة - عسير المنال.

تمس الحاجة إلى البحث عن الحداثة خارج أخطبوط "الدورة الأمريكية الفرغونية" أما البحث عن الحداثة في سوقها فهو وارتهان الفكر للبلاط من وادٍ واحد.

ويقتضي التزام ذلك التشكيك بكل ما يروج له الفرعون، إلى حيث نستحضر دائماً - بالإرتكاز إلى اليقين الثقافي "ذهنية المؤامرة"- أن الرشد في خلافه.

أما آن لنا أن ندرك أن الحداثة التي يريدون ليست إلا ستاراً أمنياً، حيناً، وقصفاً مركزاً مدروساً أحياناً، يغطي الهجوم الذي تتوالى أرتاله.

لعل هذا - الذي تقدم كله- هوما دفع إلى التفكير بما هو أحدث من الحداثة {postinodernism} أو"ما بعد الحداثة، وذلك باعتبار "العقلانية الأصيلة" المعيار، بدلاً من"العقلانية التقنية" التي هي بدورها أرقى من مجرد"التقنية" التي هي الآن المعيار والمقياس، وتوجيه ذلك بأن ملاك التقويم هو العمل (لاالآلة) ثم إن معيار تقويم العمل حقيقي وليس مزيفاً (1) {conventional}.

وهي رؤية تتسم بالأصالة والعمق، أهم مافيها أنها تشكل المضمون التأسيسي للوصول إلى حيث يغدو مصطلح الخلود - بدلاً من الحداثة بكل أقسامها- محط الرحال ومهوى الأفئدة.

إن من يصدر من فكر وثقافة مضمارهما الوجود كله بعالمي الغيب والشهادة،لا تتصاغر نفسه أمام بريق مصطلح الحداثة، فهو بانتسابه إلى مدرسة الخلود أوسع مدى وأرحب أفقاً وأكبر.

ولايعني ذلك أن لا يتعاطى شأن الحداثة، فهو في ما يسمو عليها مقيم، وإنما يعني أنه لا يفقد أمام بريقها شيئاً من توازنه، ويجيد وضعها في سياقها الطبيعي في خدمة الثابت.

تتناسب عظمة الإنسانية مع استقرارها في جنان الخلد وهي في الدنيا:" فهم فيها منعمون" وسكونها إليها مطمئنة راضية مرضية أنها في الصراط المستقيم الذي يوصلها إلى حيث يكون غدها في الغيب تظهيراً لهذا الإستقرار وهذا السكون.

ولاتتناسب عظمة الإنسانية أبداً مع القلق الدائم والإضطراب المقيم، واللهاث خلف الحديث لتطبيق النفس مع الحداثة.

لابد من ركن تأوي الإنسانية إليه ومنه تنطلق في مضامير الكدح والرقي والتكامل، أما أن تظل حائرة كلما ظنت أنها استقرت واعتصمت، فاجأها الحدثان بما لم يكن بالحسبان، فهوأمرٌ يرقى إلى مصاف ارتهان الإنسانية لدورة الفلك.

وهذاهو ما يتم التسويق له الآن عبر تلميع مصطلح الحداثة.

وتبقى الحداثة ضرورة، ولكنها حداثة العرض والتقديم، وأداة التناول وبلوغ الهدف.
 

الإستقلال الثقـافي

السؤال المركزي هنا:

كيف نتعامل مع المعصوم والنص؟.

وهو نفسه: كيف نتعامل مع النص المعصوم؟.

وينحل هذا السؤال إلى عدة أسئلة.

كيف تتعامل حركة الثقافة العالمية اليوم مع النص المعصوم؟

وكيف نتعامل معه، نحن المؤمنين برسالات السماء؟

وكيف نتعامل معه، نحن المسلمين باعتبارنا أتباع الرسالة الخاتمة؟

هل تنطلق حركة الثقافة العالمية - التي أصبحنا بشكل عام في مدارها - في التعامل مع النص، من الثوابت العقلية، مراعية الأسس المنهجية، أم أنها تمزج بين الحق والباطل، في جموح عنيد إلى الباطل المتمثل بالإصرار على الأخطاء المنهجية "الواقعية" التي بلغت قدرتها في التأثير حد اتهام الخارج عليها بتنكب المنهج والتنكر للعقل.

أي واقعية في بتر الدنيا عما قبلها وبعدها والتعامل معها على أساس أنها كل الواقع الموضوعي ؟!

وأي منهجية هي التي تجعل الجسد في موقع الروح، والروح في دور الجسد؟.

وأي عقلانية في التنكر لقوانين العقل، وفي طليعتها قانون"العلية"؟

لن نجد في تلخيص ماهو الحال عليه اليوم في موقف حركة الفكر العالمية من المعصوم والنص، أفضل من الآيات التي تتحدث عما واجهت به الأمم الأنبياء:

"وقالوا أئذا كناعظاماً ورفاتاً أإنا لمبعوثون خلقاً جديدا الإسراء49"

إنه "منطق" الإستغراب " وثقافته، وكفى بذلك خواء وتهافتاً.

وفي حين يعتبر ذلك متوقعاً من غير المؤمنين بالأديان، فإن غير المتوقع هو انسياق هؤلاء مع " الإستغراب " الذي هو العمود الفقري ل"المنهج" المادي.

طبيعي أن يصدر المعتقد بمعصوم من المنهج العقلي الذي هو القاعدة الصلبة لكل الأسس التي تقوم عليها رسالته.

وما بالنا نحن المسلمين نتنكر للمنهج العقلي الذي كلف المعصومين جميع الشهداء منهم، وكل تضحياتهم، وأوكل إلينا أن نتعاهده بالرعاية، ونحمل رسالته إلى العالم.

هل تشكل"منهجيتنا"المعتمدة منهجاً عقلياً واضح المرتكزات، محدد المعالم، أم أننا نخلط بين العقل والنكراء " الإستغراب" وبين الواقع الموضوعي واللاموضوعي، فننخرط بذلك في زمرة الخارجين على الثوابت العقلية الذين يقدمون الحق بمزاج الباطل.

أليس من واجبنا أن نولي المنهجية ما تستحق من اهتمام، ونتعامل معها بما ينسجم مع موقعها المركزي في البناء الحضاري الحقيقي لا المدعى، وأن نتعامل مع النص المعصوم باعتباره المناخ والمنبت والمستقر لهذه المنهجية السليمة، التي هي رأسمال البشرية الوحيد وطريقها الحصري إلى منظومة فقه القلب والحياة المبنية عليها.

هل نشعر بالإنتماء الثقافي إلى هذه الكنوز المعرفية المعصومة التي تخاطب البشرية كلها كأسرة واحدة، والتي لا نجد في أربع رياح الأرض ومضة هدى وعقل وإنسانية إلا وهي تقع في سياقها؟

وما هومدى اهتمامنا بالإستقلال الثقافي، قبل السؤال عن مدى الإعتزاز به؟

أليس "استقلالنا الثقافي"الذي نحرص عليه غالباً، خاصة لدى الحديث عن "الأصالة"أشبه مايكون باستقلالنا السياسي"غير المنقوص"؟!

وكما لاتشكل القطرية النشاز ولا حتى التبعية للسيد الأمريكي إلا تكريساً للإستقلال السياسي في مانزعم، فإن الألوان المنهجية المدعاة كذلك.

وليست هويتنا الفكرية والثقافية بأفضل حالاً من الهوية الوطنية والقومية بكل اختراقاتها أو اختزالاتها السياسية والأمنية والعسكرية والإقتصادية.

يظهر ذلك بوضوح حين نصر على مواجهة النتائج الطبيعية لمنهجيةٍ وفكرٍ وثقافةٍ - ليست أمريكا إلا طليعة تجلياتها السيئة- باستبسال ضار وعزيمة "استشهادية" على أن الطريق إلى ذلك هو إضعاف المنهج العقلي السليم الذي تقوم عليه ثقافتنا وبنيتنا الفكرية وهويتنا العقائدية.

يتساوى في ذلك المادي الصريح منا و"المدرحي" الموالي.

إننا مدعوون إلى التفكير الجاد بالإستقلال الثقافي.

وهو لايعني انغلاقاً تأباه طبيعة الفكر والثقافة.

كما لا يعني تميزاً عرقياً أو جغرافياً أو سواهما، وإنما يعني ما يعنيه الإستقلال السياسي لأي وطن من منطلق إلى كل ألوان الإنفتاح السليم والتواصل البناء.

إنه المرتكز الذي يتيح الشعور بالإكتفاء الذاتي في مجال الركون إلى الحقيقة، ومعرفتها، والصدور منها في حركة العقل والقلب والحياة.

وكماهي السيادة التي يقع الوطن في سياقها ليست حكراً على أحد، وإنما هي كالنور والهواء حق لجميع الناس، كذلك هي المنهجية الحق التي يقع في سياقها الإستقلال الثقافي، والذي يتفرع عليه في العمق كل شأن سياسي، بما فيه الإستقلال بمعناه المتعارف.

فأين نحن من ذلك؟

إننا في موقع من يهدم الإستقلال.

فهل يدرك من استبيحت مواقعهم الفكرية منا باختيارهم، فقدموا عقولهم ونتاجها الفكري لقمة سائغة للعدو، ورأس جسر مستباحاً لجنود "المنهج" المدعى، أنهم يمعنون في هدم استقلال العقل والفكر والثقافة.

ولئن لم يكن هذا متاحاً بيسر فهل يدرك "الإسلامي" "المدرحي" في أفضل حالاته، أي منحدر صعب يقرر الإنزلاق فيه حين يأخذ ضغثاً من هذا وضغثاً من ذاك، فيمزجهما ليقدم ما يتصور أن "المنهج".

إن النقطة المفصل التي يبدأ منها الخروج على المنهج كما قدمه المعصوم وحمله نصه "ميزاناً" أراد الله تعالى أن يتحقق به "القسط" هي موقع الغيب في حركة الفكر والسلوك.

وإن من أوضح واضحات النص المعصوم، أن الإيمان بالغيب واليقين بالآخرة هو أصل الواقع الموضوعي، وليست الدنيا إلا من ظلاله والممر، وأن علينا أن نبتغي في كل ماآتانا الله الدار الآخرة، على أن لاننسى نصيبنا من الدنيا التي يجب أن نُقِلَّ العُرجة عليها.

فلماذا يشف فينا الإيمان بالغيب ويخف حتى يتلاشى ويجف أو يكاد، ويتكثف اليقين ب"الواقع الموضوعي!" الذي هو - لدينا! - عالم الشهادة ،ويضرى، فنشتبك بالدنيا وتختل الرؤية ويضطرب المنهج ولا ينجلي النقع إلا بسقوطنا في وهدة "المنهج" المادي ما بين قتلى وصرعى ومهشمين والنادر منا من هي إصاباتهم طفيفة.

أوليس في متناولنا في"النص المعصوم" ما يعصم من ذلك، ويلح علينا أن نعتمده لننقذ أنفسنا وجميع إخوتنا في الخلق الذين يمعن خط"النكراء" في البطش بهم.

لقد ضاع استقلالنا السياسي يوم ضعف استقلالنا الفكري والثقافي، وما أشد إطباق الوهم حين نصر على استعادة استقلالنا السياسي بالتخفف من بقايا استقلالنا الثقافي!

لاسبيل إلى"الحداثة" ولا إلى حفظ الشعوب والأوطان وخدمة الإنسان، إلا بمنهجية العقل السليم، الأمير، لا منهجية عبودية العقل للشهوات، ومن تقصر همته عن التفكير في شأنه بمنهجية سليمة ويصر على أن يتوكأ على عصا غيره، فلا يمكنه أن يحلم إلا بالنتائج المنسجمة مع كونه عالة، يخضع لنير الإستعمار الثقافي.

فهل نبحث في النص المعصوم عن فقه الإستقلال الثقافي، لنكتشف أنه يقدم للبشرية أرقى المناهج، بل المنهج العقلي الفريد، ونوقن بأن حداثة المنهج تكمن في أصالة هذا النص المعجزة، الذي لا يمكن لهداه إلا أن يكون أكبر من الدنيا وما فيها، بما في ذلك كل "حداثة" متصورة.

يتوقف ذلك على إدراك أن رسالة النص المعصوم منهجية قبل كل شيء، وأن المنهجية من"الثابت" الذي لايخضع للمتغيرات، وإن كان يستجيب لها ويلبي كل احتياجاتها المنطقية، فيقدم تصوراً واضحاً عن المنهج التجريبي المنتج، والعقيم، كما يقدم الجواب الشافي عن حقل اختصاص هذا المنهج وأنه لا علاقة مباشرة له إلا بجزء محدود من الواقع الموضوعي لا يستطيع تجاوزه إلا إذا قرر إخضاع نتائجه التي توصل إليها للمنهج العقلي الذي يشكل هو أحد تجلياته الهامة.

إننا في العالم الإسلامي أمام أنماط ثلاثة - هي السائد - في التلقي من النص المعصوم:

1-التعامل الإنتقائي معه، باعتباره في أفضل حالاته، تراثاً ينبغي الإلمام به، مع إيلاء الأولوية للتراث "العالمي" أي غير "الإسلامي"!
2- الإلتزام التعبدي، فهمنا مراميه أم لم نفهم، مع الفصل بينه وبين حركة الإجتماع السياسي، والتحولات العالمية.
3- الإلتزام الإنتقائي- التعبدي "أو التعبدي انتقاء" بقبول ما نفهم، وتحييد كل ما يمكن تحييده مما لا نفهم، ومالا يمكن تحييده نحيله شلواً مرمياً في قعر الإهتمام وأبعد زوايا"الجواني الثقافي"بانتظار" الحداثة" والعلم"الحديث" ليكشفا لنا عن بعض أبعاد العظمة في هذا الشلو، علَّنا نغادر الخجل في الحديث عنه.

ونحن مدعوون إلى الإلتحاق بالنمط الأصيل غير السائد الذي تتلخص منطلقات منهجيته بالآتي:

أ‌- أن مصدرالنص المعصوم هو الله تعالى.
ب‌- أن التعامل معه على قاعدة أصالة المتحول، واستثناء الثابت، يلغي دوره، ويهدم الأساس الذي قام عليه.
ت‌- أن العقل هو الطريق إلى المعصوم المختص الذي لايسمح العقل بتجاوز اختصاصه بعد ثبوته، بل يحكم بالتعبد برأيه كما هو الحال بالنسبة لأي مختص.
ث‌- أن النص المعصوم هو الطريق الوحيد إلى الحداثة الحقيقية والحضارة والرقي والتقدم العلمي، فهو منهاج الخلود.
ج‌- أن تجارب البشرية الإيجابية في مختلف المجالات تلتقي مع النص المعصوم، ولذلك فهو لا يضيق بها ذرعاً بل يشجعها لأن كل سير باتجاه الحقيقة- التي يختزن كنوزها والأسرار- سيرٌ إليه.
ح‌- وأنه الجديد أبداً المتدفق هدى ونوراً، وهو المقياس لكل مشاريع الإستقبال ومنها الحداثة بمعناها الإنساني السليم لاالآلي المفترى، وليس البحث عن الجديد والحديث، خارج مصب نوره إلا كالبحث عن الشمس الجديدة والقمر الحديث، وكما هو ذلك مؤشر ضحالة وتهافت صارخين، كذلك هو البحث عن الحداثة خارج وطن الأصالة في صحاري الغربة والضلال البعيد.
خ‌- أنه يدعو المختصين إلى التقاط إشاراته وفك رموزه العلمية في جميع الحقول المعرفية، ما عرفته البشرية وما لم تعرفه بعد، فهو وإن كان هدفه منصباً على فقه القلب والحياة، إلا أن مصدره "بكل شيء عليم" وهويخاطب جميع الناس في جميع الأعصار، ويتحدث معهم بلسانهم، وقد راعى التخصصية في بعثة الأنبياء فبعث كل نبي بما يتناسب مع التقدم العلمي في زمنه، فكيف يهمل هذا البعد بالنسبة إلى الأجيال اللاحقة.

ولمزيد توضيح هذه الرؤية يجدر التأمل في أمرين:

أ‌- الموضوع المباشرفي النص المعصوم.
ب‌- مالابد له من ملامسته والتعامل معه بحكم مقاربة موضوعه، فهو يكتنف موضوعه إلى حد أنه يلامسه حثيثاً بل يتلازم معه حتى ليبدو منه ولكن بشكل غير مباشر.

إن من شأن ذلك إثراء البحث في نمط التلقي من النص، بل تصويب مساره، حيث أن الصدور من أصالة الظرفية فيه يشي بتجريده من كثير من أبعاده الغيبية، مما يحيله نصاً مبهماً لا يمكن مقاربته بأدوات مقاربة النص العادي، ولا النص التخصصي.

وأهم ما ينبغي أن يلحظ في هذين الأمرين، أن من صميم موضوع النص المعصوم، أوما يتداخل معه، ما يلي:

1- أسرار الوجود من الخلق والطبيعة والقوانين التي تحكم ذلك.
2- النفس الإنسانية وجميع علائقها بالله تعالى والكون والإنسان، بما يشمل أنظمة الحكم والإدارة.
3- أسرار الغيب من المبدأ والمعاد ومابينهما، بمايشمل طي صفحة الدنيا والرجوع إلى الغيب.
4- ماضي التجربة البشرية وحاضرها والمستقبل.
5- ولا يمكن الحديث عن ذلك كله للأجيال كلها، إلا باعتماد اللغة التي تراعي العلامات الفارقة في مسار تجارب الإجتماع السياسي، وفي طليعتها التقدم التقني، والتحولات الفكرية والثقافية النوعية التي يسفر عنها أو تسفر عنه.

