في المنطلقات والأهداف.. موقع السرائر

 

في المنطلقات والأهداف

يكشف السجال الدائر حول مشروع مقاطعة البضائع الأمريكية، رغم تعاظم المقاطعة الآن، أن كل فريق يفترض هدفاً معيناً، وينطلق من منطلق محدد، ويناقش على أساس ذلك، الأمر الذي يحتم البحث أولاً في المنطلقات والأهداف، لأن الإختلاف فيها ينعكس سلباً على هذا المشروع المركزي.

أما في المنطلقات: فلا أظن أن ثمة من يناقش في أن كل العناصر التي تؤكد أن استمرار الكيان الصهيوني وجرائمه - و هي مسؤولية أمريكية بالدرجة الأولى- تشكل المنطلقات الطبيعية لمقاطعة أمريكا اقتصادياً.

يمكن استثناء البعض الذين يرون في أمريكا قدراً محبباً ومقياساً لسلامة الموقف، وهم الذين لا ينبغي أبداً أن يؤبه بهم، إلا بمقدار التحذير من تماهي طروحات بعض المخلصين مع طروحاتهم، بلحاظ أنهم يتبوؤون عادة مواقع حساسة لأنهم من البيئة التي يختار منها السيد الأمريكي بطانته - حكاماً ومسؤولين أساسيين- في العالمين العربي والإسلامي وغيرهما.

وأما في الأهداف: فيفترض البعض الهدف إنزال خسارة فادحة بالإقتصاد الأمريكي إلى حد الشلل، فينبري لإثبات العجز عن ذلك بالحديث عن الشركات الأمريكية العملاقة (1) وعن موازنة وزارة الدفاع الأمريكية التي تجاوزت الثلاثمائة وخمسين مليار دولاراً وشبه ذلك، ليخلص إلى أن مجموع واردات الدول العربية أو الإسلامية، لاتشكل رقماً يؤبه به أمام هذه الأرقام الفلكية.

ويفترض البعض أن الهدف شل اقتصاد الكيان الصهيوني من خلال منع الدعم الأمريكي له.

كما يفترض البعض الآخر الهدف كسر إرادة جميع الدول الداعمة للكيان الصهيوني، عبر مقاطعة بضائعها فقط، فيرى في ذلك ضرباً من العبث، وقفزاً فوق مظاهر العجز الداخلي، يمليه اليأس والإحباط، فيرثي لحال من يحاول المستحيل! ويبحث عن العلاج حيث لا ينبغي.

هذه الإفتراضات وشبهها يؤكد الحاجة إلى توحيد الرؤية حول المنطلقات والأهداف إنقاذاً لمشروع المقاطعة من التفسيرات الخاطئة.

ولمقاربة الموضوع بمنهجية، يتحتم استعراض مختلف وجهات النظر ،كما ينبغي الحديث عن الإيجابيات والسلبيات، مع استحضار العقبات التي قد تحدُّ من نجاح مشروع المقاطعة، أو تتسبب بفشله.

ويمكن تلخيص وجهات النظر في موضوع المقاطعة بثلاث:

الأولى: ضرورة سحبه من التداول، للأضرار الناجمة عنه.
الثانية: أنه مشروع شديد الأهمية، شرط البدء بتأمين البدائل أولا، وإطلاق المشروع بالتناسب مع التقدم المحرز في هذه البدائل.
الثالثة: أنه المشروع الوحيد الذي يمكن الأمة كلها، من الانخراط في الممانعة، فلا يجوز التسويف فيه، وستهتدي الأمة إلى البدائل في ضوء الحاجة.

و يتم التركيز عادة في الاستدلال على وجهة النظر الأولى على النقاط التالية:

1- أن شبكة العلاقات الاقتصادية للشعوب العربية والإسلامية، متداخلة بالاقتصاد الأمريكي، إلى حد أن المقاطعة ترتد سلبا علينا، دون أن تترك على أمريكا أثرا يذكر.

2- إن تأمين البدائل هو المدخل الطبيعي إلى طرح مشروع المقاطعة، وبدون ذلك فهو محكوم بالفشل قطعا.

3- إن الحديث عن مقاطعة البضائع الأمريكية في عصر العولمة الأمريكية، حيث تُحكم أمريكا قبضتها على أربع رياح الأرض، هو -بزعم هؤلاء- ضربٌ من الغباء، أو محاولة المستحيل، لأنه أشبه ما يكون بالحديث عن مقاطعة الماء والهواء، فلو أخذنا موضوع القمح وحده، لاكتشفنا أن علينا طي صفحة التفكير بالمقاطعة الاقتصادية، نهائيا.

