(010)
فإذا أفضتم من عرفات

موقع السرائر


يختتم موسم عرفة الذي يتلو في الفضل ليلة القدر كما عرفت، بالإنتقال المباشر إلى موسم عبادي بالغ الفرادة والتميز، وهو للأسف بالغ التضييع والإهمال.

إنه الوقوف بالمشعر الحرام، أي المزدلفة، أي جَمْع، فهي ثلاثة أسماء لمكان واحد عظيم الحرمة عند الله تعالى.

ولا تنفصل الحرمة عن مدى قرب من يبلغها، وحرمتِه، على أن بلوغ القرب حركة عقل وقلب، وما الجسد إلا براق أوحجاب، أو وسيلة مرتبة من هذا أو درْكٍ من ذاك.

إن قلتَ في الإفاضة من عرفات، إنها الإفاضة من الحضور إلى الشهود، فلم تعْدُ الحقيقة، وإن قلت فيها إنها بالغفلة عنها الإفاضة من الحرم إلى الحرمان، ومن القرب إلى الطرد، فقد أصبت كبد الحقيقة.

وفي محاولة التعرف على دلالات التسميات الثلاث، لهذا المكان الواحد الذي يفيض الحاج إليه من عرفات، نجد التالي:

1- جَمْع:

قال الشيخ الصدوق:

وسميت المزدلفة جمعاً لأنه يجمع فيها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين.
(1)
أي يصليان جمعاً فسمي المكان "جَمْع".

وفي الدعاء المروي ما يصلح تفسيراً آخر للتسمية، وهو عن الإمام الصادق عليه السلام، وقد روي بصيغتين:

1- أللهم هذه جَمْع، أللهم إني أسألك أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تجمع لي فيها جوامع الخير الذي جمعت لأنبيائك وأهل طاعتك من خلقك، وقد أمرت عبادك بذكرك عند المشعر الحرام فصل على محمد وآل محمد ولاتؤيسني من خيرك وعرفني في هذا المكان ماعرفت أولياءك ولاتخيبني في ما رجوتك، وأعتقني ولوالدي ولجميع المؤمنين من النار برحمتك".
(2)

2- أللهم هذه جَمْع، أللهم إني أسألك أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تجمع لي فيها جوامع الخير. أللهم لاتؤيسني من الخير الذي سألتك أن تجمعه لي في قلبي. " ثم" وأطلب
(3) إليك أن تعرفني ماعرفت أولياءك في منزلي هذا، وأن تقيني جوامع الشر (4)

2- المشعر الحرام:

في الدعاء الخاص بالمشعر، مايضيء على سبب هذه التسمية، وهو:

" فقد ترى مقامي بهذا المشعر الذي انخفض لك فرفعته، وذل لك فأكرمته وجعلته علَماً للناس، فبلغني فيه مناي ونيل رجائي ، أللهم إني أسألك بحق المشعر الحرام أن تحرم شعري وبشري على النار، وأن ترزقني حياة في طاعتك وبصيرة في دينك وعملاً بفرائضك، واتِّباعاً لأوامرك وخير الدارين جامعاً ".
(5)

3- مزدلفة:

تقدم في الحديث السابق أن مما روي عن الإمام الصادق عليه السلام: أن جبرئيل قال لإبراهيم عليهما السلام: ازدلف فسميت المزدلفة.
و لعله توضيح من الإمام عليه السلام للمعنى بالحكمة التي تشارف السر ولا مصلحة في المزيد. والله العالم.