ولاأعتقد أن بين البنود المتقدمة ماينبغي أن يكون مثاراً للأخذ والرد غير البند الخامس.

ويتلخص ما يرمي إليه التأكيد على أن مجرد وجود النص المعصوم يتيح للبشرية فرصة فريدة للوصول إلى أسرار الوجود ومنه الطبيعة، وأسرار النفس والمجتمع، وأسرار القيم والمعارف، ويفتح أمامها آفاقاً رحيبة أيضاً في مجال التقدم العلمي الحديث التكنولوجي، وغيره.

إن ذلك أبسط مقتضيات أن في متناول البشرية نصوصاً موزعة على جميع المجالات، صادرة ممن هو خالق كل شيء وهو بكل شيء عليم.

يحتم ذلك أن تكون الجهود التي تنصب على اكتشاف أسرار هذه النصوص من السعة والشمول والأولوية، بحيث لا تشكل الجهود التي تبذل في ميادين الإكتشاف والإختراع، إلا نقطة في بحرها المتلاطم.

لو أن عالماً تذعن البشرية بعلمه وثاقب بصيرته وتميز نظرياته وطروحاته، ترك من النصوص كماً متميزاً، لكان من الطبيعي أن تشكل لجان مختصة لمقاربة نصه.

فكيف وماهو أمامنا"النص المعصوم"!

ولو أن مقنناً وضعياً اطلع مثلاً على وسائط النقل التي ستوضع في التداول لراعى في وضع القانون المستجد الذي سيواجهه الناس جراء استعمالها لاحقاً، ولوجدنا في عباراته ما كنا نظنه رموزاً مبهمة، وما هو إلا إشارات استدعاها علمه بما سيكون.

ألا يبدأ فصل الدين عن الحياة من هذه النقطة بالذات، أنه تراث، أو الإعراض عن التقاط المفصل البالغ الحساسية في كونه هدى للناس وتبياناً لكل شيء، لا يمكن إلا أن يقع من حركة الحياة في صلب المتن، وهو ما يفترض أن يكون حضوره متميزاً في شتى المجالات بحسب تصنيفه لها ولأولوياتها، وليس بحسب تصنيفنا نحن.

ولا يعني ذلك إطلاقاً تجاوز مبدأين:

الأول: أن النص الديني معني أولاً وأخيرأ بحقيقة الوجود وبالقيم، وليس البحث فيه عن ميدان العلوم التجريبية إلا بلحاظ ما يتداخل من ذلك مع مهمته كما تقدم.

الثاني: أن نتائج العلوم التجريبية تلتقي معه عندما تكون سليمة، وتفترق عنه إذا جانبها الصواب، فهي لا تصلح مفسراً له، بل ينبغي أن تعرض نتائجها عليه ليقول فيها كلمته، إلا أنها قد تساعد على فهم بعض إشاراته وتمكن من قراءة لغته في مجالها التخصصي، ولا يصح الجزم أبداً بأن أياً منها هو غاية ما يرمي إليه فما تزال التجربة البشرية في أكثر المجالات في بداية الشوط الذي يتحدث هو{ النص} بما يتناسب مع كل مراحله وهذا يعني أن يتحدث بما يتناسب مع آخره الذي هو أرقى ما يمكن أن تبلغه البشرية.

وسيأتي مزيد توضيح.

                                                            اليقين الثقـافي

ليس الإستقلال الثقافي متاحاً بيسر، فلا أقل من اليقين الثقافي.

وهو إذ يعني استبدال حالة "الإستهلاك الثقافي" السائدة، بالجمع مرحلياً بين الإنتاج والإستهلاك بقدر الضرورة، يعني بصورة أدق، اليقين بالقدرة على التوصل إلى الإكتفاء الذاتي الثقافي، فهو وحده الطريق إلى حصر الإستهلاك بدائرة الضرورة.

إن نظرة متأنية في حركة الفكر والثقافة العالميين، تثبت التجانس الهائل بين آلية عمل منظمة التجارة العالمية في البعد الإقتصادي، وبين شبهها في البعد الثقافي، بل تكشف أن حركة الفكر والثقافة لاتعدو كونها حركة إحدى دوائر منظمة التجارة.

تطرح في سوق التداول"الفكري" "أطروحة" هي مثلاً "صراع الحضارات" أو" نهاية التاريخ " أو " العولمة " فإذا بالمثقفين في أربع رياح الأرض مندفعون بروح "الحداثة" العمياء للعزف بنفس الأوتار، والطرب على نفس الإيقاع.

أفلا نربأ بالفكر عن هذه الببغاوية الراطنة، لنقارب ما ينبغي من المستجدات الثقافية بلغة التوازن لا انعدام الوزن.

ولا تنحصر الدعوة إلى اليقين الثقافي بشعب أو أمة بل هي لكل الناس كما هو النص المعصوم لهم جميعاً.

من وتد في أرض الحقيقة قدمه العلمية، أمكنه أن يخرج من دوامة الإستهلاك السلعي المسمى فكراً وثقافة، ليفكر بعقله بدلاً من "التفكير"بغرائزه.

وحجر الزاوية في ذلك والمنطلق، هو القرار الواعي بالموضوعية والواقعية والعقلانية كما هي بعيداً عن كل تهويمات "حضارة الغرائز" وتمويهاتها ومساحيقها وألاعيبها وأقنعتها التنكرية.

والقمة المُطَّلَع التي يستقر في متنها أساس هذا البناء وحجر زاويته، هو النص المعصوم، مشكاة الحقيقة، ومصباح الهدى، والتبيان لكل شيء.

ولئن كان من نأى بنفسه عن هذا النص الفريد، مدعواً إلى الإقتراب مما هو له محب وإن أعرض عنه، فإن من يعتبر نفسه مؤمناً به مدعو إلى الإنسجام مع إيمانه أكثر وترجمة مقتضيات هذا الإيمان إلى عمل.

وكل عمل هباء مادام يشي باهتزاز اليقين الثقافي، فضلاً عن أن يوحي به أو يصرح.

لايقين بالنص المعصوم، ما دمنا نبحث عن الحداثة خارجه.

ولايقين به ما دمنا نسمح لكل دورة زمنية أن تسقط ركناً منه بادعاء الظرفية فيه والحداثة فينا، حتى لايبقى من الدين إلا رسمه ومن الإسلام إلا اسمه.

ولايقين ما دمنا نريد له أن ينسجم مع روح العصر، إلا إذا قصدنا "حسن العرض" فنطالَب على أساسه بأن نحسن العرض باختيار تعبير آخر.

اليقين الثقافي هوأن نصدر من رؤية فكرية ثابتة مرنة تريد للعصر المقطعي المتحول كلياً أن ينسجم مع ثقافتها وتقدم على ذلك الدليل.

أما أن نبني قاعدتنا الفكرية على هبوب رياح المتحول بتوهم أن التطور يستدعيه والواقعية تحتمه، فهو يعني أننا نتعاطى الفكرالموسمي والثقافة الإستهلاكية.

وهاهوالفكر بكل تجلياته المدعى منها والحقيقي، فهل يشذ شيء من الفكر ِالفكر فيه، عن لحمة النص المعصوم، أم أنه يرجع إليه ويتخذ موقعه في مداره، بدءَ من المنهج وصولاً إلى أصغر تطبيق عملي له حتى في الميدان التجريبي.

مثل هذا اليقين المعزز بالشواهد والأدلة – والتي قد يدعيها من لايملكها، فلا ادعاء- هو الذي تمس الحاجة إليه.

إن حاجة البشرية الدائمة والمتجددة إلى من يأوي إلى ركن فكري شديد، حاجة حياتية، تتفرع عليها كل حوائجها الأخرى، بما فيها العدالة الإجتماعية التي لاسبيل إليها بمعزل عن الرؤية الفكرية السليمة.

ولايمكن أن يعرف تاريخُ البشرية كالمعصوم الذي يشكل نصه وسيلة التواصل معه للوصول إلى كنوز الحقائق التي استطاع الإحاطة بها وحرص على أن يضعها في متناول كل الناس.

مع كل هذه الفرادة والعظمة العلمية نتعاطى في أكثر حالاتنا، وملء إهابنا التعالي على النص ل"نطل"عليه من موقع الحداثة، فنحكم على مايصلح منه لمواكبة العصر ومالايصلح!! ونظهِّر منه ما قررنا السماح له بالتنفس، ونئد في المهد ما لايرضاه عقل الغرائز المشبوبة، المتحكم بحركة الثقافة العالمية، ونُحيِّد منه ماهو بين بين.

يستدعي اليقين الثقافي أن ندرك أن كبار العلماء المختصين في مختلف ميادين النص المعصوم لم يتعاملوا معه إلا كما يتعامل التلميذ الصغيرمع من تخرج كل أساتذته هو على يدي تلامذة تلامذته.

وذلك أيضاً أبسط مقتضيات أنه من لدن عليم حكيم.

وأبسط مقتضيات "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا".

إن من أوتي قليلاً من العلم عندما يقف على عتبة العلم كله، لابد وأن يستشعر اليقين الثقافي بهذا العلم، وسيفتح له هذا اليقين الطريق إلى كل سبل التعلم المتاحة.

أما أن يقتحم صدر مجلسه ممتحناً متعالياً، ملوحاً له بلعبة "ألكترونية" يرى فيها قمة العلم وذروة التطور وغاية الحداثة الفعلية ومؤشر الآتي منها، فإنه لا يعدو كونه جاهلاً لم ينفعه قليل العلم الذي أوتيه في اكتشاف الطريق إلى التنمية العلمية.

هل النص المعصوم أكبر منا جميعاً ومن البشرية كلها و كل عصورها؟

وهل الوصول إلى الحقائق رهن الإصغاء إليه والتتلمذ عليه إذا أمكن؟

وهل تتضاءل كل حداثة أمام خلوده؟

وهل الفرق بينه وبين كل نص كالفرق بين الخالق والمخلوق.

وهل الشرط الوحيد للتعامل معه كذلك هو ثبوته وعدم قيام الدليل القطعي على ظرفيته؟

الإجابة بالإيجاب على ما تقدم، هي التي تمكن من بلوغ الرشد في "اليقين الثقافي".

ويبقى هذا البلوغ غضاَ طرياَ يتدرج في مراتب الكمال والنضج المعرفي والتجربة، بتفاوت شديد جداً، كما تحدثنا تجارب تخشع في محرابها الأجيال، يأتي بعضها.

ومن موقع "اليقين الثقافي" يمكننا أن نرصد بجلاء كل المحاولات الهجينة في المنهج، وطريقة التفكير، ومصب الإهتمام، وتسخير الثقافة لخدمة البلاط، والإرتزاق عموماً، والفرق بين ثقافة العقل و"ثقافة" الغريزة، وتسخير الثقافة لخدمة الأنا بدلاً من أن تكون وسيلة تهذيب لها، واختصار العلم في "شهادة" وتحويله إلى سلعة، وكل مظاهر الإستلاب الثقافي التي تتبدى فيه عقدة النقص والدونية أمام الرطانة بالأجنبي، بدءً من الفرد وصولاً إلى المؤسسات الثقافية والتعليمية التي تتخلى عن كل شيء في مقابل المكننة، وتحديث الظاهر، وإتقان "النخبوية" التي تفصل الطالب عن محيطه، وتزرع بينهما الشقاق، مؤسِّسة للمشروع الثقافي الآخر وموفرة عليه من خلال الوقوع في أسر منهجيته أن يخطط ويزرع، فالحصاد ببركتها في متناوله.

                                                         ضيَّعـه قـومـه

تتماهى في تكوين غربة "النص المعصوم" بيننا أربعة أطياف:

1- غربة ما يحمله من رؤية توحيدية في فلسفة الوجود.
2- وغربة ما يتضمنه من معرفة النفس البشرية، وقوانين علاقتها بالله تعالى وكل علائقها الإجتماعية.
3- وغربة مايحفل به من أسرار علوم الطبيعة المادية وبصورة خاصة في مجال علوم الأحياء.
4- وغربة ما يزخربه من رموز وإشارات في مجال التقدم التقني.

وما ضر نور الشمس أن لايراه الأعمى، فهو الذي يلفه الظلام، ليتردى في مهاوي الحفر.

أفضل ما يمكن أن توصف به غربة النص بيننا ما وصف به المعصوم غربة نبي فقال "نبي ضيعه قومه". (2)

وهي أبلغ من وصف"عالم بين جهال".(3)

ولايحمل هذا الوصف ممن يطلقه تبرئة ولا ادعاء، فقد يكون أول المضيِّعين وأسوأ الجهال.

كمالايعني توجيه التهمة الخاصة، بل هي محاولة توصيف شديدة الشمول، تأمل أن تلامس بعض أحاسيس العلماء الكبار الذين أفنوا أعمارهم في العكوف على النص المعصوم وقدموا من سنا نوره ما يضيء الدنيا والآخرة، فكان عاقبة أمرهم أن تلاطمت أمواج التضييع والجهل فحالت بين الناس وبينهم.
مأساة النص الديني أنه عالم بين جهال، نبي ضيعه قومه ،حدَّثَنا بما فهمنا بعضه واستغلق علينا أكثره، ولم يكن له خيار غير ما فعله فطبيعة الحقيقة الرفيعة تستدعي مخاطبة الجاهل لترفعه إليها باختياره، فلا هي تستطيع أن ترفعه قسراً { أفنلزمكموها وأنتم لها كارهون} ولاهي تستطيع تغيير هويتها لتصبح في متناول اعوجاج فهمه.

كل ما يمكنها فعله أن تختار أفضل الأساليب، عل وعسى.

ماذا يمكن للعالم بل للنبي أن يفعله إذا حدث بأوضح الحقائق فرمي بالتخلف {أساطير الأولين} غير أن يحسن اختيار المزيد من الأدلة ويحسن اختيار أفضل الظروف لتقديمها آملاً أن يهتدي الضال ويقر المكابر، على قاعدة{ فانتظروا إنا معكم منتظرون}.

وقد يستدعي الأمر لانكشاف بعض الحقائق دورة قرون بتمامها وكمالها، المهم أن الحقيقة في متناول البشرية ولا يستطيع أحد أن يرميها بعدم إقامة الحجة {لئلا يكون للناس على الله حجة}.

كانت مسألة البعث بعد الموت وما تزال حجر الزاوية في بناء النص الديني التي حشد لها من الأدلة ما يكفي اليسير منها لإثباتها، ومع ذلك فقد بقيت هذه الحقيقة الصراح مثار التندر والإستهزاء ومسوِّغاً لازدراء من يعتقد بها!

والغريب أن الأمر ما يزال كذلك في عصر يشهد الإستنساخ البشري فيه نقلات ملفتة، ألا يدل ذلك على مأساتنا في فهم النص الديني التي هي مأساته.
أن يبعث الإنسان إنسان من جينة أمر شديد الفرادة والرقي، و هو بعد ُقمة الحضارة والتطور، أما أن يبعث خالق الإنسان الإنسان بعد موته {وهو أهون عليه } فهوأمر ممعن في الرجعية!

أيُّ تهافت وتخلف هذا " المنطق المتحضر"؟!

مادام بالإمكان أن يضيع النبي، فتضييع نصه فرع ذلك.

ومادام بالإمكان أن يهجر القرآن فتعطيل المسجد وهجر العالم نتيجتان.

وأمضُّ ألوان الهجر التضييع الناشيء من الجهل، لأنه يقترن بالتعالي والإستخفاف.

وتلك هي مأساة النص المعصوم معنا، بل هي في الحقيقة مأساتنا في عدم شكر النعمة التي تجلت بهذا النص.

يتضح المراد ويبتعد عن العموميات إذا لاحظنا أمرين:

1-أن جهود جميع المعصومين ومن جاهد في خطهم لكشف الحقيقة، قد وضعت بين أيدينا في النص المعصوم.

2- أن موقعنا بين الأمم - إن كان- في أقصى الهامش، ونحن ماضون قدماً في التبعية التي لاتحظى بالقبول، وفي الإرتهان بلا مقابل.

فهل نقرر أن نضع حداً لغربتنا عن النص وغربته بيننا.

وهل ندرك أن نمط التعامل معه والتلقي منه يغير وجه الدنيا بلا استعمار، بل بالحكمة والعقل والدليل والبرهان.

وهل نقدر حق التقدير دلالات أن أرقى ما توصلت إليه البشرية في ميادين الفكر والثقافة، يعتبر من أوليات النص المعصوم وبديهياته، وأن في هذا النص إشارات واضحة جداًً في المجال التقني الذي ليس مصب اهتمامه بالدرجة الأولى.

أما الغربة الأولى فالحديث عنها ملء أسفار العلماء، التي تكفلت بشرح الرؤية التوحيدية للكون والوجود، وهي التي تتفرع عليها كل غربة، فهي بيت القصيد.

إنها الواقع الذي تختل كل رؤية عندما يتم الإبتعاد عنه ولو يسيراً، فكيف إذا شرَّق الإبتعاد وغرَّب؟!

وما يكتنزه النص المعصوم في هذاالمجال أكبرمن أن تناله العقول من طريق آخر ولو كان الخلود هو المدى في محاولة ذلك .

يقول الإمام الخميني:

"إذا جال شخص في الإتجاهات الفلسفية قبل الإسلام وبعده، خصوصاً في القرون الأخيرة، وقارن بين عرفاء ماقبل الإسلام (الذين كانوا في الهند وغيرها ممن تعاطوا مثل هذه المسائل) وعرفاء ما بعد الإسلام، الذين دخلواهذا المجال بتعليم الإسلام، يدرك أي تحول تحقق في هذا البعد، رغم أن عرفاء الإسلام الكبار أيضاً كانوا في كشف حقائق القرآن، راجلين". (4)

وقد أحكمنا طوق هذه الغربة حين قررنا أن نخرج الفلسفة مطلقاً من دائرة الإهتمام، وأن العرفان بالمطلق تصوف وشطحات، دون أن نكلف أنفسنا عناء "البحث العلمي".

