بين الجدوى و الإدمان... موقع السرائر

 

بين الجدوى و الإدمان

ينقسم الناس في بلادنا (في مشروع المقاطعة) إلى متحمسين للمقاطعة وهم الأكثرية، وإلى أقلية من المشككين في جدواها أوالمعارضين، وفي حين يجاهر المشككون بآرائهم، فإن من النادرأن يجاهر معارض برأيه، خصوصاً عندما تكون موجة المقاطعة في حالة مد وتعاظم.

ولأن المقاطعة تتوجه تلقائياً نحو البضائع الأكثر انتشاراً، فإن المقاطع يواجه صعوبة في تغيير العادة تشتد كلما كانت البضاعة أشد التصاقاً به، فإذا وصل الحديث إلى البضاعة التي أدمنها، وأصبحت تشكل جزءاً من استقراره النفسي والجسدي، بدأت المعاناة.

يقاطع وهو لا يعرف هل ينجح في الإمتحان أم يرسب؟

يشده الجو العام والحديث المنطقي عن أن جرائم "إسرائيل" هي جرائم أمريكا، إلى المحاولة وإلى بعض الإصرار عليها.

وفي هذا الجو - وبعد مرور أيام- تتصاعد نغمة الحديث عن "جدوى المقاطعة" فيجد فيها المترنح تحت أسر العادة الذي يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، المخرج "المنطقي" للعودة إلى أحضان العم سام لينفث دخان المارلبورو بشغف ثوري، ويستمتع بالبيبسي التي حرم منها لبعض الوقت، ظناً منه بأن ذلك يجدي.

أما وقد ثبت  عنده "بالدليل القاطع!" أن المقاطعة "عديمة الجدوى" فما عليه إلا أن ينتقل إلى خندق ثوري آخر!.

والأسئلة هنا كما يلي:

1-هل اعتمد أحد في عدم مقاطعته للبضائع الأمريكية، على دراسة للجدوى؟. م أنه مجرد تشكيك في الجدوى، ليس إلا؟.

2- وهل تراجع أحد عن المقاطعة بعد أن تحمس لها، لأنه اقتنع بعدم الجدوى حقيقة بناء لمعطيات وجيهة؟ أم أنه قد ضعفت عزيمته، بناء للأقاويل؟

3- وهل نحن بحاجة في الأصل إلى البحث عن جدوى مقاطعة البضائع الأمريكية، رغم ضرورة البحث فيها كما سيأتي.

ما أود التأكيد عليه بوضوح هو أن عداء أمريكا السافر لأمتنا يجعل مقاطعة البضائع الأمريكية أقل الواحبات، وأضعف الإيمان، حيث بلغ العدوان ضدنا أقصى حدود التصور، بحيث أصبح مجرد السؤال عن جدوى المقاطعة مستغرباً.

ومع ذلك فإن من المفيد جداً البحث في جدوى المقاطعة.

وفي ما بلي، إجابة على سؤال: لماذا نقاطع؟ و بلحاظ المستويين المذكورين.

الأول: أن المقاطعة فوق أن تخضع للجدوى، لأنها الملاذ العملي الأخير.
الثاني: البحث في الجدوى، لإثبات فرادتها النوعية.

جدوى المقاطعة..
يجب أن تتضافر الجهود لبلورة أن الطوق الأمريكي كلما استحكم، كلما وجب أن يكون الإصرار على كسره أشد، ولا نقطة ضعف في الفرعون الأمريكي تصيب منه مقتلاً كالمقاومة الإقتصادية.

وبالتالي لاجدوى يمكنها أن تصل إلى جدوى مقاطعة البضائع الأمريكية.

وليس منطقياً أبداً حصر الجدوى بالنتائج الإقتصادية، فهي أبعدمن ذلك بكثير، ولا يشكل البعد الإقتصادي على أهميته إلا المناخ الحاضن والرافعة ؟

هذا ما تمس الحاجة إلى الوقوف عنده، لنكتشف كم يذهب في الخطإ عريضاً من يتوهم أن جدوى المقاومة الإقتصادية تنحصربالبعد الإقتصادي فحسب.

إن ذلك أشبه ما يكون بزعم أن الذي حقق الإنتصار التاريخي على العدو الصهيوني في لبنان، هو محض السلاح الذي توفر للمقاومة الإسلامية، دون إدخال العوامل التي تفاعلت - على الجبهتين - جراء استخدامٍ نوعيٍ لهذا السلاح.