* وهذا مختصر بأعمال الإفاضة من عرفة وصولاً إلى التوجه في صبيحة اليوم التالي إلى منى:

قال القاضي ابن البراج:
(6)

"باب أحكام الوقوف بالمشعر الحرام "
هذه الأحكام على ضربين: واجب، ومندوب.
فالواجب: هو الوقوف به، وذكر الله سبحانه والصلاة على النبي وآله عليهم السلام، والرجوع إلى منى بعد ذلك، وإعادة الحج من قابل إذا ترك هذا الوقوف متعمداً، وكذلك يجب عليه إذا أدرك المشعر بعد طلوع الشمس، فإن أدركه قبل ذلك كان الحج ماضياً، ولا يرتفع الوقوف بالمشعر الحرام إلى الجبل، إلا لعائق من ضيق أو ما أشبهه. ولا يخرج أحد من المشعر قبل طلوع الفجر، ولا يجوز{ لايتجاوز} وادي محسر حتى تطلع الشمس أيضاً، ولا يخرج الإمام من المشعر إلا بعد طلوع الشمس مع التمكن من ذلك.
وأما المندوب: فهو الدعاء عند الافاضة إلى المشعر الحرام، والإقتصاد في السير إليه ، والدعاء عند الكثيب الأحمر، والسعي عند وادي محسر حتى يجوزه، والدعاء عند هذا الوادي، ويجمع بين العشائين بأذان واحد واقامتين، وأن لا يصلي بين العشائين نوافل، بل يؤخر ذلك إلى بعد صلاة عشاء الآخرة".
(7)

وفي التفاصيل أورد مختارات مما أورده المرجع المقدس الشيخ محمد أمين زين الدين في رسالته العملية كلمة التقوى، حيث قال:
1- و "يستحب { على أبواب الإفاضة}إذا أشرفت الشمس على الغروب { أن يقول الحاج}:

أللهم اني أعوذ بك من الفقر ومن تشتت الأمر، ومن شر ما يحدث بالليل والنهار، أمسى ظلمي مستجيراً بعفوك، وأمسى خوفي مستجيراً بأمائك، وأمسى ذلي مستجيراً بعزك، وأمسى وجهي الفاني مستجيراً بوجهك الباقي، ياخير من سئل ويا أجود من أعطى، جللني برحمتك وألبسني عافيتك واصرف عني شر جميع خلقك".

2- أضاف:

ويستحب له أن يقول إذا غربت الشمس :

" اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا الموقف، وارزقنيه من قابل أبدا ما أبقيتني، واقلبني اليوم ملفحاً منجحاً مستجاباً لي، مرحوماً مغفوراً لي بأفضل ما ينقلب به اليوم أحد من وفدك وحجاج بيتك الحرام، واجعلني اليوم من أكرم وفدك عليك وأعطني أفضل ما أعطيت أحداً منهم من الخير والبركة والرحمة"
(8)

3- و” إذا غابت الشمس وذهبت الحمرة عن المشرق “..” جاز للحاج أن يفيض من عرفات ليذكر الله عند المشعر الحرام، وان يخرج من حدود الموقف الأول ويتوجه إلى الموقف الثاني، ويستحب له أن يكون في إفاضته على سكينه ووقار، وأن يكون في مسيره قاصداً: متوسطاً بين الإسراع والإبطاء، وأن يشتغل في حال مسيره بالدعاء والإستغفار كما يقول سبحانه: " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله ان الله غفور رحيم" فإذا بلغ إلى الكثيب الأحمر، وهو يقع عن يمين الطريق استحب له أن يقول :

" اللهم ارحم موقفي وزد في عملي وسلم لي ديني وتقبل مناسكي"

وليسر سيراً جميلاً وليتق الله ربه، فلا يطأ ضعيفاً أو مسلماً ولا يَشرك في عنت إنسان. ويستحب له أن يكبر بين المأزمين إذا مر بينهما .

* وللتوضيح:

الكثيب الأحمر: تلٌّ رملي على يمين المفيض من عرفات المتوجه إلى المشعر الحرام.
والمأزمان: بكسر الزاي وبالهمز - ويجوز التخفيف بالقلب ألفاً – مضيقان، أحدهما بين عرفات والمشعر، والثاني بين مكة ومنى ، والمراد هنا الأول.
(9)

* وهذه مختارات في التفاصيل أيضاً، مما أورده القاضي ابن البراج في هذا السياق، حيث قال:

ثم يمضي حتى يصير عند المأزمين، فإذا صار عنده قال:
الله أكبر أربع مرات، ثم يقول:

" اللهم صل على محمد وآل محمد، خيرتك من خلقك وآله الطاهرين، الهي إلى هاهنا دعوتني وبما عندك وعدتني، وقد أجبتك بتوفيقك وفضلك فارحمني وتجاوز عني بكرمك ".