وأما الغربة الثانية فيتسع الحديث حولها للمقارنة بين أدب العلاقة بالله تعالى في جميع الأديان مقارناً بما في النص المعصوم، كما يتسع للمقارنة بين كل القوانين الوضعية وقوانين الإسلام، ليتضح أن الفارق في حديث النص في هذا المجال - كما في سابقه - يختلف عن غيره كما يختلف حديث المبتكر المخترع المُصَنِّع عن حديث المستهلك الأمي أو المتطفل.

ولم ننجح في عرض كنوز أبحاث العلماء لتأخذ موقعها القانوني المتقدم.

وأما الغربة الثالثة والرابعة فقد بلغ طوقهما حداً أصبح معه أصل الحديث عنها مثاراً للإستغراب، لذلك لابد من توضيحين:

الأول: الوقوف عند الرأي الذي يتبنى كون القرآن "تبياناً لكل شيء" فلا يوصد الباب على إمكانية اختزان النص المعصوم لكل العلوم، كما يصرح البعض، أو يؤكد فتح الباب على مصراعيه كما يصرح آخرون، فرب معادلة لعالم في الرياضيات يتم تقديمها بعبارات محدودة، أو برموز مهملة، تشكل ثورة في عالم الطب أو الفيزياء أوالتكنولوجيا، وعليه فلماذا لاتكون دلالة الظاهر الصريح بأن القرآن تبيان لكل شيء، على إطلاقها وهل يصلح الإستغراب قيداً "لبياً" لها؟

ولدى ملاحظة الروايات التي تؤكد ذلك يتضح أن هذا الرأي – وليس مجرد الميل- من القوة بحيث لايقوى الرأي الآخر أن يصمد أمامه، فهو- هذا الرأي- يستند إلى الظاهر، ويكشف تناقض الظواهريين الذين يؤكدون كما مر التزامهم بدلالة اللفظ، بالإضافة إلى تأييد حشد كبير من الروايات بطرق المسلمين جميعاً لمضمونه. (5)

الثاني: ومن لايوافق على ماتقدم فلا يمكنه أن ينكر أن النص المعصوم يزخر بالإشارات إلى خصائص الطبيعة وعلوم الأحياء، والإكتشافات في عالم التقنية.

والسبب في ذلك أمران:

الأول: أن الله عز وجل عندما يتحدث عما خلقه وعما يحدث في السماوات والأرض من سعة، وحركة الشمس ودورها ودور القمر والكواكب عموماً، والرعد والبرق والسحاب والمطر والنبات والحيوان والجماد وتسخير ذلك كله للإنسان، فمن الطبيعي أن يكون في كلامه من الأسرار العلمية، ما لايوجد في مكان آخر، مما يجعله - بأولوية مطلقة- مصب اهتمام الباحث الموضوعي.

الثاني: أن عالمية الإسلام وخاتميته تقتضيان أن يتم الحديث عن الشؤون المختلفة بحيث تراعى المستجدات كلها، وعليه فمن الطبيعي للغاية أن نجد في النص المعصوم بعد آلاف السنين ما هو شديد الوضوح في دلالته على آخر ما توصلت إليه البشرية حتى في "أبعد الميادين عن اختصاصه" كالمجال التقني.

ونخطيء حين نتكلف ذلك بلا دليل عرفي وعلمي قاطع، كما نخطيء حين نعتبره أصلاً يسبغ على النص "حداثة" ألفنا تردادها.

ونذهب في الخطأ عريضاً حين نحاول الإستدلال على"الدين" بالنظريات العلمية والإحتمالات والفرضيات.

يحالفنا الصواب فقط عندما نعتبر ما اتضح من ذلك بلا أدنى تكلف مؤشراً على ضرورة أن يوضع النص في موقعه الطبيعي مَنْجَماً لكل حقول المعرفة، يختزن كل ما يمكن للبشرية بلوغه ببيان المعصوم أو على يديه ويختزن كذلك ما لاسبيل لها إليه.

أما أن هذا الإختزان على نحو التفصيل مطلقاً في كل الميادين، أم أنه تفصيل في ميدان اختصاصه، وإشارات في غيره، فقد عرفت تعدد الرأي فيه، وأن الراجح هو الأول.

ولابد هنا من ملاحظة مدى صعوبة إثبات أن مشروع المستقبل كله بما يشمل الآخرة لاعلاقة له بالتقدم العلمي في كل الميادين.

إن ذلك ينسجم مع غربة النص وكونه تراثاً.

على هذا الأساس تتبدل الصعوبة إلى إثبات ما أنا بصدده.

يتضح أن الإنسجام مع الثوابت لايمكنه أن يتحقق إلا بقراءة جديدة للنص مغايرة تماماً للسائد، تذعن بفرادته ومرجعيته وكفاءته واكتماله لفظاً ومعنى، فلا وجه للحديث عن" اكتمال الدين"من دون ذلك.

إن النص المعصوم هو " التصميم الهندسي الإلهي" للنفس- الفرد والجماعة - على شديد تفاعل الأولى مع الوقائع والتطورات وعظيم تشعب الثانية وما ينتج عنها في رحلة البشرية على ظهر هذا الكوكب، وفي حين لا نحترم تصميم منزل- فضلاً عن مدينة - لايراعي المستجدات، فكيف يخطر بالبال ما يتنافى مع أقوى درجات حضور جميع المستجدات عبر القرون الآتية في نص مصدره من" يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".

في عصرٍ يتحدث عن إنجازاكتشاف الخارطة الجينية، والعجز عن فك رموزها، ينبغي أن لايكون مفهوماً غير البحث عن الخارطة "الجينية" الأهم للنفس والجماعة والطبيعة والوجود، داخل نص المبدع والصانع، وليس فقط في تقلب حالات المنتَج أو افتراضات المستهلِك.

على أن ما ينبغي أن يؤكد عليه بامتياز في هذا المجال هو أن البشرية شاءت أم أبت فإنها ماضية قدماً نحو التلاقي مع غدها الذي يتحدث عنه النص المعصوم، ولايقع شيء من تجليات الحقيقة التي يتوصل إليها الإنسان عبر القرون إلا في دائرة هذا التلاقي.

شأن البشرية في ذلك شأن الفرد، كلما أمعن في الإنحراف وتقدم به السن ونضجت التجربة واكتمل العقل، أصبحت عودته إلى الحقيقة أقرب زمناً وأسهل منالاً.

ولابد لمن طالت غربته أن يفكر يوماً بالعودة إلى الوطن، وستظهر إرهاصاتها بالحديث عن العودة أو عما يؤول إليه ولايفسر إلا به.

وانطلاقاً من ذلك أقف على عتبة الغربة الثانية والرابعة، بشيء من التفصيل .

عند الثانية، تهدف الوقفة إلى استيضاح أن آخر ما توصلت إليه البشرية في مجال الفكر، بقطع النظر عن مدى المصداقية في التزامه، قد تحدث النص المعصوم عنه، أو عما هو أرقى منه مؤكداً أنه واقع لا محالة.

يتميز عصرنا الحاضر- رغم السلبيات - بالحديث عن خصائص بالغة الأهمية، لم يشهد تاريخ البشرية تداولاً لها وتظهيرًا على نطاق واسع و بهذا المستوى، من هذه الخصائص:

1- قيمة المعرفة
2- حقوق الإنسان
3- الحريات
4- القانون
5- وأخيراً: العولمة
.

وما أرمي إليه بالتحديد هو وفرة طرح هذه القيم أفقياً، وتنامي التعلق بها والتوق إليها في أرجاء المعمورة.

يتضح إذًا أني أستثني صوابية المنطلقات الفكرية التي تصدر منها هذه الطروحات، كما أستثني صوابية المقاربة، فضلاً عن الرائج بقوة من اتخاذ هذه الطروحات ستارًا لنوع آخر من الهيمنة والإستعمار أكثر دموية، وأشد افتراساً، كما يجري الآن بعد أحداث الحادي عشر من أيلول.

ولدى التأمل العلمي المتأني في هذه العناوين، ودراستها بموضوعية، نجد أنها محاور أساسية في النص المعصوم، يعمل على تجذيرها منذ أول نبي وإلى يومنا هذا، وهي تشكل العمود الفقري لمشروعه المستقبلي في إقامة الحكومة العالمية الواحدة والعادلة.

لنتأمل النصوص التالية:

1- حول اكتما ل دورة المعرفة البشرية ، وبلوغها الذروة، يقول الإمام الصادق عليه السلام:

أ- العلم سبعة وعشرون جزءً، وجميع ما جاءت به الرسل جزءان، فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الجزءين، فإذا قام القائم أخرج الخمسة والعشرين جزءً (6) فبثها في الناس وضم إليها الجزءين حتى يبثها سبعة و عشرين جزءً.
ب- إذا قام قائمنا وضع الله يده على رؤوس العباد فجمع بها عقولهم وكملت به أحلامهم.
(7)
أما "قيمة المعرفة" فإن حضورها في النص المعصوم في مراحل ماقبل الخلق والهدف منه، ومابعده، وعلى يد كل معصوم، بمالايدع مجالاً للشك في أن البشرية لم تعرف المعرفة ولا قيمتها إلا بتعليم المعصومين.

2- وحول حقوق الإنسان و مطلق الحقوق، التي هي المحور في النص الديني وفي حركة دولته العالمية، على يد المهدي المنتظر عليه السلام، هذه بعض الإشارات السريعة.

أ- يقفو أثر رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم. يحمل الكل "على الحق" ويقوي الضعيف في الحق. .(8)
ب- ورد في وصف الإمام المهدي :يدعو إلى الحق.
(9) إمام الحق(10) . قائم الحق(11) وقد وصفت دولته بدولة الحق .(12)
ج- ورد في زيارته عليه السلام: أللهم أحي بوليك القرآن، وأرنا نوره سرمداً لا ليل فيه، وأحي به القلوب الميتة، واشف به الصدور الوغرة، واجمع به الأهواء المختلفة على الحق، وأقم به الحدود المعطلة، والأحكام المهملة، حتى لايبقى حق إلا ظهر ولا عدل إلا زهر.
(13)
د- يقول الإمام العسكري مخاطباً المهدي عليهما السلام: تهتز بك أطراف الدنيا بهجة، وتنشر عليك أغصان العز نضرة، وتستقر بواني الحق في قرارها، وتؤوب شوارد الدين إلى أوكارها.
(14)

3- وحول العدالة والحريات، وهما صلب حقوق الإنسان، يكفي ما اشتهر حد التواتر والقطع: يملأ الأرض قسطاً و عدلاً، بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وقد ورد في بعض المصادر بصيغة " يملأ الدنيا ".

وثمة وفرة نصوص في هذا المجال المركزي، منها:

أ - ويساوي بين الناس حتى لاترى محتاجاً.(15)
ب - " نادى مناد من السماء: ألا أيها الناس إن الله قطع عنكم مدة الجبارين والمنافقين وأشياعهم.
(16)
ج - "ووَضع ميزان العدل فلا يظلم أحد أحداً
(17)

قسم بالسوية وعدل في الرعية. (18)

4 - وحول القانون: "يستخرج التوراة وسائر كتب الله عز وجل (الأصلية) من غارٍ بأنطاكية، ويحكم بين أهل التوراة بالتوراة وبين أهل الإنجيل بالإنجيل وبين أهل الزبور بالزبور وبين أهل القرآن بالقرآن.(19)

وليلاحظ أن هذا لا ينافي ما ورد من أن الدستور آنذاك هو القرآن الكريم، فالكتب السماوية من مشكاة واحدة ولا تباين بينها والسابق يشير إلى اللاحق الذي يتكامل معه ولا يناقضه، وعليه فالمراد أن جميع أتباع الكتب السماوية يلتزمون بمقتضى كتبهم بالعمل بالقرآن الكريم.

وموقع القانون في النص المعصوم موقع"حدود الله تعالى" وهي المحور منذ بداية الحياة، وقد تقدم توضيح ذلك في أحاديث العصمة في الفصل الثاني، وماهو الهدف هنا توكيد أن المستقبل سيشهد تحقق سلطة القانون العادل.

5- وحول العولمة الحقيقية لا هذه المدعاة:

أ-" يوم الفتح يوم يفتح الله الدنيا على القائم.(20)
ب- ".. يملك الدنيا شرقاً وغرباً. .
(21)
ج - إذا تناهت الأمور إلى صاحب هذا الأمر رفع الله تبارك وتعالى له كل منخفض من الأرض، وخفض له كل مرتفع منها حتى تكون الدنيا عنده بمنزلة راحته، فأيكم لو كانت في راحته شعرةٌ لم يبصرها.
(22)

من وجهة نظر الإسلام تشكل العولمة مستقبل البشرية الواعد حيث تكتمل دورة المعرفة وتتجلى في أبهى صورها، ويعم العدل وترفرف راية الحرية على ربوع الكرة الأرضية كلها، في ظل القانون الواحد، ليصبح الحديث عن القرية الكونية الواحدة أمرا واقعاً متجسداً، ينبع من مفهوم الأسرة الكونية الواحدة {خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} ولذلك فهو حديث ينبض بكل أحاسيس الحب الإنسانية الصادقة، وينأى عن ظلامية الأنانية والهيمنة والإستعلاء، ويربأ بنفسه عنها وعن ذهنية الربحية والجدوى الإقتصادية، وعن كل ما لا ينبغي للأسرة في علائقها ومعاملاتها، وهولا ينافي أن يحفظ لكل ذي حق مادي حقه، إلا أن حفظ الحقوق المعنوية هو الأصل.

أما آن لنا أن نكتشف البعد العالمي في الأديان السماوية بصيغتها الأصيلة، التي لا يخلو حتى المحرف منها من حضوره المميز حتى الهيمنة على ما عداه.

ولا يكاد ينقضي العجب ممن يرى في النص المعصوم، هذا الموقع المتميز للحج ولأحكامه، ثم يفصل بين ذلك وبين أن النص المعصوم يقدم للبشرية فكرة "الأسرة الواحدة" التي تبدو العولمة أزاءها طرحاً متخلفاً.

مامعنى أن تكون الدعوة التي يجسدها الإسلام لاتقف عند أي حد، وأن يكون كل فرد مدعواً إلى المشاركة في تجمع عالمي، ولو مرة في العمر، ليدخل "أول بيت"  بل"البيت"  فيشعر أنه في بلده ويتم صلاته التي لاتؤدى تامة إلا في الوطن.(23)

يمثل الحج في بعض أبعاده التكريس العملي لفكرة الأسرة العالمية الواحدة، والتدريب الدائم عليها، لتظهر آثار ذلك حيث يمكن، وخاصة في زمن قيام الدولة العالمية الواحدة، التي تنطلق أولى خطواتها من "البيت الحرام" الذي هو"للناس" جعله الله "مثابة وأمنا" حيث يلتقي - أو ينبغي- جميع أبناء الأبوين آدم وحواء.

أما آن لنا أن نكتشف عالمية الإسلام من خلال الحج مثلاً، الذي ترقى فكرته إلى حد الإعجاز.

وما أكثر الحقائق الإسلامية التي تجسد هذا البعد، الذي يحمل في طياته دلالات تطور المعرفة البشرية ورقيها وصولاً إلى حيث تصبح العناوين المشار إليها أعلاه مداميك الكرة الأرضية والرواسي .

من هنا فإن تصاعد الحديث عن هذه العناوين الخمسة، وتعلق النفوس بها، وتجذر التوق والشوق إليها- بالرغم من السلبيات - ليس إلا إرهاصات لما سيتحقق في نطاق مشروع المستقبل (الإسلام).

وفي هذا السياق يتضح أن الهدف من الوقفة على عتبة الغربة الرابعة هو الإطلالة على بعض الإشارات في النص المعصوم إلى العلامات الفارقة في ميادين التقدم التكنولوجي وإلى عصب العولمة، أعني هذه الثورة الهائلة في عالم المعلوماتية، بل إلى عصب المعلوماتية الذي هو "ضغط المعلومات".

وفي هذا المجال ملاحظات:

1- بم يمكن تفسير الحديث المتقدم " البند ج حول العولمة " وقد ورد فيه: " حتى تكون الدنيا عنده بمنزلة راحته"؟

لاوجه لحصر تفسير ذلك بالعامل الغيبي، كما هو واضح، خصوصاً إذا لاحظنا روايات " يتحدث من في المشرق فيسمعه من في المغرب" وروايات "عمود من نور" يرى به الإمام مأراد أن يطلع عليه مما بعد عنه، وغير ذلك كثير.

2- بل بم يمكن تفسير حديث البراق الذي تشير تفاصيله إلى أن الحديث إنما هو عما تشبهه سفينة فضائية غاية في الدقة والتطور، وهو يعني أن "الزمام" الوارد في حديث البراق، يتسع للدلالة على كل "مايمكِّن من التحكم بالحركة" ليشمل ما تشير إليه - بتواضع- "المفاتيح الألكترونية"

3- وبم يمكن تفسير الحديث في رحلة الإسراء والمعراج عن لوح من نور ينظر فيه ملك الموت فإذا الدنيا بين يديه بما سخره له الله تعالى { كالدرهم في يد أحدكم يقلبه }!

4- ولو لم يكن من الإشارات إلا ما ورد من الحديث عن اختزان المعلومات في الحجر الأسود الذي أودع الله فيه مواثيق العباد، لكفى.

