(04)
شهر ذي القعدة

موقع السرائر

* شهر حرام

استفاض بين المسلمين عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله:

" أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق السماوات والأرضين، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق الله السماوات والأرض، منها أربعة حرم، رجبُ مُضَر الذي بين جمادى وشعبان، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم فلا تظلموا فيهن أنفسكم فإن النسيء زيادة في الكفر".
(1)

ونحن الآن في شهر ذي القعدة، وعلى أبواب شهر ذي الحجة، والعشرُ الأوائل منه موسم عبادي شديد الأهمية كما تقدمت الإشارة، ويأتي مزيد إيضاح إن شاء الله تعالى.

ويتركز الحديث هنا حول ذي القعدة وأهم الأعمال فيه.

قال الشيخ المفيد: " ذو القعدة وهو شهر حرام معظم في الجاهلية والاسلام ".
(2)

**

* أدب الدخول فيه

قال أية الله الملكي التبريزي:

هذا أول الأشهر الحرم التي حُرِّم فيها القتال مع الكفار، والعاقل يتنبه من ذلك إلى حكم المحاربة والمخالفة مع الله جل جلاله، فاجتهدي يانفس في حفظ قلبك وبدنك في هذه الأشهر زيادة على ما يجب في سائر الشهور من مخالفة الله جل جلاله في شيء من أحكامه، بل في الرضا بقضائه في ما يقتضيه لك من البلايا والمصائب، فإنه شهر حرام تزيد حرمته على سائر الشهور بما منع الله تعالى فيه المحاربة مع الكفار، فليكن حفظك لحرمته من قبيل ترك المخالفة وبسط الرضا معه جل جلاله فإنه رب شكور يشكر لك رضاك برضاه عنك. وأن علمت شرف رضاه، رضيت في سبيل الحصول عليه “بالقتل وتقطيع أعضائك” إرْباً إرْباً ولايفوتك هذا الشرف.
(3)

وقال السيد ابن طاوس:

".. فاما كيفية الدخول في شهر ذى القعدة المعظم في الاسلام، فعلى نحو ما أشرنا إليه من دخول كل شهر حرام ، ونزيد في هذا الشهر على التعيين انه الشهر الذى دحى الله فيه الأرض وهيأها للعالمين ".." وقد ذكرنا أنه شهر موصوف بإجابة الدعوات، فاغتنم اوقاته وصم فيه صيام الحاجات، وابدأ بالحوائج المهمات على الترتيب الذى يكون أهم عند من تعرض الحوائج عليه، فيوشك أن يظفر بما تقصد إليه، ان شاء الله تعالى.
(4)

وهو تأكيد على مايلي:

1- معرفة أهمية الشهر الحرام والفرق بينه وبين غيره.
2- التنبه إلى لوازم أنه الشهر الذي تم فيه دحو الأرض. ولهذا اليوم بالخصوص حديث مستقل.
3- اغتنام أوقاته للدعاء وطلب الحوائج.
4- الصوم فيه لقضاء الحوائج، والأمل الخاص با لإجابة.

وهذه وقفة سريعة عند كل منها:

1- قال السيد ابن طاوس عليه الرحمة:

". واعلم انه إذا كانت الأشهر الحرم قد اقتضت في الجاهلية والإسلام ترك الحروب والسكون عن الفعل الحرام، فكيف تحتمل هذه الشهور أن تقع محاربة بين العبد ومالكه في شيء من الأمور، وكيف يعظم وقوع المحارم بين عبد وعبد مثله ولا يعظم أضعاف ذلك بين العبد وبين مالك أمره كله، فالحذر الحذر من التهوين بالله في هذه الأوقات المحرمة، وأن يهتك العبد شيئاً من شهورها المعظمة".
(5)

وحول الدخول في شهر ذي القعدة، قال السيد أيضاً:

" وليكن حفظك لحرمة هذا الشهر بالقلب والعقل وحفظ الجوارح، لتدرك ما فيه من الفضل الراجح، إن شاء الله تعالى".

وقال في مكان آخر حول الدخول في الشهر الحرام :

" فليكن دخولك ".." دخول المصدقين، فانه شهر حرام له حق التعظيم بالمقال والفعال، كمن دخل في دروب مكة الى مسجدها الأعظم، فلا بد أن يكون لدخوله كيفية على قدر تصديقه صاحب المسجد المعظم، فاجهد أن يكون قلبك وعقلك مصاحباً له بالتعظيم وجوارحك محافظة على سلوك السبيل المستقيم، فمن عادة المملوك المؤدب الكامل أن يكون موافقاً لمالكه في سائر مسالكه ".
(6)

هل نغتنم الفرصة:

يتفرع اغتنام أوقات هذا الشهر الحرام وكل فرصة مماثلة على إدراك أن الأشهر الحرم مواقيت للناس لايتوقف الإحرام منها على السفر إلى الميقات، فإن رحمة الله تعالى تحمل الميقات إلى إلى عبده، فإذا هو في هذه الأشهر كالولد في حضن أمه وغامر حنان أبيه، وأستغفر الله تعالى عن تشبيه عطفه والحنان واللطف برأفة الأبوين، فإنما هي اللغة التي وضعت لتَخاطُب البشر في ما بينهم، تَقصُر لدى الحديث عنه جلت عظمته عن الوفاء، فإذا بنا نردد: "يامن هو أرأف بي من أمي وأبي" وهل رأفتهما إلا رشحة من واسع رحمته التي تقصر العقول عن أدنى سفح عظمتها.