هل مجرد توفر كميات من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة ومنها الكاتيوشا، مع أطنان المتفجرات، هو الذي حقق النصر؟

هذا ماكان يفكر به المعارضون آنذاك للمقاومة - وما أكثرهم - وكانوا يقايسون بين ذلك وبين الترسانة العسكرية الصهيونية، واحتياطيها المتمثل بالترسانة العسكرية الأمريكية، فيرون "بموضوعية!" أن العين لاتقاوم المخرز.

لم يدخلوا في حسابهم العوامل الأبعد أثراً، والأقوى على الحسم التي لم تشكل العمليات العسكرية على أهميتها إلا محرضاً لها لتفجير خزين لايمكن للجبروت الصهيوني أمامه إلا أن ينهار.

تتماهى في المقاومة الإقتصادية لأمريكا - كما هو الحال في المقاومة العسكرية - الأبعاد السياسية، والأمنية والعسكرية، والثقافية، والتربوية، والنفسية، لتشكل مع البعد الإقتصادي لوحة الإقتدار الشعبي، بأجلى صورها.

إن مجرد أن يمنى الطاغية بخسارة مهما كانت، يخدش هيبته، ومن شأن توالي ذلك اختلال صورته في النفوس، وهو بدوره السبب في تحفيز المرارات التي تجرعتها الشعوب منه للتعبير عن نفسها.

ويشهد تاريخ الطغاة والمتجبرين، كيف كانت شرارة الثورة ضدهم تبدأ أحياناً بكلمة، لاتقوى على إسقاط الحاجز النفسي أو كسره، وإنما تؤسس لذلك، عبر تداعيات وتراكمات، وتتصاعد موجة المواجهة إلى أن يسقط الحاجز نهائياً وتجهر الجماهير بحقيقة موقفها.

إن صرخة واحدة في وجه اللص المتسلل المدجج بالسلاح، تجعله يلوذ بالفرار، وكما كانت العبوة صرخة في وجه اللص المحتل، ولم يتح للمقاومة أن توجه إليه صليات الكاتيوشا - وهو سلاح متواضع - إلا حين كاد يتوالى عن الأنظار، فإن مقاطعة البضائع الأمريكية في أدنى أبعادها صرخة في وجه اللص الأمريكي الأكبر.

وكما تشكل الصرخة في ظلام الليل الدامس في وجه اللص أو حتى من وراء ظهره، نذيراً بموجة من العوامل تتفاعل جميعاً فتحقق الهدف، حيث يجد اللص نفسه فجأة في مأزق، لقد تبدلت الغفلة - التي كانت ستار تسلله إلى يقظة- والأمن الذي كان يظن أنه ينعم به، إلى رعب ترتعد منه الفرائص، وتبدل الهدف الذي كان يتوجه إليه للنيل منه، من هدف سهل المنال مستباح، إلى هدف تحميه اليقظة وكل إمكانات المحيط، دونه خرط القتاد، فلا يجد مناصاً من الإنكفاء، فقد سلب زمام المبادرة وتحول سلاحه إلى عبء، إذا استعمله حدد موقعه وأعان على الإجهاز عليه.

كذلك هي الصرخة التي يمثلها مشروع المقاطعة في وجه أمريكا في ليل الأمة البهيم.

إن التشكيك بجدوى مقاطعة البضائع الأمريكية يرقى إلى مستوى إلحاق أفدح الأضرار بالقضايا المصيرية، جراء عدم الدقة عند أصحاب النوايا السليمة - وهم أكثر المشككين - أو عبر استغلال "العادة" التي يصعب التفريق فيها بين المنطقي والغريزة، من قبل غيرهم، تماماً كما هو "منطق" الحكام المتسولين للسلام من العدو عبر استغلال الميل إلى الدعة والأمن وصعوبة التفريق فيهما بين المنطقي وبين السلام الذليل الذي يعتبر مبرراً لاقتحام الموت من كواكب المجاهدين لينعم الباقون - ولو بعد أجيال- بالسلام الحقيقي.

والعوامل التي تتفاعل أمواجها جراء تعاظم أمواج مقاطعة الشعوب لليضائع الأمريكية، وهي بمجموعها تشكل حقيقة "جدوى المقاطعة" غاية في الوفرة والأهمية وبالغ التأثير.

وفي ما يلي وقفة مع أهمها.