ثم ينزل المشعر الحرام، فإذا وصل إليه نزل به إن وجد فيه خللاً { أي فراغاً} وإن لم يجد ذلك لكثرة الناس نزل قريباً منه ويصلي فيه العشائين بأذان واحد وإقامتين، ويؤخر نوافل المغرب إلى بعد الفراغ من العشاء الآخرة، ولا يصليها إلا فيه ولو مضى ربع الليل أو ثلثه، فإن لم يبلغ إليه إلى ثلث الليل جاز له أن يصلي المغرب في الطريق.
فإذا فرغ من صلاته بالمشعر، قال:

" اللهم هذه جمع فأسألك أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تجمع لي فيها جوامع الخير الذي جمعت لأنبيائك وأهل طاعتك من خلقك، وقد أمرت عبادك بذكرك عند المشعر الحرام فصل على محمد وآل محمد، ولا تؤيسني من خيرك، وعرفني في هذا المكان ما عرفت أوليائك، ولا تخيبني فيما رجوتك، وأعتقني ولوالدي ولجميع المؤمنين من النار برحمتك".
(10)
ثم يجتهد في الصلاة والدعاء طول ليله إن تمكن من ذلك إلى الفجر".
{ أي يستحب إحياء الليلة } فإذا طلع الفجر صلى الفريضة، وتوقف متوجها إلى القبلة ودعا بما نورده الآن من دعاء الموقف بالمشعر الحرام ، ويجتهد في ذلك إلى طلوع الشمس ، فإذا لم يتمكن من ذلك لضرورة ، فإنه يستحب له أن يطأ المشعر برجله مع التمكن منه.
ثم يقول القاضي ابن البراج عليه الرحمة:

باب الدعاء في الموقف بالمشعر الحرام:
" ينبغي لمن أراد الوقوف بالمشعر الحرام بعد صلاة الفجر أن يقف منه بسفح الجبل متوجهاً إلى القبلة، ويجوز له أن يقف راكباً ، ثم يكبر الله سبحانه ويذكر من آلائه وبلائه ما تمكن منه، ويتشهد الشهادتين ويصلي على النبي وآله والأئمة عليهم السلام وإن ذكر الأئمة واحداً واحداً ودعا لهم وتبرأ من عدوهم كان أفضل.

أضاف: ويقول بعد ذلك:

" اللهم رب المشعر الحرام، فك رقبتي من النار، وأوسع علي من الرزق الحلال، وادرأ عني شر فسقة الجن والإنس، أللهم أنت خير مطلوب إليه، وخير مدعو وخير مسؤول، ولكل وافد جائزة، فاجعل جائزتي في موطني هذا، أن تقيلني عثرتي وتقبل معذرتي وتجاوز عن خطيئتي، ثم اجعل التقوى من الدنيا زادي برحمتك".
ثم يكبر الله سبحانه مائة مرة، ويحمده مائة مرة، ويسبحه مائة مرة، ويهلله مائة مرة، ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله ويقول:
" أللهم اهدني من الضلالة، وأنقذني من الجهالة، واجمع لي خير الدنيا والآخرة، وخذ بناصيتي إلى هداك وانقلني إلى رضاك، فقد ترى مقامي بهذا المشعر الذي انخفض لك فرفعته، وذل لك فأكرمته وجعلته عَلماً للناس، فبلغني فيه مناي ونيل رجائي، أللهم إني أسئلك بحق المشعر الحرام أن تحرم شعري وبشري على النار، وأن ترزقني حياة في طاعتك وبصيرة في دينك وعملاً بفرائضك، واتباعاً لأوامرك وخير الدارين جامعاً، وأن تحفظني في نفسي وولدي ولوالدي وأهلي وإخواني وجيراني برحمتك".