4- إن مشكلة شعوبنا هي مع الإدارة الأمريكية، ومن شأن الدعوة إلى مقاطعة البضائع الأمريكية، تعبئة الشعب الأمريكي ضدنا وضد قضايانا، الأمر الذي يطلق يد الإدارة الأمريكية في سياستها العدوانية المنحازة، أكثر مما هو حاصل فعلاً، لذلك يتعين التوجه إلى الشعب الأمريكي بإيجابية، بدلاً من اعتماد الأساليب السلبية المتشنجة.

هذه هي خلاصة الأدلة التي تساق في هذا المجال عادة، فبماذا يمكن الإجابة عليها؟

ينبغي التوضيح أولا أنه ليس بوسع أحد إنكار عظيم تداخل المصالح الاقتصادية لشعوبنا مع الاقتصاد الأمريكي، ولا أهمية تأمين البدائل، في إنجاح مبدأ المقاطعة وتثبيته، ولا خطير تغلغل الاقتصاد الأمريكي في نسيج الحياة على هذا الكوكب، إلا أن الفرق الجوهري بين رؤيتي المعارضين للمقاطعة والمتبنين لها يتركز في نقطتين :

الأولى:حجم كل من هذه النقاط الثلاث التي تناولتها الأدلة الثلاث المذكورة (ويأتي الحديث عن الرابع) فهي من وجهة نظر المتبنين للمقاطعة، لا تخلو من المبالغة والتهويل.

الثانية: إمكانية المواجهة الاقتصادية، مع أمريكا، وعدمها..

الجميع متفقون إذاً على أننا أمام موضوع شديد الخصوصية، إلا أن أنصار المقاطعة ينطلقون من هذا التوصيف للإصرار على المضي قدماً، في حين ينقسم أصحاب وجهة النظر الأخرى إلى فريقين:الأول منهما يرى أن المدخل السليم إلى المقاطعة هو تأمين البدائل، في ما يرى الثاني عبثية موضوع المقاطعة واستحالته.

وينبغي التوضيح ثانيا، أن مخاطبة الشعب الأمريكي بإيجابية، أمر مفروغ منه، لا يدخل في دائرة الاختلاف، إلا أن هذا شيء، والمراهنة عليه، بمعنى أن نأمل حل مشاكلنا عبر الخطاب الحضاري المنفتح للشعب الأمريكي، شيء آخر، لا أظن أن عاقلاً يتبناه، خصوصاً بعد ما ركمته التجارب، وأغنت معه عن أي محاولة استدلال.

نعم يمكن المراهنة، على فعل مدروس متصاعد غاضب، يشكل الخطاب المنفتح القانوني والحضاري رافعته، ليتساءل الشعب الأمريكي ويسائل حكامه الذين تتسبب سياساتهم، بهذا الكم الهائل من المجازر، التي تبرر للشعوب المستهدفة بل وتفرض عليها أن تعبر عن غضبها بالوسيلة المتاحة.

في ضوء ما تقدم يتم استعراض الأدلة التي تنطلق منها وجهة النظر المتبنيةُ بقوة لفرادة مشروع مقاطعة البضائع الأمريكية.

الأول: إن المسؤولية في جميع ما تعاني شعوبنا من ظلم وعدوان، خصوصاً في ما يتعلق بالأخطار الناجمة عن وجود الكيان الصهيوني، تقع على عاتق أمريكا.

الثاني: إن الاقتصاد الأمريكي هو الذي يقدم كل أنواع الدعم خصوصاً المالي والتقني والعسكري، للعدو الصهيوني.

الثالث: تشكل القوة الاقتصادية لأمريكا العصب بالنسبة لقوتها العسكرية والسياسية، حيث تتمازج هذه العناصر الثلاث فتشكل لوحة الاقتدار الأمريكي، ولا يصيب من أمريكا مقتلاً مثل الإستهداف الإقتصادي، مما يجعل تحييدها اقتصادياً، يرقى إلى مستوى الخطأ الإستراتيجي الكارثة، لأنه يفقد مواجهتها السياسية، والعسكرية، أقوى ركائزها، حيث إن موقع الإقتصاد من القوتين السياسية والعسكرية، موقع خطوط الإمداد من الجبهة.