أولا يمكن أن يكون الحديث عن أن الله تعالى "أودع مواثيق العباد في الحجر الأسود" بحيث يشمل "تخزين المعلومات" الذي هو معنى عرفي للإيداع، بعد التنبه لهذه الخصوصيات، والتنبه إلى أن النص المعصوم قد تحدث عما لا يمكن تفسيره إلا في ضوء حديث اليوم عن "ضغط المعلومات" كما نجد في الحديث التالي:

"عن أمير المؤمنين عليه السلام : إن الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام فلما ركب الأرواح في أبدانها كتب بين أعينهم مؤمن أو كافر، وما هم به مبتلون، و ما هم عليه من سيئ أعمالهم وحسنها في قدر أذن الفأرة، ثم أنزل بذلك قرآنا على نبيه فقال : " إن في ذلك لآيات للمتوسمين " وكان رسول صلى عليه وآله هو المتوسم، وأنا بعده، والائمة من ذريتي هم المتوسمون".(24)

ولايعني ذلك إطلاقاً أن نحجم دلالة النص المعصوم بحدود ما توصل إليه العلم الحديث، فالآتي أعظم، بل المراد الإستئناس به حيث يمكن، مع اليقين بأن المعاني التي يحملها النص أوسع مدى ودلالة من كل ما أمكن للإنسان حتى اليوم أن يعرفه.

إن ذلك أيضاً أبسط مقتضيات الإيمان بأنه من لدن "عليم حكيم".

وهو بعد الطريق الوحيد إلى التعامل مع النص بما ينسجم مع "الإستقلال الثقافي" و"اليقين الثقافي" وأنه"مشروع الإستقبال، والخلود".

ولابد من التأكيد مجدداً على أن ما تقدم ليس إلا إطلالة على إشارات النص المعصوم قبل قرون إلى الذرى المعلوماتية التي سيبلغها مستقبل البشرية، وليس الهدف تكلف ادعاء أن المسلمين هم الذين قادوا هذه الثورة، وإن كانت إسهاماتهم في مداميكها فوق الإنكار، بل الهدف نفي التعارض بين الإسلام وآخر ألوان التقدم، وصولاً إلى توكيد أن انفتاح البشرية على الإسلام رهن تقدمها في مجالات المعرفة المتنوعة، ومنها المعلوماتية، حيث ستكتشف أن الإسلام سباق دائما إلى الحديث عما بلغته، أو الإشارة إليه.

ومن لم يتنبه منا إلى ذلك، فتموضع في نقطة ظنها استراتيجية تخوله أن ينعت كل ما لا ينسجم مع وهم العقل الذي هو مزاجه وخليط قراءات مبتورة وتفكير ضحل، بالتخلف والرجعية، أو أمعن في حشر النص في زوايا الظرفية ليقترب بذلك ممن ينكرون قيمة النص أصلاً، فتلك مأساته التي يمكن أن يحاسب عليها قبله بعض المتصدين لتفسير النص الديني، فإذا بهم يجعلونه أكثر إبهاماً، وأشد استغلاقاً، الأمر الذي ينجح فقط في تكثير الأعداء واستنفارهم لوصمه بأسوأ الأوصاف.

لاتخرج الفكرة الشديدة الغرابة عن أحد احتمالين:

إما أن تكون خاطئة، أو تكون من الصحة والأهمية على درجة عالية تفوق كل ما ألفناه، يتطلب التعامل معها الخروج من أسر العادة وإعطاءها حقها من البحث العلمي بعيداً عن كل مظاهر التشنج الجاهل والمسبقات التي تعجز عن الوصول إلى سفحها.

أوليس الكثير من الإبتكارات أو النظريات العلمية التي غيرت وجه الأرض من هذا النوع،

فلماذا نوصد هذا الباب العلمي في البحث عندما نتعامل مع ما يحمله النص الديني من طروحات، ونحن ندرك أننا - على الأقل- أمام "ادعاء" يتصف بأعلى درجات الإحتمالين السابقين.

ولاتتوجس الحقيقة من وجهة نظر الإسلام من طبيعة من يسلط الضوء عليها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، فالحقيقة الدينية عالمية، مشاع لبني آدم جميعاً، ليست معقدة من أحد منهم ،فقد تثريها تجارب بعض من يحاربها، وتشوهها محاولات بعض من يتقمص الذودعن حياضها، والعبرة بالنتائج، وهي أكبر من أن تقاس بالعقود بل بالقرون من الزمن.

من هنا يجب التوكيد على أن كل تقدم علمي تقني أو غيره مرشح لأخذ موقعه في بلورة الحقيقة الدينية، وفتح المدارك البشرية على آفاقها.

ويتوقف ذلك على مدى قدرة اكتشافنا لموقعه المناسب، وهو بدوره يتوقف على التوازن الذي يتمثل بالتعامل مع النص باعتبار أنه مخزن أسرار الحقيقة، والتعامل مع الجديد العلمي بما يناسبه من موقع في سياق تفاصيل بعض هذه الحقيقة، دون انبهار به يخرج عن الطور، ولا انغلاق دونه يفقد الموضوعية.

لايتحقق الخروج من غربتنا عن النص التي هي غربته بيننا، إلا إذا أصبحنا نتعاطى معه بيقين مطلق، بأنه أكبر من كل الأزمنة، وفوق كل ما توصلت البشرية إليه من أطياف الحقيقة، وأكبر من كل "حداثة" فهو مشروع الخلود، وما دورة الدنيا في مداه إلا سواد ليلة سرعان ما تلملم ظلمتها الداكنة أذيالها عندما يتنفس الصبح.

أليس الصبح بقريب؟

التصوف، والعرفان

عندما نلتقط من سوق الثقافة العالمية بعض سلعها، ونمعن في التزامها الإنتقائي بعشوائية، نفلسف ذلك بالإنفتاح الثقافي!

فبماذا نبرر عشوائية تطبيق الإنفتاح الثقافي نفسه؟

هل يعني هذا الإنفتاح العلاقة بالآخر الذي هو الخارج فقط ؟

أم أنه يعني كل مجالات الثقافة أينما وجدت؟

وهل هناك أولويات في هذا الإنفتاح؟

وهل من الأولويات أن تحظى قصص "روكامبول "و"أرسين لوبين" بمالايحظى به من احترام ماكتبه السهروردي أو صدر المتألهين.

أوليس ذلك تطبيقاً مغلوطاً جداً وممعناً في القبح لسلعة "الإنفتاح الثقافي" ؟

أوليس في واقعه انغلاقاً وتحجراً وتصحراً يتظاهر بالحداثة.

من يرى من واجبه أن "يلعن" التصوف والعرفان، فليفعل ذلك وهو يقرأ نتاجهما، أو وهو منفتح على قراءته.

أو لسنا نحث على القراءة للكفار والملحدين والمجانين، وحجتنا في ذلك أن "النص"(25) يؤكد على الإنفتاح الثقافي الذي جعلناه انتقائياً.

وماهو السر في ضراوة هذه العدوانية لكل ما يمكن اتهامه بالتصوف ورميه بالعرفان.

هل هو الشطح والهلوسة التي اشتهر بهما أكثر المتصوفة أو كلهم، وكثير من "العرفاء".

أم هو"الأنا" الثقافية! التي تصر على الإبتعاد عن مواطن التهمة ثبتت أم لم تثبت، حقاً كانت أم باطلاً ؟

أم أنه"الأنا" الحديثة! التي بلغت في ذرى الحداثة الموقع الذي يخوِّل من لم يدرس "المنطق" أن يرثي لحال أرسطو والمنطق الصوري، ويزدري هؤلاء الذين لم يغادروا بعد منطقه المتخلف، ويسمح كذلك لمن تستبن له حقيقة أمر الحلاج أن يساوي بينه وبين " صدر المتألهين ".

ماأنا بصدده بالتحديد هو الدفاع عن الخزين الروحي في النص المعصوم - الذي هو الأساس في كل أبعاده - دون أدنى اكتراث بالدفاع عن المتصوفة أو العرفاء.

لقد ضاع هذا الخزين في عالمنا الذي حمي فيه وطيس المادة،إلى حيث صهرأتونه العقول وأعاد قولبتها فلا يمكنها أن تغادر الإخلاد إلى الأرض لتحلق في آفاق المعنى وسمو الروح.

ولم يكن ذلك ممكناً في العالم الإسلامي لو لم يضعف البعد الروحي في المسلمين.

ولم يكن ضعفه المفرط الذي وصل إليه متاحاً إلا بالمدخل المناسب.

وليس أشد مناسبة من "شطحات" التصوف، وادعاءات أكثر "العرفاء".

يتضح من ذلك أن جناية التصوف وأدعياء العرفان، تحتل المرتبة الأولى بين أسباب المادية "الإسلامية" ليتماهى دورها في ذلك مع دور انحرافات الكنيسة التي أسست للمادية الراهنة في الغرب والعالم عموماً.

ولم يكن بوسع الظواهريين أن يحققوا "إنجازاتهم" في محاربة المخزون الروحي في النص المعصوم، لولا هذه المادة الخصبة التي وضعت في متناولهم، فانطلقوا منها إلى التعميم والإطلاق دون أي دليل علمي.

ويتركز خطأ هذا التعميم وخطر هذا الإطلاق في ثلاث مجالات:

الأول: اعتبار كل من يحاول التعمق في دلالة اللفظ صوفياً.

الثاني: اعتبار أن ادعاءات الأغلبية من "العرفاء" تجعل العرفان والتصوف من باب واحد وعلى حد سواء، وعدم التقاط المائز بين العرفاء والعرفان أو بين أكثر ألوان العرفان وبين اللون السليم منه.

الثالث: ولنفترض أن العرفاء والعرفان من نفس طينة التصوف وشطحات الصوفيين، فماهو المسوِّغ للإعراض العملي عن المحتوى الروحي في الإسلام، الذي لايمكن أن يبلغ "الحالة" التي بلغها دون موقف نظري.

في معرض حديثه عن أقاويل المتصوفة وخطرها، يقول "صدر المتألهين":

"وقد يكون "كلامهم" من قبيل ما يقال له الطامات، وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا تسبق منها إلى الأفهام كدأب الباطنية في التأويلات، وهذا أيضاً حرام عقلاً وشرعاً لأن الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصام فيه بنقل عن صاحب الشرع ومن غير ضرورة تدعو إليه من دليل العقل اقتضى ذلك بطلان الثقة بالألفاظ، كيف ولو جاز صرف الألفاظ الشرعية عن مفهوماتها الأولى مطلقاً من غير داع عقلي لسقطت منفعة كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وآله فإن ما يسبق منه إلى الفهم لا يوثق به، والباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر، ويمكن تنزيله على وجوه شتى وأنحاء تترى، وهذا أيضاً من المفاسد العظيم ضررها والبدع الشائعة عند المتسمين بالصوفية، وبهذا الطريق توسلت الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم، فيجب الإحتراز عن الإغترار بتلبيساتهم، فإن شرهم أعظم على الدين من شر الشياطين، والشياطين بوساطتهم تتذرع إلى انتزاع الدين من قلوب المسلمين". (26)

ويقول الإمام الخميني:

"العرفان الحقيقي، قليل "وجوده" في الدنيا".(27)

"كان العرفاء معتقدين بالإسلام، إلا أنهم كانوا يرجعون جميع المسائل إلى المعاني العرفانية، ولم يكونوا يأبهون بمسائل العصر، فإذا رأوا رواية أو آية وردت حول الجهاد، كانوا يحملونها على جهاد النفس، وكانوا ينظرون إلى الإسلام على غير ما هو عليه من الشمول والجامعية لجميع الأبعاد.".." لقد ابتلينا بهم لفترات، وبالطبع كانوا أناساً صالحين، إلا أنهم كانوا يرون الإسلام في صورة واحدة وينظرون إلى بعد واحد منه، وقد ابتلينا أخيراً بعدة هم على العكس من أولئك، إنهم يرجعون جميع المعنويات إلى الماديات".(28)

ويشهد تاريخ المتصوفة والعرفاء بما أكده النصان المتقدمان وهما لخبيرين مشهود لهما في هذا المجال.

لذلك يتحتم الدفاع عن أصل العرفان بمعزل عن غالب تطبيقاته، دون اكتراث – كما مر– بالدفاع عن التصوف، ولا عن أكثر "العرفاء" مع التأكيد على أن الهدف هو الدفاع عن الخزين الروحي، وليس عن مصطلح "العرفان"، فلو أن شخصاً أصر على عدم قبوله المصطلح، مع أنه يلتزم النتيجة - كما سيأتي-  لماكان ثمة وجه للإعتراض علي

   * العرفان، بنظرة موضوعية

ويجري تناول هذه النقطة على مستويين:

المعنى اللغوي، والمعنى المصطلح.

أما الأول: فللتوفر على المعنى الدقيق للعرفان، تنبغي الإطلالة عليه من مشارف إشكالية الخلط بين المعرفة بقول مطلق التي تصوغ الإنسان وبين المعرفة التي تسهل وصوله إلى مبتغاه، كما تنبغي القدرة على تحدي عقبات عدة تحول دون التفاعل بموضوعية مع العرفان:

أولاها: التخلص من أسر الفصل بين المعرفة والعارف بها الذي أسس لإقحام الآلة في جوهر المعرفة، وهو ما نتج بدوره من تداعيات الثورة الصناعية ثم المعلوماتية لاحقاً، إلى حد أصبح معه الحديث عن المعرفة المجردة من لوثة الآلة، وإغراء التكنولوجيا، بالتراث أشبه.

وثانيها: التفريق بين مصطلحي المعرفة والعرفان ففي حين يختص الأول بالمفهوم المجرد يختص الثاني بالتوأمة بينه وبين تجسيده في عالم الفعل والسلوك، وهو ما يقتضيه دخول الألف والنون في صيغته، كما تؤكد كتب اللغة ويشهد به التدقيق في موارد استعمال المفردات المشابهة: "حيران، ظمآن" الخ.

وثالثها: رفض المواقف القبْلية، والإسقاطات التي تتمثل في ما نحن فيه بالتوجس من المعنى اللغوي للعرفان، انطلاقاً من الإنطباع الذي كوّنه آخرون عنه أو الموقف السلبي الذي اتخذوه منه.

إذاأمكن تجاوز هذه العقبات سنجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام الإذعان بأن العرفان بمعناه اللغوي الدقيق ( معرفة + تجسيدها ) هوالمدخل الوحيد إلى صياغة الإنسان، الذي يقع الحديث عن حريته والقوانين التي تحفظها فتحقق له العدالة، وعن العولمة تفاصيل في سياق الحديث عنه.

ببساطة : المعرفة كقيمة تستدعي وجود العارف، ولا تكتمل ( عارفيته) إلا بالتزامه ماعرفه، ويتوقف ذلك على مناقبية فاعلة، وهي أخلاقه، بقطع النظر تماماً عن طبيعة المعرفة التي أصبح عارفاً بها، وطبيعة مناقبيته أو أخلاقه.

هذه المعادلة هي التي تسمى :العرفان، دون إضافة أي توصيف ،سواءً الإسلامي أوغيره، أي أن هذه الرؤية مغايرة تماماً لهوية المعرفة المتبناة، فكائناً ما كانت المعرفة التي نصدر منها، لا يسعنا التنكر لهذه الحقيقة البنيوية، وهو ما يكشف - في ضوء أن الأزمة الراهنة للبشرية ذات وجهين معرفي وسلوكي – أن العرفان بقطع النظر عن مضمونه، موضوعة حداثة واستقبال، وليس كما نتعامل معه مفردة من مفردات التراث الباهتة، فضلاً عن أن يكون مجرد حّيزٍ ملتبس منه.

أما المستوى الثاني للحديث عن العرفان فهو الحديث عن العرفان في الإسلام.

والعقبات الكؤود التي تحول بيننا وبين العرفان الإسلامي أشد صعوبة من سابقتها بل لا مجال للمقارنة، لأن تلك فرع هذه.

غير أن العنوان الذي يلخص هذه العقبات جميعاً هو التغلب على النزوع إلى الضحالة والقشرية، وامتلاكُ الروح العلمية، التي تعني اعتماد مبدأ التثبت الذي قد يكون مضنياً، بدلاً من الإنسياق في موجة التجني التي تجاوزت حد عدم الرغبة في التأكد من الفرق بين المبدأ وتمظهراته: الحقيقي منها والمدعى، و تجاوزت حد عدم التفريق بين التصوف و بين العرفان، بل وصلت حدّ اعتبار العرفان وكل مايمت إليه بأدنى صلة جهلاً وتخليطاً ونسج خيال.

وتتملك الباحث الحيرة أزاء هذا العداء المستحكم لأرقى تجليات العلم والعمل، وهو ما ألحق بالإجتماع السياسي عبر القرون وما يزال أفدح الخسائر على الإطلاق.

يشكل التصوف المساحة الملتبسة التي لابد من تجاوزها للوصول إلى عتبة العرفان، التي تقع عند حدود ما سلم منه من الشطحات، ومع ذلك فإننا نشهد في مراحل مختلفة من التاريخ وفي عصرنا الحاضر تصريحاً من مفكرين بارزين ومثقفين كبار بوجوب إعادة الإعتبار إلى التصوف، باعتباره "عندهم" أرقى ما توصل إليه الفكر البشري وأرقى ماقاربته الأحاسيس والمشاعر، وذروة (عقل)العقل، وفقه القلب.(29)

وترجع الإعتراضات على العرفان لدى التأمل إلى توهم كونه تأويلاً لا يندرج تحت ضابطة ولا يخضع لمنهجية واضحة المعالم محددة الأسس، فهو- عند المستنفرين ضده المدججين بوهم الدفاع عن المنهج والحقيقة - والشطحاتُ على حد سواء.