* وأما الصوم فيه فكل امريء ووسعه، مع ملاحظة ماورد الحث على صومه عموماً باعتبار أن إيقاعه في الشهر الحرام يسمو بفضيلته عليها في غيره.

ومما ورد الحث عليه صوم ثلاثة أيام في كل شهر: خميس في أوله وأربعاء في وسطه وخميس في آخره ".
(7)

قال الشيخ الطوسي:

" ويستحب في هذا الشهر وفي سائر الشهور صوم ثلاثة أيام: أول خميس في العشر الأول، وأول أربعاء في العشر الثاني، وآخر خميس في العشر الأخير، وكذلك في كل شهر، فإنه مروي عنهم عليهم السلام أن ذلك يعدل صيام الدهر".
(8)

وكذلك ورد الحث على صوم الأيام البيض من كل شهر.
كما ورد الحث على صوم "الخميس والجمعة والسبت من كل شهر محرم"
(9)

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: " من صام من شهر حرام ثلاثة أيام : الخميس والجمعة والسبت، كتب الله له عبادة سنة ".
(10)

**

* التوبة في يوم الأحد من ذي القعدة

أهم أعمال شهر ذي القعدة هو تجديد التوبة في يوم الأحد بغسل وصلاة خاصة وذكر بعدها، وقد روي لذلك من عظيم الفضل ما يجعل العارف به حريصاً على انتظار هذا الشهر لأجل القيام بهذا العمل.

قال السيد ابن طاوس:

".. خرج رسول الله عليه وآله يوم الأحد في شهر ذى القعدة فقال: يا أيها الناس من ".." منكم يريد التوبة ؟
قلنا : كلنا نريد التوبة يا رسول الله، فقال عليه السلام: اغتسلوا وتوضأوا وصلوا أربع ركعات واقرؤوا في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة، وقل هو الله أحد ثلاث مرات والمعوذتين مرة، ثم استغفروا سبعين مرة، ثم اختموا بلا حول ولا قوة الا بالله العلى العظيم، ثم قولوا:
يا عزيز يا غفار، إغفر لى ذنوبي وذنوب جميع المؤمنين والمؤمنات فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.
ثم قال عليه السلام: مامن ( عبدٍ من
(11) ) أمتي فعل هذا إلا نودي من السماء: يا عبد الله استأنف العمل فانك مقبول التوبة مغفور الذنب، وينادي ملك من تحت العرش: أيها العبد بورك عليك وعلى أهلك وذريتك، وينادي منادٍ آخر: أيها العبد ترضى خصماؤك يوم القيامة، وينادي ملك آخر: أيها العبد تموت على الإيمان ولا يسلب منك الدين ويفسح في قبرك وينوَّر فيه، وينادى مناد آخر: أيها العبد يرضى أبواك وإن كانا ساخطين، وغفر لأبويك ذلك ولذريتك وأنت في سعة من الرزق في الدنيا والآخرة، وينادى جبرئيل عليه السلام: أنا الذى آتيك مع ملك الموت أن يرفق بك ولا يخدشك أثر الموت، إنما تخرج الروح من جسدك سلاًّ. قلنا: يارسول الله لو أن عبداً يقول في غير الشهر؟ فقال عليه السلام : مثل ما وصفت، وإنما علمني جبرئيل عليه السلام هذه الكلمات أيام أسري بى ". (12)

وحول هذا العمل للتوبة، قال آية الله الملكي التبريزي:

" وأحدث ".." توبة صادقة عما كنت عليه قبل دخول هذا الشهر، فإن عملت بما روي من عمل التوبة في يوم الأحد من الشهر المذكور، تنال مافيه من الفضل المذخور".
(13)

***

أيها العزيز:

كانت هذه جولة سريعة في رحاب شهر ذي القعدة، للتمهيد بها للحديث عن الأيام العشر المعلومات، أي العشر الأوائل من ذي الحجة التي روي عن رسول الله صلى الله عليه وآلها في عظمتها ما يجعل المؤدي للأعمال التي ورد الحث عليها في هذه الأيام شريكاً للحجاج في حجهم كما يأتي بيانه بحول الله تعالى.

والحمد لله رب العالمين

 


الهوامش:
(1)الشيخ الصدوق، الخصال487. واللفظ منه. والمجلسي، البحار21/381. والهيثمي، مجمع الزوائد3/267.وابن حجر، مقدمة فتح الباري118.
(2)الشيخ المفيد، مسارُّ الشيعة34.
(3)المراقبات”م.م” 187. بتصرف يسير.
(4)الإقبال18-19.
(5)الإقبال3/172.
(6)2/16.
(7)أبو الصلاح الحلبي، الكافي189. والعلامة الحلي، مختلف الشيعة 2/510-511. وانظر: الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، الصوم المندوب
(8)الشيخ الطوسي، مصباح المتهجد666.
(9)المصدر.
(10)الإقبال2/21.
(11)أنظر: السيد البروجردي،جامع أحاديث الشيعة7/458
(12)الإقبال2/20-21. وقد أوردها نقلاً عنه المحدث النوري، المستدرك6/396-397.
(13)المراقبات 187. وقد أورد قدس سره هذه الرواية في كتابه " لقاء الله" 80-82 "فارسي، انتشارات نهضت زنان مسلمان” في سياق الحديث عن التوبة عموماً.