ويجتهد في الدعاء والمسألة والتضرع إلى الله سبحانه إلى حين ابتداء طلوع الشمس، فإذا طلعت أفاض من المشعر الحرام إلى منى، ويأخذ حصى الجمار منه{ المشعر} ومن الطريق، ولا يفيض قبل طلوع الشمس، ويسير بسكينة ووقار، ويذكر الله سبحانه ويصلي على النبي وآله عليهم السلام. ويجتهد في الإستغفار حتى يصل وادي محسر، فإذا وصل إلى هذا الوادي سعى فيه ، فإن كان راكبا حرك دابته حتى يجوزه، وهو يقول":
أللهم سلم عهدي، واقبل توبتي وأجب دعوتي واخلفني في من تركت بعدي".
ثم يمضي إلى منى".
(11)

* وأختم المختارات من كلمات العلماء بما أورده الشيخ الصدوق حيث قال:

روى الكليني في باب ليلة المزدلفة والوقوف بالمشعر في الحسن كالصحيح عن الحلبي عن أبى عبد الله عليه السلام في حديث أنه قال:

" إن استطعت أن تحيي تلك الليلة فافعل، فإنه بلغنا أن أبواب السماء لا تغلق تلك الليلة لأصوات المؤمنين، لهم دوي كدوي النحل، يقول الله جل ثناؤه: "أنا ربكم وأنتم عبادي، أديتم حقي، وحق عليَّ أن أستجيب لكم" فيحط تلك الليلة عمن أراد أن يحط عنه ذنوبه ويغفر لمن أراد أن يغفر له”
(12)

***

وهكذا يتضح جلياً أن هذه الليلة عبادية بامتياز، وأن من الطبيعي جداً أن يتم التخطيط للحج بحيث تحفظ حرمة هذه الليلة، وتغتنم فيها فرصة التواجد في هذا المشعر الحرام، الذي لانجد الحديث في غيره عن جمع الخير كله، والذي يؤسس بدوره للقرب، الذي هو غاية آمال العارفين.
 

 والحمد لله رب العالمين. 


الهوامش:
(1) الشيخ الصدوق، من لايحضره الفقيه 2/197 وليلاحظ أن البرنامج الذي ضم هذه الحلقات كان ب في النهار وقد كتبت هذه الحلقة لتبث استثناءً ليلة العيد.
(2) القاضي ابن البراج“ من أعلام القرن الخامس الهجري” المهذب1/252
(3) في مصباح المتهجد للشيخ الطوسي699: ثم أطلب إليك، والظاهر بحسب الوسائل أن ثم ليست من الدعاء، بينما الظاهر من المصباح العكس.
(4) الحر العاملي، وسائل الشيعة10/44
(5) القاضي ابن البراج، المهذب1/253
(6) تقدم أنه رحمه الله تعالى، من علماء القرن الخامس الهجري.
(7) المصدر 254
(8) المرجع الشيخ محمد أمين زين الدين، كلمة التقوى3/413
(9) جاء في هامش من لايحضره الفقيه - الشيخ الصدوق ج 2/212. مايلي: الظاهر أن المراد بهما مضيق مكة الى منى ومضيق منى إلى عرفات وهو المزدلفة ويحتمل أن يكون المراد به المشعر فقط كما فهمه الأصحاب ويطلقون عليه في كتبهم، والأول أوفق بكلام أهل اللغة “ م ت “ أقول : في القاموس المأزم ويقال له : المأزمان : مضيق بين جمع وعرفة ، وآخر بين مكة ومنى .
(10) المهذب، القاضي ابن البراج 2/252 وقد تقدم الدعاء بصيغتين في بيان وجه تسمية " جمع".
(11) القاضي ابن البراج، المهذب 1/252-254.
(12) الشيخ الصدوق، من لايحضره الفقيه 2/212-213. ولم يورد الشيخ الرواية بتمامها.أنظر: الكليني، الكافي