وبديهي أن ثبوت هذا الوهم يسوِّغ للمعترضين كل ما يقولونه، بل يحملهم مسؤولية التقصير في استهداف العرفان، أما إذا ثبت العكس فقد ثبت أنهم واهمون.

هذا هو بالتحديد ميدان التحدي وساحة المنازلة، وليس من أهلها من الفريقين - أنصار العرفان وأعدائه - ممن هم على شاكلتي ليس لهم إلا أن يشهدوا على المبارزة متفرجين ليحتفظ كل منهم بانطباعاته التي قد تصبح بالتراكم - شرط الأناة والجلد والمثابرة- قناعة لصالح أحد الفريقين.

بهذه الروح العلمية المتواضعة يخلع القلب نعلي الضحالة والتكبر- بلا ادعاء، حتى ادعاء التواضع - ليجهر بمحاولة التتلمذ على أيدي الإختصاصيين وقد تُثبت المحاولة العجز عن ذلك.

وفي كلمات الإختصاصيين في ميادين أدق العلوم العقلية، توكيد الثوابت التالية :

أ- أن دلالة اللفظ هي الأصل.
ب- التطابق التام بين العقل والشرع.
ج- أن للكشف والشهود العرفانيين منهجاً علمياً يجب اعتماده.
د- أن الموقف السلبي من العرفان لايرجع إطلاقاً إلى كونه تخليطاً ورجماً بالغيب كما هو السائد، بل يرجع إلى كونه فكراً شديد الخصوصية يكتب عادة بلغة سهلة ممتنعة وهو ما يجعله عصياً إلا على من يقاربه بأدواته.

والملفت أن الإصرار على تعزيز هذه الثوابت وتوكيدها يبلغ حداً يندر معه أن تجد قمة من قمم الفكر المشهود لها لم تبذل جهداً ملحوظاً في تشييدها.

إلا أن الملفت أكثر أنه يتم الإعراض عن هذه الجهود جميعاً للتجني على كبار الحكماء والعرفاء و"وصمهم" بالتصوف، واعتبار العرفان الذي يدعون إليه كنقيض لمنهج التصوف، إفراطاً في الباطنية، وإمعاناً في التنكر لدلالة اللفظ!

وفي النصين المتقدمين لصاحب الأسفار والإمام الخميني، ما يكفي لمن ألقى السمع وهو شهيد.

ولا يهدف العنوان المثار هنا إلى أكثر من توجيه الأنظار إلى أن بين العلماء الكبار من يعتمد نفس المنهج الإستدلالي في الفقه، الذي هو المنهج العقلي في مجال النقل، ليصل من خلاله إلى حقائق في البعد الروحي، معززة عنده بالأدلة والبراهين التي لم يُعمل في اختيارها إلا نفس الذهنية والمنهج اللذين يعملهما في الفقه وفي الأصول، غاية الأمر أن للبعد الروحي جوه الخاص الذي يطبع المنهج العقلي المعتمد فيه بطابعه، فليس الحديث عن أفعال النفس وتروكها، كالحديث عن النفس وخصائصها والمبدأ الذي جاءت منه والمعاد الذي تنتهي إليه وأدب العلاقة بالله تعالى، والقدرة التي أودعها الله تعالى فيها، وما يمكن لها أن تبلغه إذا استقامت، أو تنكرت للحقيقة.

تمس الحاجة إلى المزيد من الإصغاء إلى رواد هذا المنهج، أكثر بكثير مما تمس حاجة الغريب المنقطع به للرجوع إلى الوطن.

وسنجد إذا أحسنا الإصغاء إليهم أن كبارهم يؤكدون أن الكشف والمشاهدة والمصطلحات الأشد غربة بيننا لا تعدو كونها نتائج منطقية تترتب على أسبابها كما يترتب الحدس على أسبابه، وكما تترتب سرعة البديهة على عوامل ذاتية موضوعية لاعلاقة لها بالشطحات من قريب أو بعيد، ويأتي تحت عنوان "يزكيهم ويعلمهم" مزيد إيضاح.

يزكيهم، ويعلمهم

لايمكن الدخول إلى رحاب فقه الحياة إلا على إيقاع نبض فقه القلب، وهل الحياة إلا قلب خافقٌ بالحب، عامرٌ بالقيم المتدفقة منه - من الحب – شلالاتِ نور، غامرٌ بالأنس والسعادة، لفرط اليقين بالحقيقة التي عْقد عليها، وفرطِ السكون إلى سلامة الموقف والمسار، والسكينة ِالمتنزلة من منهل الرجاء، ثقةً بحسن المنقلب ، وفرحة المصير .

إن التطبيق العملي للمعرفة هو الهدف منها، ومعنى ذلك أن أمير الجوارح هو همزة الوصل بين العلم والعمل.

أوليس تقلب هذا القلب وأحاسيسه والمشاعر في هدي العقل هو الفارق الذي يميز الإنسان عن الجماد والحيوان.

وإذا لم يكن القلب قبلة العقل في مقام المعرفة والتنظير، ليصبح العقل قبلة القلب في مقام العمل والتطبيق، فهل هي معرفة تلك التي نتحدث عنها آنذاك، أم هي الجهل المركب.

إن قيمة المعرفة مفهوم مشكك، يختلف من معرفة إلى أخرى، ولاشك أن موقع الصدارة يبقى للمعرفة التي تسهم في صياغة الإنسان بمعناه الحقيقي الذي يعني الإلتزام الواعي لهذه العناصر التي تمثل فقه القلب والحياة، والتي لايمكن الحديث عنها بموضوعية إلا في ضوء تحديد النظرة إلى الكون والحياة، وموقع الإنسان فيهما.

أما المعرفة التي من شأنها تسهيل حركة الإنسان في هذه الحياة، فإنها وإن كانت ذات قيمة معرفية عالية، لكنها لا ترقى أبداً إلى موقع الصدارة، فالفرق كبير جداً بين ما يصوغ العقل والقلب والوجدان، وبين ما يسهل حركة الجسد في تلبية غرائزه، أو يمكنه من تلبية حاجاته ومشاعره كإنسان.

وحيث إن كل معرفة بحسبها فالأولى هي المعرفة بقول مطلق، أما الثانية فهي من فروع المعرفة.

والخلط بينهما هو الذي أدى إلى إقحام الآلة في تحديد مفهوم المعرفة، وأدى ذلك بالتالي في عالمنا المعاصرإلى تهميش المعرفة الحق " الأولى ".

وهل يمكن تحديد وجهة البحث في حركة القلب بمعزل عن تحديد الموقف من السؤال المركزي التالي : أصالة الله أم أصالة الإنسان؟

وعن أي إنسان نتحدث ؟ الإنسان الرب، أم الخليفة المكرم؟

وعلى أي أبعاد تُرسم خارطة حرياته؟ وأي قوانين تظهِّر له الحدود؟

وبالتالي: على أسس أي معرفة، وحقوق، وحريات, وقوانين، ننظّر للعولمة؟

هل ننظّر لها على أساس {ألحمد لله رب العالمين} أم على أساس مبدأ القارونية الإستخباراتية والعسكرية والإقتصادية: إنما أوتيته على علم عندي !!

يوضح ما تقدم كيف أن القلب هو المحور الذي يوجه الموقف منه المسار في كل محاور حركة الفكر والثقافة، ومنها المحاورالخمسة المشارإليها، المتقدمة اليوم على كل ما عداها على مستوى العالم، كما سبقت الإشارة.

وهو إذ يوضح ذلك يقدم الدليل القاطع على محورية "التزكية" التي يعبر عنها بالتربية وتُقرن بالتعليم، في محاولة خجولة للوفاء ببعض حقها، إلا أنها سرعان ما تطوى تحت عجلات المادية الجاهلة والعولمة التجارية، ليصار إلى ملأ كل الصورة بالتعليم، الذي يتمخض الإهتمام به عن تلبية الفواتير المحاسبية كدليل على مدى التنكر للتربية والتزكية وكل ما يمت إليهما بأدنى صلة، فالعالم اليوم مادي والتربية من عالم آخر، أما التزكية فهي حديث الغابر والتراث أو هي اليوم غيرها بالأمس، فلا بد أن تخضع للتحديث وتتماشى مع المستجدات!

في عصر تجري فيه "مكننة" التربية عبر ربطها بأسهم البورصة التي لا وجود للقيم المعنوية في قاموسها، يصبح الحديث عن التزكية بأبعادها في النص المعصوم، من خارج السياق.

أي"تربية" هي التي تسمح لمن يرى أنه "رئيس" العالم، أن يرسم خارطة العالم كما يحلو له!

وأي "مناقبية" في دعم الطاريء المحتل بلا حدود، والتمادي في البطش بالمواطنين الأصليين إلى حيث أن طياراً أخطأ في ذكر"فلسطين" إلى جانب الإسم الدخيل، فبادرت شركة الطيران للإعتذار، حتى لا تتهم ربما بالعداء للسامية.

ولايحرك أهل الدنيا ساكناً، حتى أكثر المسلمين.

إنها مجرد إشارات تضيء على مدى صعوبة مقاربة النص المعصوم بخلفيات عالم مثقل بانعدام التربية، وعدم التفكير بالتزكية.

وعندما نتنبه إلى أن موقع التزكية من النص المعصوم موقع العصب، وأن الهدف كله أن تصبح النفس مطمئنة، راضية مرضية، تتخذ الصعوبة شكل التساؤل عن التعذر.

وهو سؤال وجيه جداً، وتشكل إثارته الهدف الأول لما أنا بصدده، ويتكفل الحديث عن العودة إلى الصواب - التي تتجسد بالتوبة - الإجابة عليه، موضحة أن بدء طريق العودة إلى العقل، قرارالإفلات من دوامة الجنون والباطل.

منهج "يزكيهم ويعلمهم" مختلف جذرياً عن عبثية التعليم التجاري بهدف الجدوى الإقتصادية، بلا تربية ولا محاولتها، إلا في حدود المصلحة.

ويقدم هذا المنهج الإلهي رؤية متكاملة عن تفاعل القلب المقفل ضد كل نبضات الحب وسائر القيم، مع الجهل والضلال، وفي المقابل عن تفاعل القلب المنفتح على الآخرين - إلى حد الذوبان فيهم، وإيثارهم، ولو كان به خصاصة، بل وبذل الروح دفاعاً عنهم - مع العلم والهدى.

وقد يكون صاحب القلب المقفل، يحمل من المعرفة النظرية، ما لا مطمع للثاني بفك رموزه، إلا أن العبرة بالمعرفة التي تنتقل من العقل إلى القلب لتأخذ مسارها في الواقع العملي.

ويتوقف ذلك على التزكية وهي تعني أن تأخذ لنفسك بمقدار ما أعطيت منها.

وهي قاعدة عامة، والأمثلة العرفية التي تؤكدها لا تحصى، يجمعها كلها أن إدراك أي حقيقة، رهن ما تعطاه من الإهتمام ومن النفس، وعندما يكون الموضوع يطلب النفس كلها والإهتمام كله، فالنتيجة بطبيعة الحال رهن ذلك أيضاً.

تُمسك التزكية إذاُ بتلابيب التعليم وناصيته، لافرق في ذلك بين الفرد والجماعة، ولا بين تطبيق المعرفة المنجزة، أو عملية إدراك غير المنجز منها.

وبديهي أن يؤدي إلغاؤها إلى تقزيم بشرية الإنسان ومسخها لصالح الآلة والوسيلة، وتلك هي الأزمة المعرفية العضال التي تواجه البشرية اليوم على أعتاب الألفية الثالثة.

إنها أزمة تزكية.

ليست القيمة في عالمنا إلا للمواصلات والإتصالات ووسائل الراحة، بما يشمل أحدث مبتكرات الدمار الشامل! لما تؤمنه من "راحة" للسيد الأمريكي مثلاً الذي يصنِّع الآلات الأضخم.

ويتم ذلك بالمطلق على حساب قيمة الإنسان وكرامته ومحوريته.

لم تعد إنسانية الإنسان هدفًا، ولم تعد الفكرة مطلباً إلا إذا كانت تسبح في فضاء المردود الربحي والشهوات، ولم يعد الإلتزام بالفكرة القيمة مثار اهتمام، ألأمرالذي يلغي مبدأ الإستقامة في السلوك ليحل بدلاً منه إشباع الغرائز و التفلّت من كل الضوابط!

ويعني ذلك ببساطة استبدال الإنسانية بالحيوانية: "بل أضل سبيلا"

أولا يؤكد هذه الحقيقة أن "الإنسان" في عصرنا في أفضل حالاته التي تراد له عبارة عن شكل بشري يمتلك أرصدة في البنوك وقدرة على المغامرة والمقامرة والإحتيال، تتيحها له طبيعة المنهج "التعليمي" والإعلاني المعتمدين، والبيئةُ الفاسدة التي تنفخ في أتون شهواته، و خبرتُه بالتحايل على القوانين، ولو بالرشوة أو القتل"التقني" الذي تسهله له أحدث المبتكرات.

إنها لوحة شديدة الإثارة : حيوان مفترس في غابة من الأزرار تمكنه من تحقيق أي عشوائية، حتى ما لا يخطر له ببال، كإطلاق صواريخ عابرة للقارات، أو حتى تفجير قنابل نووية - ولو عبر حقيبة جرى الحديث عن بيع بعضها إثر انهيار الإتحاد السوفياتي - تحيل بلداناً بأكملها إلى يبابِ ناكازاكي أو هيروشيما.

وهكذا يتضح أن السبب في كل مشاكل الإجتماع السياسي يرجع إلى استبدال قيمة المعرفة بقيمة الآلة، وهويعني استبدال قيمة الإنسان أيضاً بقيمةالآلة، وهوما أدى إلى كل هذا الخلل الخطير في النظرة إلى الحريات والقوانين، وأفسح المجال للحديث عن لون جديد من ألوان الإستعمار لا تنفذه هذه المرة الجيوش الجرارة وإنما الشركات العملاقة التي يغنيها زحف أمواج المال والأثير عن كل عمليات الرصد والإستطلاع وعن كثير من عمليات الإحتلال الميداني المباشر، وإذا استدعى الأمر أكثر من ذلك فإن تحويل الجو إلى قطعة من جهنم عبر القذائف ذات الأطنان كفيل أن يقنع بالحضارة من لايقنعه البرهان .

إنها بحق العولمة المتوحشة!

وبديهي أن الحل لا يكمن في الحد من الثورة المعلوماتية التي مهدت لهذه النقلة الشديدة الإيجابية من حيث المبدأ في حياة البشرية، ولا في الحد من سائر الوثبات التقنية الهائلة، وإنما يكمن في إحلال قيمة المعرفة محلها الطبيعي، لتبقى للإنسان مكانته المحورية، فالتقدم التقني في خدمة الإنسان لا العكس.

ولاتتحقق هذه الموازنة بين المعرفة والآلة إلا بمنهج معرفي يجمع بين التزام المعرفة نظرياً وبين التزامها في مقام العمل والسلوك، الذي هو"التزكية".

ومن بين كل المناهج المعرفية ينبغي البحث عن المنهج الذي يولي الأخلاق أهمية رفيعة لأن مقام العمل والسلوك شأن أخلاقي، وهذا ما يضعنا وجهاً لوجه أمام مبدأ تهذيب النفس، كي تحافظ على التزام المعرفة بكل نقائها دون أن تدخلها مسارب التنفيذ وتعقيداته في متاهات التناقض مع المعرفة التي تدعي التزامها والتي ينبغي تجسيدها في المجرى العملي والسلوكي بحيث إنك إذا تأملت " العارف" وجدته تجسيداً للمعرفة.؟ وأي خلل في هذا التجسيد يعني نقصا ًفي المعرفة.

{لايقبل الله عز وجل عملاًإلا بمعرفة، ولا معرفة إلا بعمل فمن عرف دلته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له؛ إن الإيمان بعضه من بعض }.(30)

{إن الذات العارفة، وموضوعات المعرفة هما بالضرورة من المستوى نفسه، إن المعارف تصير فعلية بالذات العارفة، كما يصيرالغذاء جزء ًمن الذات التي تتغذى به}.(31)

ويعني ذلك أن التزكية بلغت الحد الذي مكنها أن تمزج بين العلم والعمل لتقدم العالم العامل الذي يعبر عنه ب"العارف".

وهي رحلة مضنية في المجالين معاً، وبيان ذلك هو الهدف الثاني لهذا العنوان الذي يتم الكلام الآن في إطاره.

ولنستمع - حول صعوبة الوصول إلى مشارف حقائق النص المعصوم - إلى شهادة تلميذ حاول فاكتشف عجزه فواصل الجهد إلى أن حالفه التوفيق:

"أغتنم الفرصة لأروي ما حدث لي قديماً، لعله ينفع البعض، ويكون سبباً في تنبه قاريء وهو كما يلي:

أثناء دراستي وتعلمي العلوم العقلية والصحف العرفانية، ابتليت في طريق الوصول إلى العقائد الحق، بالبرهان والعرفان بوساوس مرعبة وخبيثة وخطيرة المنشأ والعاقبة، فاستولت علي حالة الخيبة من الحكمة والميزان "المنطق" بحيث كانت الشبهات تنهال علي من كل صوب.

وكان منشأ هذه الشبهات تطابق ظواهر الشرع الأنور "على صادعه الصلاة والسلام" مع المسائل العقلية والعرفانية حيث كنت عاجزاً عن التوفيق بينهما، ولفرط ما فكرت أصبت بتعب وانهيار يفوقان التصور، ولكثرة أسئلتي لمشايخي- الذين هم علماء الدين بحق والجواهر الفريدة السيارة والثابتة في سماء العلم- كنت أتوجس من التجرؤ، وأخاف من إساءة الأدب، وأخشى من تـكدير خواطرهم، وأحتمل سوء الظن.