وبناء عليه فإن العبثية، هي في ترك خطوط الإمداد آمنة مطمئنة.

وكما أن مجرد تهديد إمداد العدو، يربكه، فإن مجرد ارتفاع وتيرة الحديث عن المقاطعة الإقتصادية، يربك أمريكا، فكيف إذا اقترن ذلك بالإضرار الحقيقي ولو جزئياً.

الرابع: طالما نظّر الكثيرون منا للعجز عن مواجهة أمريكا سياسياً وعسكرياً ولو من خلال مواجهة ربيبتها (إسرائيل ).

وهل الدخول في (التسوية) إلا ثمرة هذا التنظير؟ ولاشك أن قدرة أمريكا و (إسرائيل) العسكرية مذهلة، لكنها ليست قدراً، وقد أثبتت التجربة، إمكانية منازلتها وإحراز النصر، بالمولوتوف، والعبوة البدائية، وصولاً إلى ما لا يكاد يذكر في عداد الأسلحة وهو الكاتيوشا.

وإذا استطعنا أن ننتزع بسلاح مقاطعة البضائع الأمريكية نصراً على غرار النصر المؤزّر الذي انتزعته المقاومة الإسلامية بكل جدارة، فإن ذلك، إنجاز نوعي وتاريخي في باب المواجهة الاقتصادية لأمريكا.

إن المقصود إذاً هو مواجهة اقتصادية متواضعة، على غرار الإنطلاقة المتواضعة للمواجهة العسكرية، التي كانت ترمى بالجنون، وصولاً إلى إحراز النصر في جولة، ليشكل ذلك للأمة الأمثولة والنموذج..

إن الحديث عن استحالة المواجهة الاقتصادية، ينبع من نفس القناعة التي تنطلق من ضرورة تحقيق التوازن العسكري مع العدو كشرط أساس لخوض الحرب معه، وهو مبدأ نظري سليم، و"حُلُم" جميل، وهو نفسه الذي أضاف إلى الأراضي التي احتلت عام 48 أضعافها، ولو اعتمد هذا (المنطق) في لبنان لكان اليوم، ضمن الأراضي المحتلة، التي تزدحم فيها المستوطنات.

الخامس: تقتضي حساسية مشروع المقاطعة، أن يتم العمل له بروية وحكمة، وحيث إن المقصود هو أن يذوق العدو مرارة عدوانه، فليس من الروية والحكمة في شيء، أن ينفذ هذا المشروع بالطريقة التي تجعل الإضرار بالنفس أشد منه بالعدو.

لابد أن تلحظ مصالح شعوبنا المتداخلة مع مصالح العدو، وبطريق أولى المصالح القائمة به والتي هي جزء منه،  على أن يكون لحاظ ذلك، خطوة مرحلية في هذا المجال الخاص أو ذاك على طريق المقاطعة، لا ثغرة في مشروعها.

السادس: ولا يناقش أحد في الأهمية القصوى للبدائل، فهي وحدها التي تصلب عود المقاطعة، وتنقلها إلى حالة مستقرة ننعم بآثارها، إلا أن النقاش حول: أيهما أولاً ؟ المقاطعة أم البدائل؟

والحقيقة أن تعليق المقاطعة على البدائل، إلغاء لهما معاً، حيث قد ثبت بالتجربة، أننا منذ النكسة عام 67 ازددنا ارتهاناً وتبعية لعجلة الاقتصاد الأمريكي، تلاشت فينا الروح الوطنية، وصار الإنتاج الوطني آخر اهتماماتنا.

إن نمو حس المقاطعة، هو المدخل الطبيعي لتحفيز الروح الوطنية، لتعم بلادنا موجة الإقبال على منتجاتنا الوطنية فتشكل بدورها الأساس لمعادلة جديدة في قانون العرض والطلب. آنذاك فقط يمكننا أن نشهد نقلة نوعية في البدائل، فالحاجة أم الاختراع.

وفي ماعدا ذلك يظل الحديث عن البدائل عبثاً ولغواً.

عندما نطلق مشروع المقاطعة في المدى العملي، ستنشأ حاجات..وسيبدأ العمل تلقائياً على تلبيتها. هذا هو السبيل الوحيد لتشجيع قدراتنا الذاتية التي أسهمنا جميعاً في ما يعيشه الكثير منها من إحباط.


هوامش

1- (أون لاين ) مثلاً، واندماجها مع (تايم وارنر) ليبلغ مجموع إيراد الشركتين34  مليار دولار سنوياً