" هذه الوساوس تسببت كما مر بنظرة سلبية إلى العلوم العقلية، والتنفر من المنطق والحكمة والعرفان، إلا أني كنت أحضر الدروس برجاء " لعل الله يحدث بعد ذلك أمراَ " ولم أكن أكشف سري، وكنت أفكر في تضرع أعاظم الحكماء وتذللهم للتمكن من فهم المسائل، كصاحب الأسفار الذي يقول في مسألة اتحاد النفس بالعقل الفعال والإستفاضة منه:

"وقد كنا ابتهلنا إليه بعقولنا، ورفعنا إليه أيدينا الباطنة لا أيدينا الداثرة فقط، وبسطنا أنفسنا بين يديه، وتضرعنا إليه طلباً لكشف هذه المسألة وأمثالها.(32)

" الشيء الوحيد الذي أنقذني من هذه الورطة المهولة، هو اللطف الإلهي، فكنت ألقن نفسي أنه إذا دارالأمر بين عدم فهم مثلك وعدم وصوله، وبين عدم فهم مثل المعلم الثاني أبي نصر الفارابي والشيخ الرئيس ابن سينا والشيخ الأكبر محي الدين بن عربي وأستاذ البشر الخواجه نصير الدين الطوسي وأبي الفضائل الشيخ البهائي والمعلم الثالث الميرداماد وصدر المتألهين الشيرازي وعدم وصولهم (إلى الحقائق) أفهل مثلك أولى بعدم الفهم وعدم الوصول، أم كل أعمدة المعارف أولئك؟

" وهكذا كنت أضع نفسي في جانب، وأكابرالعلم الآخرين من التلامذة المتفوقين لأولئك العظماء في جانب آخر، ثم أجري تلك المقارنة وألقن نفسي حتى كنت أنتهي إلى أساتذتي الذين كانوا بحق ورثة الأنبياء وخزنة خزائن المعارف رفع الله درجاتهم ، والذين كنت أيضاً أضع نفسي في جانب وأضعهم في جانب آخر وأجري نفس المقارنة والتلقين: هل أنت أولى بعدم الفهم أم مفاخر الدهر أولاء، على غرار ما ذكره العلامة الشيخ البهائي حول الشيخ الأجل الصدوق الذي قال بسهو النبي، فقال الشيخ البهائي: إذا دار الأمر بين سهو رسول وسهو صدوق، فالصدوق أولى به.

وقد شعرت من هذه المقارنة بالإستقرار بعض الشيء، إلى أن طرقت سماء القلب البوارق الإلهية كالنجم الثاقب، ونجوت في ملجأ رب الناس من شر الوسواس الخناس، ففاض ما فاض، وكأن الكلام والحديث الذي يلامس شغاف القلب لصاحب الأسفار أصبح ذكري القلبي: "حاشا الشريعة الحقة الإلهية البيضاء أن تكون أحكامها مصادمة للمعارف اليقينية الضرورية، وتباً لفلسفة تكون قوانينها غير مطابقة للكتاب والسنة".(33)

وعندما فتح أمامنا باب الرحمة الرحيمية وجدنا بعلم اليقين بل بعين اليقين وأعلى بحق اليقين وأبعد ببرد اليقين أن المطالب العقلية والعرفانية التي هي سهل ممتنع رموز أدركنا أنها إشارات إلى كنوز.

بلى، لايصل الجاهل إلى العلم بسهولة، ويلزمه كثير سفر لينضج.(34)

ويتحدث صدر المتألهين نفسه عن معاناته في الوصول إلى حقائق النص المعصوم في مقدمة الأسفار، فيوضح في مطاوي كلامه ما يشكل شروط العزم على تسنم هذه الذرى بمعزل عن النقطة التي يمكن الوصول إليها.

وينبغي الوقوف ملياَ على كلامه رحمه الله تعالى، في هذاالمجال - في الأسفار وغيره - وهو ابن بجدتها، وعندما تستخبره الحال وتحفيه السؤال فلأنك على الخبير سقطت. وعند جهينة الخبر اليقين.

يتحدث عن تجربته الشخصية في الوصول إلى مشارف علم الحقيقة التي مكنته من خوض غماره ليعود بالقدح المعلى، فيقول في مقدمة أسفاره:

ثم إني قد صرفت قوتي في سالف الزمان منذ أول الحداثة والريعان في الفلسفة الإلهية ".." وحصلت ما وجدته في كتب اليونانيين والرؤساء المعلمين تحصيلاً يختار اللباب من كل باب ".." إلى أن انزويت في بعض نواحي الديار واستترت بالخمول والإنكسار منقطع الآمال منكسر البال متوفراً على فرضٍ أؤديه وتفريط في جنب الله أسعى في تلافيه ".." فلما بقيت على هذا الحال من الإستتار والإنزواء والخمول والإعتزال زماناً مديداً، وأمداً بعيداً، اشتعلت نفسي لطول المجاهدات اشتعالا ًنورياً والتهب قلبي لكثرة الرياضات التهاباً قوياً، ففاضت عليها أنوار الملكوت ".." فاطلعت على أسرار لم أكن أطلع عليها إلى الآن وانكشفت لي رموز لم تكن منكشفة هذا الإنكشاف من البرهان، بل كل ما علمته من قبل بالبرهان عاينته مع زوائد بالشهود والعيان ".." وقد أشير في رموزه إلى كنوزٍ من الحقائق لا يهتدي إلى معناها إلا من عنّى نفسه بالمجاهدات العقلية ".." "و" لا يطلع على مغزاها إلا من أتعب نفسه في الرياضات الدينية ".." وإني لأستغفر الله كثيراً مما ضيعت شطراً من عمري في تتبع آراء المتفلسفة والمجادلين من أهل الكلام وتدقيقاتهم وتعلم جربزتهم في القول وتفننهم في البحث حتى تبين لي في آخر الأمر بنور الإيمان أن قياسهم عقيم وصراطهم غير مستقيم".(35)

وهذه شهادة من متبحرٍ في الفلسفة، صريحة الدلالة على سمو مرتبة هذا اللون من العلوم " الذي اصطلح عليه بالعرفان" وأن الطريق إليه ليس هوتعلم أساليب الفلاسفة والكلاميين وجربزتهم في القول، رغم أن ذلك قد يكون من وسائل السفر، وهو ما يعني بوضوح أن الوصول بدونه متاح.

وحول رفيع تخصصية هذه العلوم وأنها متمحضة في صفة العقلية يقول:

" وما من علم ٍإلا والإحتياج إليه بمدخلية الجسم وقواه ومزاولة البدن وهواه، وليس من العلوم ما يتكفل بتكميل جوهر الذات الإنسية وإزالة مثالبها ومساويها حين انقطاعها عن الدنيا وما فيها والرجوع إلى حاق حقيقتها والإقبال بالكلية إلى باريها ومنشئها وموجدها ومعطيها إلا العلوم العقلية المحضة، وهي العلم بالله وصفاته وملائكته وكتبه ورسله، وكيفية صدور الأشياء منه على الوجه الأكمل، والنظام الأفضل، وكيفية عنايته وعلمه بها، وتدبيره إياها بلا خلل وتصور وآلة وفتور، وعلمُ النفس وطريقها إلى الآخرة، واتصالها بالملأ الأعلى، وافتراقها عن وثاقها".(36)

ويمكن اعتبار ما تقدم نصاً منه في الحاجة إلى صقل العقل وتزكية النفس معاً لتقحم هذه الميادين، أما صقل مرآة النفس وتزكيتها بالخصوص فهو مايقول فيه:

"وأما الحاجة إلى العمل والعبادة القلبية والبدنية، فلطهارة النفس وزكاتها بالأوضاع الشرعية، والرياضات البدنية، لئلا تتمكن للنفس بسبب اشتغالها بالبدن ونزوعها إلى شهواته، وشوقها إلى مقتضياته هيأة انقهارية للبدن وهواه فترسخ لها ملكة انقيادية لمشتهاه وتمنعها إذا مات البدن عن لذاتها الخاصة بها من مجاورة المقربين ومشاهدة الأمور الجميلة وأنوار القدسيين". (37)

ويوحي هذا النص بالملاحظات التالية:

أ – إذا كان إنجاز مقالة ٍما يستدعي" فراغ البال، وعدم تشتت الأحوال" فما الذي يستدعيه إنجاز إدراك الحقيقة؟

وإذا كان "نظم درر قصيدة عصماء" يستدعي سمواً روحياً، ورهافة حس نوعيين، فما الذي يستدعيه نظم فرائد الوجود على لوحة نور الفكر وصفحة القلب.

ب - هنا بالذات - في الهيئة الإنقهارية للبدن وجوداً وعدماً - تبدأ حركة التحرر الفردية والجماعية والعالمية، وهنا بالذات مقتلها ومكمن كل مظاهر التعثر، فالإلتواء، فالإستبدال.

ج – أن المنطلق إلى الحقيقة هو الحفاظ على بيئة العقل والنفس من التلوث ليظل إدراك الحقائق في متناولهما ليتكاملا بها، إن في ما يخص هذا العالم أو العوالم الأخرى التي هي الأصل وما عداها الظل، وتلك هي مهمة العقل والشرع ومكارم الأخلاق.

ويجد المتأمل في كلمات كبار المختصين بالنص المعصوم، ما يدل بوضوح تام على أن موقع التزكية من جهدهم العلمي العقلي، هو نفس موقع "المختبر" من جهد علماء العلم التجريبي.

وقد بات من المسلمات أن إحراز أي تقدم في حقول الطبيعة والأحياء وسائر الحقول العلمية التي ينصرف المختصون إلى الإبداع فيها، مرتبط جذرياً بنتائج أبحاث المختبرات، التي قد تغير إحدى نتائجها آراء كل العلماء في جميع المجالات المرتبطة بها، إلى حد أن المتابع لأخبار الإكتشافات العلمية، يلاحظ بوضوح وبداهة أنهاحركة مختبر، كما يلاحظ أن البحث العلمي بين المتصدين لحقلٍ ما، يظهر أن الفارق كبير جداً بين من يرتكز إلى النتائج المخبرية التي شاهدها واكتشفها، وبين من لم تتح له هذه الفرصة، فاعتمد على التنظير الذي لا يواكبه المختبر.

هذا الفارق بالتحديد هو نفسه الذي يفصل بين النتائج التي يقدمها العلماء الملتزمون بمنهجية "يزكيهم ويعلمهم" بشرطها وشروطها، وبين النتائج التي يتوصل إليها العلماء الذين لا يولونها الأولوية التي تنبغي لها، فيقتصرون على الحد الأدنى.

ومنه يتضح الفارق بين علماء التزكية، وبين من لايقيم للتزكية وزناً ممن يحاولون إتيان النص المعصوم من غير بابه، فلا يستطيعون.

إن التزكية لدى العلماء بالله المتخرجين من جامعة علم النفس هي المختبر الذي يمكنهم من "الكشف" و" المشاهدة" كما يمكِّن المختبر العالم الذي يربط به حركة بحثه العلمي.

هكذا نستطيع أن ندرك بعداً آخر من نص الشيخ البهائي- الذي سبق ذكره(38) - ليكون ما تقدم عن المختبر إعادة صياغة له.

وطبيعي جداً أن تبحث شروط القبول ودرجاته، وتحدد ضوابطه، فلا نقبل من كل من يدعي الكشف أو المشاهدة ما يقوله، تماماً كما هو الحال بالنسبة للمكتشف الذي يعتمد المختبر وسيلة إثبات، حيث لا يقبل من أي كان ادعاء أنه ثبت لديه أمر ما، فلا بد من اعتماد الضوابط التالية:

1- ثبوت تخصصه.
2- وثبوت أنه يستند في طرح رأيه إلى ممارسة مختبرية.
3- ثبوت منطقية المراحل في هذه الممارسة، فقد يضيف مادة اقتضت إضافتها النتيجة التي توصل إليها في حين كان ينبغي له أن ينجز ممارسته المختبرية بدونها.
4- ثبوت عدم وجود "طفرة" بين النتيجة المختبرية وما بني عليها من نتيجة في البحث.
5- ولابد أيضاً بالإضافة إلى هذا كله، من الإصغاء إلى المختصين الآخرين قبل الحكم بصوابية ماتوصل إليه أو عدمها، فلعل المختص يكتشف من خفايا الخلل ما لا يكتشفه غيره.
6- ثم إنه لابد كذلك بعد طي هذه المراحل جميعاً، من تصنيف النتيجة التي أسفرت عنها محاولة الكشف من خلال المختبر، فقد تكون رتبة التصنيف أن تؤخذ هذه الملاحظة في الإعتبار، وقد تكون عبارة عن التبني المطلق، أو مابينهما.

فلنطبق هذه الشروط ولنعمل هذه الضوابط بحذافيرها على العلماء بالله وأبحاثهم "المختبرية" في مجال الوصول إلى حقائق النص المعصوم، وسنجد أنهم السباقون للتأكيد بمنتهى الحزم على هذه الضوابط، بل يضيفون إليها شرطاً شديد الوطأة بالغ المفصلية هو أن لاتخرج نتائج الكشف عن دائرة دلالة اللفظ .

أليس هذا مايدل عليه قول"صدر المتألهين المتقدم: "بل كل ماعلمته من قبل بالبرهان عاينته مع زوائد بالشهود والعيان".

فالبرهان الذي يتحدث عنه هو الملتزم لحكومة الظاهر ودلالة اللفظ وهو ما أكده بما لا مزيد عليه في كلامه المتقدم أيضاً الذي جاء فيه:" قد يكون"كلامهم" من قبيل مايقال له الطامات، وهو صرف ألفاظ الشرع عن ظواهرها المفهومة إلى أمور باطنة لا تسبق منها إلى الأفهام كدأب الباطنية في التأويلات، وهذا أيضاً حرام عقلاً وشرعاً".

إن الخسارة الفادحة التي تتجاوز حدود الكارثة والتي تنتج عن "شطب" كل هذه الأبحاث "المختبرية" في الكشف والمشاهدة للعلماء المختصين، الذين ثبت تخصصهم وأنهم"ربانيون" أبعد أثراً بما لا مجال معه للمقارنة، من أن يعمد الجهل إلى حملنا على شطب المختبر ونتائجه ومختصيه في العلوم التجريبية.

إن الأول بعدُ أشد تخلفاً وإيغالاً في الرجعية والجهل المركب.

يقول ابن سينا:

" نصيحة: إياك أن يكون تكيسك "أي تعقلك" وتبرزك عن العامة"أي نخبويتك" هو أن تنبري منكراً لكل شيء، فذلك طيش وعجز، وليس الخُرق في تكذيبك ما لم يستبن لك بعدُ جليتُه، دون الخُرق في تصديقك ما لم تقم بين يديك "عليه"بينة، بل عليك الإعتصام بحبل التوفيق وإن أزعجك استنكار ما يوعاه سمعك ما لم تتبرهن استحالته لك، فالصواب أن تسرح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه قائم البرهان، واعلم أن في الطبيعة عجائب وللقوى العالية الفعالة والقوى السافلة المنفعلة اجتماعات على غرائب".(39)

ويقول صدر المتألهين:

" إياك أن تظن بفطنتك البتراء أن مقاصد هؤلاء القوم من أكابر العرفاء واصطلاحاتهم وكلماتهم المرموزة خالية عن البرهان من قبيل المجازفات التخمينية، أو التخيلات الشعرية، حاشاهم عن ذلك".(40)

وقد تقدمت الإشارة إلى أن كبارهم يؤكدون أن المنهج الذي يقع في سياقه الكشف والمشاهدة هو منهج طبيعي لا يدخل ضمن "خرق العادة" وإن كان يقع ضمن خرق المألوف كما هو حال النبوغ بما هو ظاهرة لا تتفق إلا للقلائل.

إنه المنهج الذي يقع في نطاق الحكمة بما تعنيه من وضع كل شيء في موضعه و"من يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا "

وأكتفي بنماذج وافية حول ذلك من كلام الشيخ الرئيس ابن سينا في كتاب"الإشارات" مستعرضاً في البداية التلخيص الذي أورده لآرائه في هذا الباب آية الله الشيخ حسن زاده آملي، ومعقباً باختيار فقرات من "الإشارات" لم يوردها الآملي.

قال آية الله الآملي:

"من بين "من استطاعوا البرهنة على الحقائق العرفانية، الشيخ الرئيس ابن سينا، الذي استطاع بقدرته العلمية في الرياضيات والمنطق والفلسفة، أن يقدم ظرائف العرفان ولطائفه ودقائقه في أجمل حلل البرهان، وذلك في الأنماط الثامن والتاسع والعاشر من"إشاراته" خصوصاً في النمط الثامن الذي هو في "مقامات العارفين".

"... والنمط العاشر في أسرار الآيات أي ظهور الغرائب من قبيل الإخبار بالغيب والكرامات وصدور المعجزات وسائر الأمور الخارقة للعادة من النفس الناطقة الإنسانية، وقد بين ذلك كله مستنداً إلى التمثيل والتنظير بالأسباب الطبيعية، كما فعل في النمط الثالث بل وفي النمط السابع في معرفة النفس...".

أضاف:

 "إن ظهور المعجزات والكرامات ومطلق الأمور الخارقة للعادة من الإنسان مثل سائر الظواهر، ليست بدون علل وأسباب، و"ترجع" هذه العلل والأسباب إلى النفس الإنسانية بإذن الله تعالى، وليس هذا الإذن من الله الإذن القولي الدارج والمتعارف في المحاورات الشفهية، بل هو إذن الله بمعناه الواقعي والتكويني على النحو الذي يقتضيه الوجود الصمدي والذي يعلمه الموحد بالتوحيد القرآني، فإن النفس الناطقة الإنسانية تصل في مسير التكامل والوجود الإشتدادي إلى حيث تصبح موجودات العالم كلها بمنزلة أعضائها وجوارحها، فكما يطيعها بدنها وقواه، تطيعها مادة الكائنات، فتصبح قادرة على التصرف بها."

"ومن هنا فإن المعجزات في القول والفعل وكذلك مطلق الكرامات وخوارق العادات كعلاج الأكمه والأبرص واستحالة "أي تحول" العناصر كصيرورة النار برداً وسلاماً على إبراهيم خليل الرحمن، ونزول المطر بصلاة الإستسقاء وظهور الخصب والرخاء وتسبيح الحصا، وتحول العصا ثعباناً، وشق القمر، وشق الشجر، وشق الأرض، وشق البحر، وإحياء الأموات، وشفاء المرضى، وأشباه ذلك ونظائره، فهو جميعه من تصرف جوهرالنفس الكاملة الإنسانية بإذن الله لا كما تتبناه الآراء المساوقة للغو، لأن القائلين بها ينسبون كل شيء إلى الله بدون واسطة، ويعزلون الوسائط والأسباب والأدوات، كما أن "الطبيعيين" في المقابل ينسبون كل شيء إلى الأسباب، ويغفلون عن المسبب، فيقولون مثلاً: إن السحاب والمطر من بخار الماء، ونمو الشجرة من اجتذاب الجذر والورقة، وتولد الحيوان من الحرارة وتأثير الرحم، وهكذا."

" أما الموحدون فيقولون إن هذه الأسباب قد سخرها الله تعالى والأفعال التي تقع في العالم تنسب إلى الأسباب، وتنسب إلى مسبب الأسباب سبحانه، كماقال:"وأرسلنا الرياح لواقح".

"...محل الشاهد أن الشيخ "ابن سينا" قد برهن بطريقة استدلالية مقنعة في "النمط العاشر"من الإشارات بالإستناد إلى القوانين الطبيعية على صدورغرائب الأمور من قبيل المعجزات والكرامات وخوارق العادات من الإنسان". (41)

وبالرجوع إلى "الإشارات" نجد قول ابن سينا:

1- "ولعلك قد بلغك من العارفين أخبار يكاد تأتي بقلب العادة فتبادر إلى التكذيب، وذلك مثل ما يقال إن عارفاً استسقى للناس فسقوا، أو استشفى لهم فشفوا أو دعا عليهم فخسف بهم وزلزلوا أو هلكوا بوجه آخر، ودعا لهم فصرف عنهم الوباء أو الموت"..." و السيل والطوفان، أو خشع لبعضهم سبع، أو لم ينفر عنهم طائر، أو مثل ذلك مما لا تؤخذ في طريق الممتنع الصريح، فتوقف ولا تعجل فإن لأمثال هذه أسباباً في أسرار الطبيعة، وربما يتأتى لي أن أقص بعضها عليك".(42)

وقد قص بعضها فبرهن على اكتفاء العارف مدة طويلة بدون طعام بطريقة طبية فلسفية، كما برهن على إمكانية تواصل الإنسان في اليقظة مع عوالم الغيب، فهو القادر أن يتواصل معها حال النوم، وأرجع ذلك إلى أسباب طبيعية، كما فعل بالنسبة للقدرة الخارقة للعادة التي تظهر آثارها في بعض الأفراد، وأرجع ذلك كله إلى "قوة النفس" بحيث تصبح قادرة في التصرف عما غاب عنها كما تتصرف في جوارحها وما اقترب منها، ويأتي في نصه التالي إضافة ومزيد إيضاح.

2- " تنبيه: إن الأمور الغريبة تنبعث في عالم الطبيعة من مباديء ثلاثة، أحدها الهيئة النفسانية المذكورة، وثانيها خواص الأجسام العنصرية، مثل جذب المغناطيس الحديد بقوة تخصه، وثالثها قوى سماوية بينها وبين أمزجة أجسام أرضية - مخصوصة بهيئات وضعية- أو بينها وبين قوى نفسية أرضية - مخصوصة بأحوال فلكية فعلية أو انفعالية - مناسبة تستتبع حدوث آثار غريبة.

" والسحر من قبيل القسم الأول، بل "كذا" المعجزات والكرامات والنيرنجات(43) من قبيل القسم الثاني، والطلسمات من قبيل القسم الثالث".(44)

ولابد من التوقف في ضوء هذه النماذج وشبهها(45) عند الحقائق التالية:

الأولى: أن الجهل الذي يحمل على رفض الغرائب واعتبارها منافية للعقل، هو والجهل الذي يرفض مثلاً إمكانية التحكم بالأجهزة الألكترونية من بُعد، ويعتبر ذلك ضرباً من الشعوذة، من وادٍ واحد.

الثانية: أن أبعاد عظمة الإنسان التي تتجلى في أبحاث هؤلاء الأجلاء، فوق أن تتمكن كل ادعاءات الماديين العريضة في الحديث عن الإنسان أن تبلغ منها أدنى السفح، فالنفس الإنسانية تمتلك من الطاقات ما يمكنها أن تجعل الموجودات بمنزلة البدن والجوارح!

الثالثة: أن المحور في ذلك كله هو التزكية، وهو ما يكشف لدى التنبه إلى أن المتكلمين فوق أن يتهموا في عقلانيتهم، عن حقيقة أن تشبيه التزكية بالمختبر، من باب تشبيه نور الله تعالى بالمصباح، لا يقصد منه إلا الإلفات إلى عظيم رحابة الآفاق التي تتيح التزكية التحليق في ذراها.

وينبغي التنبه جيداً إلى عدم تعميم ذلك إلى ما يشمل حالات المعصومين في التواصل مع الغيب، فهي حالات خاصة جداً بل شديدة الخصوصية - وإن كان ماتقدم عن آية الله الآملي صريحاً في التعميم، وعن ابن سينا محتملاً له - فليس الهدف من ذكر النماذج المتقدمة إلا الإستدلال على إمكانية تفسير ما نراه غريباً وفق الأسباب الطبيعية.

حول مقاربة النص

يتضافر في القصور عن التعامل مع النص، عاملان:

الأول: قصور الآلية المعتمدة في التعامل معه.

الثاني: عدم إدراك طبيعته، وهو ما يؤدي إلى عدم مراعاة اختصاصه.

وكل من هذين الخللين منهجي كما جاء في المقدمة.

وفي ما يلي وقفة مع كل منهما، مع تقديم ضوابط عامة لابد من مراعاتها للإنسجام مع طبيعة النص.

أما في العامل الأول فيكفي الإلفات إلى فرادة المنهج الإستنباطي، والإحالة إليه في مظانه في كتب الأصول، والقواعد الفقهية.

أضيف إلى هذا الإلفات التأكيد على أننا لانواجه مأزقاً ولا أزمةً منهجيين أوفكريين، بل نواجههما في حسن عرض ما عندنا، وهو يتوقف على حسن القراءة.

وسنجد أن علماءنا الأبرار قد أولوا المنهج عناية متقدمة جداً، يعصمنا الرجوع إليها والصدور منها والتأسيس عليها من ألوان التخبط التي نعاني منها لعدم وضوح المنطلقات.

وقد أدى انفصال الأمة عملياً عن المرجعية المعنية بالسهر على النص، إلى البحث عن الإرتواء الفكري والثقافي لدى الغير، انسياقاً مع وهم أن "التراث" لايقدم الحل لمشاكل البشرية المعاصرة، وقد بلغ هذا الوهم من القوة بحيث أن بعض الأوساط الحوزوية - هي عادة أكثر أوساط الإسلام الحركي - وقعت فريسة مغالطته.

وفي هذا السياق بالذات، من المفيد جداً قبل الحكم بتخلف المنهج المعتمد في الحوزات العلمية، التنبه إلى أمرين:

الأول: أن هذا الكلام يؤخذ عادة كدليل على اعتراف من يعنيهم الأمر بتخلف المنهج المعتمد في الوصول إلى مقاصد الشريعة، ولايفهم في إطار أنه دعوة إلى التغيير في المواد التعليمية، ومصب الإهتمام وتحديد الأولويات.

الثاني: أن الإعراض عن الكنوز المنهجية الفريدة، والإخفاق في عرض ما تعاملنا معه منها تَسبب في "الإحتقان المنهجي" الآخذ بالتعاظم، ونحن نحسب أننا نؤسس لمنهجية جديدة.

إن منهج الإستنباط المعتمد في الحوزات العلمية، منهج عقلي نقلي، لا يدانيه أي منهج آخر في مجاله، وقد تجاوزت إبداعاته حقل اختصاصه فأسهم بفاعلية في بلورة المنهج بشكل عام، كما قدم خدمات جلى للمعرفة البشرية.

يقول الشهيد الصدر:

" أن علم الاصول لم يقتصر إبداعه الذاتي على مجاله الأصيل أي مجال تحديد العناصر المشتركة في عملية الاستنباط بل كان له إبداع كبير في عدد من أهم مشاكل الفكر البشري، وذلك أن علم الاصول بلغ في العصر العلمي الثالث وفي المرحلة الأخيرة من هذا العصر بصورة خاصة قمة الدقة والعمق، ووعى بفهم وذكاء مشاكل الفلسفة وطرائقها في التفكير والاستدلال وبحثها متحرراً من التقاليد الفلسفية التي تقيد بها البحث الفلسفي منذ ثلاثة قرون، إذ كان يسير في خط مرسوم ولا يجسر على التفكير في الخروج عن القواعد العامة للتفكير الفلسفي، ويستشعر الهيبة للفلاسفة الكبار وللمسلمات الأساسية في الفلسفة بالدرجة التي تجعل هدفه الأقصى استيعاب أفكارهم والقدرة على الدفاع عنها ، وبينما كان البحث الفلسفي على هذه الصورة كان البحث الأصولي يخوض بذكاء وعمق في درس المشاكل الفلسفية متحرراً من سلطان الفلاسفة التقليديين وهيبتهم.

وعلى هذا الأساس تناول علم الأصول جملة من قضايا الفلسفة والمنطق التي تتصل بأهدافه، وأبدع فيها إبداعاً أصيلاً لا نجده في البحث الفلسفي التقليدي، ولهذا يمكننا القول بأن الفكر الذي أعطاه علم الأصول في المجالات التي درسها من الفلسفة والمنطق أكثر جدة من الفكر الذي قدمته فلسفة الفلاسفة المسلمين نفسهم في تلك المجالات.

" وفي ما يلي نذكر بعض الحقول التي أبدع فيها الفكر الاصولي:

1 - في مجال نظرية المعرفة، وهي النظرية التي تدرس قيمة المعرفة البشرية ومدى إمكان الإعتماد عليها، وتبحث عن المصادرالرئيسية لها، فقد امتد البحث الأصولي إلى مجال هذه النظرية وانعكس ذلك في الصراع الفكري الشديد بين الأخباريين والمجتهدين الذي كان ولا يزال يتمخض عن أفكار جديدة في هذا الحقل، وقد عرفنا سابقاً كيف أن التيار الحسي تسرب عن طريق هذا الصراع إلى الفكر العلمي عند فقهائنا، بينما لم يكن قد وجد في الفلسفة الأوروبية إلى ذلك الوقت.

2 - في مجال فلسفة اللغة فقد سبق الفكر الأصولي أحدث اتجاه عالمي في المنطق الصوري اليوم، وهو اتجاه المناطقة الرياضيين الذين يردون الرياضيات إلى المنطق والمنطق إلى اللغة، ويرون أن الواجب الرئيسي على الفيلسوف أن يحلل اللغة ويفلسفها بدلاً عن أن يحلل الوجود الخارجي ويفلسفه، فإن المفكرين الأصوليين قد سبقوا في عملية التحليل اللغوي، وليست بحوث المعنى الحرفي والهيئات في الأصول إلا دليلاً على هذا السبق. ومن الطريف أن يكتب اليوم " برتراند رسل " رائد ذلك الاتجاه الحديث في العالم المعاصر محاولاً التفرقة بين جملتين لغويتين في دراسته التحليلية للغة وهما : " مات قيصر " و " موت قيصر " أو " صدق موت قيصر " فلا ينتهي إلى نتيجة وإنما يعلق على مشكلة التمييز المنطقي بين الجملتين فيقول : " لست أدري كيف أعالج هذه المشكلة علاجاً مقبولاً "(46) . أقول : من الطريف أن يعجز باحث في قمة ذلك الاتجاه الحديث عن تحليل الفرق بين تلك الجملتين، بينما يكون علم الأصول قد سبق إلى دراسة هذا الفرق في دراساته الفلسفية التحليلية للغة ووضع له أكثر من تفسير .

3 - وكذا نجد لدى بعض المفكرين الاصوليين بذور نظرية الانماط المنطقية، فقد حاول المحقق الشيخ محمد كاظم الخراساني في الكفاية أن يميز بين الطلب الحقيقي والطلب الإنشائي بما يتفق مع الفكرة الرئيسية في تلك النظرية. وبهذا يكون الفكر الاصولي قد استطاع أن يسبق " برتراند رسل " صاحب تلك النظرية، بل استطاع بعد ذلك أكثر من هذا فقام بمناقشتها ودحضها وحل التناقضات التي بنى " رسل " نظريته على أساسها .

4 - ومن أهم المشاكل التي درستها الفلسفة القديمة وتناولتها البحوث الجديدة في التحليل الفلسفي للغة هي مشكلة الكلمات التي لا يبدو أنها تعبر عن شئ موجود، فماذا نقصد بقولنا مثلا: " الملازمة بين النار والحرارة " وهل هذه الملازمة موجودة إلى جانب وجود النار والحرارة أو معدومة؟ وإذا كانت موجودة فأين هي موجودة ؟ وإذا كانت معدومة ولا وجود لها، فكيف نتحدث عنها. وقد درس الفكر الأصولي هذه المشكلة متحرراً عن القيود الفلسفية التي كانت تحصر المسألة في نطاق الوجود والعدم، فأبدع فيها . وكل هذه الامثلة والنماذج نذكرها الآن لينفتح لها الطالب على سبيل الإجمال، وأما توضيحها وشرحها فنؤجله إلى الحلقات المقبلة إن شاء الله تعالى .(47)

ويتوقف إدراك عمق ما يرمي إليه الشهيد الصدر،على نظرة متأنية في كتابه النوعي الأسس المنطقية للإستقراء، لملاحظة كيف أن فكرة تبدو متواضعة يمكنها أن تشكل أساساً لكل أسس المنهج التجريبي، أو الإستقراء وفق مايعتقده المنهج الصوري.


أما في العامل الثاني، فيمكن - في باب رصد الأسباب التي تنتجه - تسجيل الآتي:

1- الضمور الحاد للإيمان بالغيب، ومن نتائجه ضمور البعد الروحي في الحواضر والأوساط الإسلامية عموماً، بالتناسب مع طبيعة الحكومات الجائرة، والذي تجسد في بعض تمظهراته باستبدال المنهج الإسلامي في التعليم القائم على "التزكية والتعليم" بالمنهج الهجين القائم على التعليم فقط.

وبديهي أن لأي نص جوَّه الذي يجب أن يعيشه المفسر بكل خصائصه.

ومن الواضح التلازم بين ذلك وبين الميل إلى التفسير المادي للنص، والتلازم كذلك بينه وبين ردات الفعل"الصوفية" التي تعزز النزعة المادية، فيؤسس ذلك لردات فعل أخرى.

2- الإنبهار بالكفروالإحساس بعقدة النقص تجاهه، مما أدى إلى تعزيز تغليب المادية في فهم النص الديني، رغم وضوح أن طبيعته ليست مادية، فهو وإن كان معنياً بعالم الشهادة، إلا أنه معني بفتح مدارك الإنسان على"الإيمان بالغيب" و "اليقين" به، لا باعتباره طارئاً، بل باعتباره الأصل والبدء والختام .

3- انتشارالمفاهيم الخاطئة في الأوساط الإسلامية، والتي تشكل مفاتيح للتلقي والتفكير خصوصاً مثل"أصالة الإنسان" و"الحرية" و "العقل" و"الواقعية" و"حقوق المرأة" بمعانيها السائدة، التي تستبطن المغالطة.

4- وقد أسهمت العوامل المتقدمة في نشوء عامل آخر، هو أن البعض من غير الإسلاميين بشكل خاص ينطلقون في مقاربة الفكر الديني، من منطلق: "إشهدوالي عند الأمير" فهم يتحدثون ليحظوا بالجائزة، ويشهد لهم العصر بالعقلانية والحداثة، ويتجاوز هذا العامل أقصى الإنبهار بالكفر ليصل إلى أقصى دركات انعدام الوزن، والإستلاب الثقافي.

ومن الضروري أن لا يفهم الوقوف عند هذه النقطة بالذات بمعزل عما تقدم من أن الخلل المنهجي يمكن أن يوقع في شراكه أياً كان - وما أبريء نفسي- إذا لم يستمسك بالعروة الوثقى في دقة البحث والتعمق فيه فليس الهدف من ذكرها التهجم بل الدقة في تشخيص الحالة في ما أحسب، والنفس البشرية بعيدة الغور كثيرة المسالك والمسارب يستهويها السائد وتحرص على حجز موقع فيه "وبموضوعية"!

إن الإنفتاح الثقافي ضرورة، ولكن الضرورة الأهم هي التمييز بدقة الباحث العريق بينه وبين الإستلاب الثقافي، أو ماهو مزيج عجيب منهما معاً.

وإن تقديم الفكر الإسلامي بما يضمن حسن العرض وسهولة التناول ولغة العصر في اللفظ والصياغة والقالب، ضرورة، ولكن الضرر كل الضرر في أن ينتقل الآخر الذي يكتب له من موقع المتلقي إلى موقع الإملاء، فيصادر دور المتكلم "الله تعالى والمعصوم" وعقل الكاتب.

لنحددْ ما عندنا أولاً، ثم نتحدث في الأسلوب، وكيف نحمل الآخرين على الإعجاب بنا أو بفكرنا، أما الجمع بينهما فهو العدول عن الضرورة إلى الضرر.

5- والعامل الأشد أهمية مما تقدم جميعاًأننا "نحسن" قراءة الغير، ونسيء قراءة ما لدينا، وربما تدخلت في تماهيات ذلك بعض أطياف العامل السابق، وهو يختلف عنه في أن "ثقافة" الغير تصل إلى حيث تصبح المكون الثقافي الذي نصدر منه في مقاربة النص وفي المنهجية، ولو أنا أجدنا قراءة ما كتبه العلماء المسلمون عبر القرون لوجدنا أنا نمتلك رؤية متقدمة جداً في جميع الحقول المعرفية التي أجمع الكتاب والمفكرون اليوم على محوريتها.

ولن أذهب بعيداً، فلو أخذنا فكر الإمام الخميني الفلسفي والعرفاني، والإجتماعي، والعلامة السيد الطباطبائي في تفسيرالميزان- الذي لم تعرف قيمته بعد - وغيره وهو كثير، والشهيدين الصدر ومطهري، لوجدنا مقاربات وافية جداً لجميع ما يحظى اليوم باهتمام الأوساط الفكرية والثقافية على مستوى العالم، من المنطق الصوري الأرسطوي، وإلى العولمة.

بل إن تفسير الميزان وحده كفيل إذا شكلت لجنة للعناية بتقديم أبحاثه بإحداث تحول فكري جذري.

تبقى الإشارة في الختام إلى جملة من الأسس لابد من مراعاتها في المنطلقات لمقاربة النص بصورة سليمة، وهي في ضوء ما تقدم كما يلي:

أولاً: يشكل النص المعصوم جسرالتواصل بين عالمي الغيب والشهادة، مؤكداً بوجوده ومضمونه أن الأول هو الأصل والمصدر، والثاني الفرع والظل.

ثانياً: يمثل وجود النص المعصوم في متناول الإنسان حقيقة بالغة التميز والفرادة، هي أن الغيب تدخل في عالم الشهادة بحجم مساحة النص المعصوم التي تمتد من البدء إلى الختام، إلى مابعد المعاد، وبحجم صلاحية النص التي ترقى إلى أن للغيب الكلمة الفصل في فلسفة الوجود، وخلق الإنسان،من حيث التكوين والمهمة والهدف، وكل فعل وترك، بما لاينافي الإختيار.

ثالثاً: ومن البديهي أن تغرب هذه الحقيقة بشدة وتستغلق كلما تمكن التسطيح في الفكر وتغلغل الإتجاه المادي بسببه حيث يصبح الغيب كله لدى الماديين حديث خرافة، فضلاً عن تدخله، فكيف بتفاصيل هذا التدخل التي تحد من الحرية المزعومة، وهي مع ذلك تحمل من "الغرائب" ما لا يخطر ببال من قبيل تجسم العمل، والصور الحقيقية، والثواب الكثير، والعذاب الشديد، وغير ذلك من الحقائق.

رابعاً: يبلغ تمكن السطحية في التفكير وتغلغل الإتجاه المادي حد الطغيان، فيتسرب إلى خارج البيئة المعلنة بالمادية، لتغمر كل منخفضات البيئة المعلنة بالإيمان بالغيب، فإذا بها غارقة في سيل الإتجاه المادي، منساقة مع خصائصه.

خامساً: يشكل اعتماد الإستغراب دليلاً و"منهج تفكير" المسرب الذي يتمكن الإتجاه المادي بواسطته من إغراق ساحة العقل في الفرد والجماعة والأمة وتحويلها إلى مستنقع بالغ الخطورة على سلامة النفس والبيئة، وبالتالي على مشروع "الإنسان" بمجمله.

وينبغي التنبه بامتياز إلى انتفاء الفرق الجوهري بين أدنى مراتب اعتماد الإستغراب دليلاً وبين أعلاها، وانحصار الفرق بتفاوت الدرجة، فمن يستغرب كرامة لولي منطلقاً من إنكار الكرامات الذي يستند فيه بدوره إلى اعتماد الإستغراب دليلاً، ليس مؤهلاً - إذا تنبه ولم يتدارك- لليقين بالنبوة التي هي من الكرامات الذروة، ومن تدخل الغيب في عالم الشهادة الصميم.

سادساً: يمثل النص المعصوم خاتمة الرسالات الإلهية إلى البشرية، ويقتضي ذلك أن يتضمن كل ثوابت الرسالات السابقة، ويؤسس عليها لتقديم الثوابت التي تضمن إيصال البشرية إلى الهدف المنشود.

سابعاً: ليست الظرفية والتاريخانية إلا مجرد توقيت لصدور النص المعصوم المصمم أصلاً لأداء مهمة هي أكبر من كل المراحل والأجيال.

ثامناً: لئن كان الأصل في أي نص مضى زمنه وتقادم عليه العهد، البحث فيه عن الثابت - إن كان- فإن طبيعة النص المعصوم على العكس من ذلك تماماً لأنه نص "الثابت" يبحث فيه عن المتحول إن كان.

تاسعاً: إن أبسط البديهيات التي تحكم تلقي الجاهل من العالم، وجوب الإصغاء جيداً والتفكير بما يقول، فإن فهمه فذاك، وإلا فلا يحق له إنكاره ورفضه، بل يعترف بأنه فوق إدراكه، وينتظر نضج معرفته إن أمكن، أو يرده إلى أهله، والنص المعصوم منجم أسرار الحقيقة، يجب التعامل معه على هذا الأساس.

عاشراً: ليس التقدم العلمي في مختلف الحقول المعرفية نقيضاً للنص المعصوم، فإن البحث العلمي عندما يحالفه التوفيق في الوصول إلى الحقيقة يلتقي بالنص ويكشف بعض أسراره، أو بعض ملامحها، وعندما يخفق يكون قد قطع شوطاً على طريق الإلتقاء به.
وليست الدعوة إلى التفكير والتدبر والإعتبار والنظر إلى ما حولنا والآفاق، والحث على اعتماد الدليل والبرهان السلطان، والإنطلاق في ذلك كله من العقل، إلا دعوة إلى بذل أقصى الجهد في البحث العلمي على اختلاف مساراته، فالواثق من نفسه لا تزيده كثرة البحث في منطلقاته ومواقفه إلا بهجة باقتراب انكشاف الحقيقة.

حادي عشر: لمقاربة النص المعصوم مستويان: عام وتخصصي.

في الأول يمكن لكل شخص أن يخرج بتصور عما يريد النص تأديته، خصوصاً في مجال العقيدة، وثوابت السلوك والأخلاق، فإن الحد الأدنى المطلوب لاعتقاد الإنسان بالتوحيد، والإلتزام بمكارم الأخلاق في متناول كل الناس، وإن تعددت مراتب التلقي بتعدد المستويات.

وفي الثاني يختلف الأمرجذرياً، فيتوقف التلقي التخصصي على أحد أمرين:

الأول: التزكية، وهي تعني الصدق في التعامل مع الحقيقة، وردم الهوة بين النظرية والتطبيق، الأمر الذي يجعل المضي قدماً في دروب الحقيقة متاحاً.

الثاني: التعامل مع النص المعصوم على قاعدة مراعاة اختصاصه، كما يتعامل مع أي نص تخصصي، ومحاولة دراسته في ضوء أسسه ومنطلقاته، ولا يتأتى ذلك إلا عندما تؤخذ نتائج أبحاث العلماء بالله الذين اعتمدوا منهج التزكية والإستدلال، مقياساً للبحث، أما أن يدرس نص الغيب والشهادة بمقاييس عالم الشهادة وحده، فهو مناف للحظ تخصصيته، وهو بعدٌ أشبه مايكون بدراسة نص الطبيب مثلاً مع الموقف السلبي المسبق من أصل "الصحة العامة" واعتبار ذلك ضرباً من التجديف.

وقد تقدم في مطاوي الحديث، خصوصاً في الفصل الثالث، وتحت عنوان "الإستقلال الثقافي"في هذا الفصل مزيد إيضاح.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
حسين كَوْراني
بيروت- لبنان

الجمعة 21 ج2 1423هجرية
30 آب 2002م


هوامش

(1) نظر:الدكتور محمد جواد لاريجاني:التدين والحداثة،ص209-210 بتصرف(ط 1،الغدير،بيروت،لبنان 1421هق2001م)
(2) - روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وآله حول النبي خالد بن سنان،أنظر الكليني، الكافي ج8/342 والصدوق، كمال الدين وتمام النعمة ص659 وفيه"خالد بن سنان العبسي نبي لا يدفعه دافع ولا ينكره منكر لتواطئ الاخبار بذلك عن الخاص والعام وشهرته عندهم ، وأن ابنته أدركت رسول الله صلى الله عليه وآله ودخلت عليه فقال النبي : هذه ابنة نبي ضيعه قومه خالد بن سنان العبسي" وانظر ابن سعد، الطبقات الكبرى ج1/269 وابن الأثير، أسد الغابة ج2/84،وفيهما : "نبي ضيعه قومه".
(3) الشيخ الصدوق،الخصال، ص142" ثلاثة يشكون إلى الله عزوجل : مسجد خراب لا يصلي فيه أهله ، وعالم بين جهال ، ومصحف معلق قد وقع عليه غبار ولا يقرأ فيه .
(4) الإمام الخميني،صحيفه نور،ج17/ 430من خطبة في حسينية جماران بمناسبة المبعث النبوي الشريف.
(5) حول قوله تعالى: " تبياناً لكل شيء" و" ما فرطنافي الكتاب من شيء" رأيان: الأول – وهو السائد- أن العموم يشمل كل مايرتبط بالشريعة بلحاظ أنها موضوع الكتاب.
والثاني:أنه لا دليل على هذا التقييد، خاصة مع وجود الروايات العديدة التي تتحدث عن "علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة".
وعن سعة"علم الكتاب" في مقابل "علم من الكتاب" وقد صرح باعتماد هذا الرأي أو الميل إليه، الفيض الكاشاني ، تفسير الصافي ج1/57 والقرطبي في تفسير الآية، والسيد الطباطبائي، الذي قال في معرض الحديث عن أسماء الله الحسنى ج6/254: ومن هنا يظهر أن الواحد منا لو رزق علم الأسماء وعلم الروابط التى بينها وبين الأشياء وما تقضيه أسماؤه تعالى مفردة ومؤلفة علم النظام الكونى بما جرى وبما يجرى عليه (من) قوانين كلية منطبقة على جزئياتها واحداً بعد واحد،.كما قال في تفسير قوله تعالى: " تبياناً لكل شيء،ج12/324: في الروايات ما يدل على أان القرآن فيه علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، ولو صحت الروايات لكان من اللازم أن يكون المراد بالتبيان الأعم مما يكون من طريق الدلالة اللفظية، فلعل هناك اشارات من غير طريق الدلالة اللفظية تكشف عن أ سرار وخبايا لا سبيل للفهم المتعارف إليها.
وقد أورد السيوطي، الدر المنثورج4/127 من طريق ابن مسعود في وصف القرآن الكريم: " فيه علم الأولين والآخرين" وقد أوردها الشوكاني، فتح القديرج3/189، كماروي عنه صلى الله عليه وآله :" كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم ".." ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه". أخرجه الترمذي" نقلاًعن الكردي، تاريخ القرآن الكريم ص12. والروايات عن أهل البيت عليهم السلام في استخراج علم كل شيء من القرآن لايمكن حمل الآية معها على ماينافي الإطلاق.
أنظرمثلاً: المحاسن،البرقي ج 1/267 وفيه عن الإمام الصادق عليه السلام:ما من أمر يختلف فيه إثنان إلا وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال . وانظر أيضاً: الطبري، دلائل الإمامة ص 235 والمجلسي، بحارالأنوارج62/64، و 194..والمجاميع الروائية حافلة بالشواهد في أبواب مختلفة كما هو واضح.

(6) المجلسي، البحارج52\336.
(7) الكليني، الكافي 1\25.
(8) إبن عربي، الفتوحات المكية/327
(9) الشيخ المفيد، الإرشاد/360.
(10) إبن شهراشوب، مقاتل الطالبيين43
(11) كفاية الأثر213
(12) كفايةالأثر213.
(13) مصباح الزائر312) و(البحار102/83).
(14) الصدوق، كمال الدين445.
(15) المجلسي، - البحار52\390
(16) ملاحم ابن طاووس\145
(17) المجلسي، البحار52/194
(18) النعماني،الغيبة،237
(19) – نفس المصدر
(20) المحجة/174
(21) كمال الدين/2/417
(22) إثبات الهداة/494/495. وليلاحظ أن حميع النصوص المتقدمة منقولة عن معجم الإمام المهدي عليه صلوا ت الرحمن
(23) بناء على مايحدده فقه أهل البيت عليهم السلام.
(24) المجلسي، بحار الأنوارج14/290 وج85/132 والبحراني، السيد هاشم، ينابيع المعاجزص86
(25) النصوص كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وعن أهل البيت عليهم السلام، حول طلب العلم ولو في الصين وحول أن الحكمة ضالة المؤمن، وفي بعضها أنى كانت، أو: " ولو من أفواه المنافقين". ( علي بن محمد الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ ص22 ) . ومااشتهر "ولو من أفواه المجانين" ذكر المجلسي(البحار ج79/84) أنه من كلام الحكماء. وقد أورد الشيخ الطوسي في أماليه ص625 عن الإمام علي عليه السلام:".. والحكمة ضالة المؤمن، فاطلبوها ولو عند المشرك، تكونوا أحق بها وأهلها".
كما أورد ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة قوله عليه السلام: " خذ الحكمة أنى أتتك، فإن الكلمة من الحكمة تكون في صدر المنافق فتلجلج في صدره حتى تسكن إلى صاحبها" ورواه الحلواني في نزهة الناظروتنبيه الخاطرص 42 باختلاف " خذالحكمة أنى أتتك، فان الحكمة لتكون في صدر المنافق فتلجلج في صدره حتى تخرج [ فتسكن ] إلى صواحباتها في صدر المؤمن.
"وما أورده في شرح النهج من شرح ابن قتيبة يعزز الثاني فليلاحظ.

(26) الشيرازي"صدر المتألهين"كسر أصنام الجاهلية في الرد على الصوفية، نقلاً عن:القمي، سفينة البحار، مادة"صوَف"ج2/60 بتصرف يسير(ط.ق، دار المرتضى، بيروت، توزيع مؤسسة الوفاء).
(27) صحيفه نور ج20/494.
(28) المصدر ج10/459.
(29) يراجع هنري كوربان،عن الإسلام في إيران ترجمة وتحقيق السيد نواف الموسوي.
(30) الإمام جعفر الصادق عليه السلام /أصول الكافي ج1 /44.
(31) القاضي سعيد القمي،أنظر :هنري كوربان(م.م) ص/155).
(32) الأسفار ج1ط1ص284 )
(33) صدر المتألهين، الأسفار ج 4ط1 ص75. وقد ورد قبله قوله:" فلنذكر أدلة سمعية لهذا المطلب حتى يعلم أن الشرع والعقل متطابقان في هذه المسألة كما في سائر الحكميات".
(34) آية الله الشيخ حسن زاده آملي، قرآن وعرفان وبرهان (م.م،فارسي)ص34-36
(35) صدر المتألهين- مقدمة الأسفار الأربعة ص-11
(36) نفس المصدر ص3
(37) المصدر ص 3-4
(38) راجع الفصل الثاني، النص المعصوم، عوالم النور والظلمات.
(39) إبن سينا،الإشارات(مع شرحه)ج3/418، بتصرف يسير (قرص ممغنط (سلسلة برامج نور، قم).
(40) آية الله الشيخ حسن زاده آملي، قرآن وعرفان وبرهان. فارسي(م.م) ص91، نقلاً عن الأسفار الأربعة ج1 ط1 ص189.
(41) المصدر،ص91-94، بتصرف يسير.
(42) إبن سينا،الإشارات(مع شرحه)(م.م) ج3/413.
(43) "النيرنجات جمع النيرنج وهو أخذ كالسحر وليس به، معرب "نيرنك" بالفارسية ( بمعنى الخداع ) "معجم المفردات الغريبة الملحق ب"المكاسب"للشيخ الأنصاري، ج 2/316 ( ط: لجنة التحقيق،1417، مؤسسة الهادي، قم ).
(44) المصدر/417.
(45) أورد آية الله الآملي بعضها - غير ماذكر أعلا ه- عن تمهيد القواعد لابن تركه"صائن الدين" وذكر أن ممن تصدوا للبرهنة على الحقائق العرفانية جده "أبوحامد محمد الأصفهاني" المعروف ب"تركه" في "قواعد التوحيد، وابن الفناري فاضي القضاة محمد بن حمزة" في مصباح الأنس وهو شرح رسالة صدر الدين القونوي "مفتاح غيب الجمع والوجود" وأخيراً صدر المتألهين في الأسفار، وختم بعبارة له نقلا ًعن آخر الفصل الحادي عشر، الموقف الثالث(الأسفار ج4ط1ص130) حيث يقول: ونحن قد جعلنا مكاشفاتهم الذوقية مطابقة للقوانين البرهانية".
(46) أصول الرياضيات ج 1 ص 96 ترجمة الدكتور محمد موسى أحمد والدكتور أحمد فؤاد الأهواني .
(47) الشهيد الصدر(المرجع السيد محمد باقر) المعالم الجديدة في الأصول، ص 96-98.