(10)
كعصفٍ مأكول

موقع السرائر

 

 كان يوم عرفة مفصلاً أبرز للعقل والقلب قبل أن يكون مفصلاً في العمر.

وسيظل لهذه اليوم حضوره الفاعل في ما نستقبل، وإن طال عنه الغياب.

من معاني الوسام النبوي "الحج عرفة" أن مخزن الأسرار عرفة، وأن سائر المناسك تطهير وإعداد، ورعاية وتظهير.

وليست أسرار عرفة للعقول، بمعزل عن القلوب، ولا العكس، فالفصل البارد بين العقل والقلب فصام الجاهلين، ومكمن لوثة الشياطين.

عرفة اعتراف، وهي معرفة، وهما جوهر واحد، لايعرف الوجهين ولا اللسانين، مهما تعددت الوجوه، وتباينت رطانة اللسان.

وماذا بعد الحق إلا الضلال.

ولا يحجب الحق حجاب، بل يحجبنا نحن عن الحق كل حجاب بقرار لايمكن أن يشترك في اتخاذه العقل أو القلب، فضلاً عن أن يتفرد به أحدهما.

العقل قانون، والقلب فطرة، يمكن للهوى إلغاؤهما، ولايمكنه الفصل بينهما.

قال تعالى: لايعقلون.
وعن علي عليه السلام في سياق ذلك: كم من عقل أسير تحت هوى أمير.

وقال تعالى: بل ران على قلوبهم ماكانوا يكسبون.
وقال الصادق عليه السلام في معناها: فإذا غطى السواد البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا.

تجتاح الجيوش مواطن الأحرار، وتعيث في الأرض فساداً، ولكنها لايمكن أن تلوي فيهم الإرادة، أو تلغي الإصرار.

ويجتاح الشر بخيله ورَجِله، بقواته المؤللة والمشاة، كل معاقل العقل والقلب، وينفث على اللسان، ويغدو هو كالمحتل السلطان، إلا أن جوهر الإنسانية يعصى على اللي أو الإلغاء.

وكما تهتز الأرض تحت أقدام المحتلين وتنقضُّ فوق الرؤوس الصواعق، وينجلي النقع عن فجر الإستقلال، بعد أن زاعت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا.

كذلك هي التوبة، بل الثورة في عالم الذات الإنسانية الرحب، الذي ننسى أن هذه المجرات "مسخرات" لخدمته.

وكما هي كل ثورة رهن الظروف المؤاتية، كذلك هي الثورة الأعظم، توبة من يحسب أنه جرم صغير، وفيه انطوى العالم الأكبر.

ومن معاني الوسام النبوي لعرفة: " الحج عرفة" أن الظروف المؤاتية فيها لهذا التحول النوعي، تفوق كل بيان.

وهل تحقق ذلك بحضور الحجيج، ولولاهم لما كانت عرفة إلا صحراء؟

أم أن في هذه الصحراء سراً يصوغ العقول والقلوب؟

وهل تقوى الزينة و البهارج، على ماتعجز عنه الحقيقة؟!

تلمس أيها العزيز القلب، واعرضه على عين العقل، تجد الفرق كبيراً، والبون شاسعاً، وأنت تودع صحراء عرفة.

لم يتحقق ذلك بحول مادي، وقوة بشرية، إنها يد الغيب تبلسم الجراح، وتنقذ الغرقى في بحار الأهواء والغرائز والشهوات.

إنه ملهم العقل والقلب والمشاعر، لتتحقق المعرفة، كانت لديه وماتزال خير مستقر لحمل الأمانة، وفي عرفة يعيد صيانتها والصياغة، وهو أهون عليه من بعثها يوم النشور.

وما هذا الحفل البهيج في بيت الأسرة الواحدة وعلى أطرافه، ومنه وإليه، إلا تجلي الفرحة بعودة الضالة، وصحوة ضمير العاق، والحنين إلى أصله والمنبت.

ولا يتخذ الحديث في الحفل البهيج وعنه غير العفوية سبيلا، ويعني ذلك بالتأكيد إحكام الأسس، وروعة الوصول من المقدمات إلى النتائج.

يبدأ الحفل بالكف عن الشهوات، وتبلغ البداية الرجبية النهاية التي كانت ليلة القدر ميدانها، وعيد الفطر العنوان.

يسمى الصوم هنا الإحرام، وهو الصوم المتقدم، الذي يكشف أن ولوج أعتاب المعرفة رهن الموضوعية والعقلانية، وأن الغرائزية والأهواء والشهوات شيطانه الرجيم.
ولا تكتمل العقلانية مع الإقامة على الظلم فالظلم دليل استلاب العقل والقلب والمشاعر العاقلة.

وللعودة الغالية للعقل والقلب إلى أصلهما وسالف العهد، علامة، هي سلامة المشاعر.

هل ذلك هو السر في البدء بعرفة اعترافاً بكل شوائب الظلم يتوقف عليه الفوز بالمعرفة؟ ثم الإفاضة كما يفيض الكريم سيبه، والأستاذ في البيان، والتلميذ مستظهراً.

الإفاضة الواعية: وجناحا وعيها الذكر بما هو الدليل على الفكر، والحنان في معاملة الآخر بما هو مظهر كرامة الإنسان.

ويبلغ الحفل المشعر الحرام.

ليس الإسم غريباً وإن كنا عنه غرباء، كم تنكرنا لكل نبضة شعور صادقة، ولكنها لم تتنكر لنا طرفة عين.

وهل العاق إلا من يركب رأسه، ويفكربما يمشي عليه؟!
الغريب عن مشاعره، رغم كل إلحاحها عليه وقوة الحضور، وبالغ الحدب والمواكبة.

وهل العاقل إلا من يفقه المشاعرالمعافاة ثمرة عقل وقلب، فلا يفصل بين الثمرة والشجرة فإذا هو "أحسن تقويم" كما لم يفصل بين شجرة العقل والقلب الواحدة أبداً، وإن راق الجهلَ شطرُهما والمسخُ النكد.

وهل القلب للمشاعر إلا المصنع؟ وهل العقل إلاالمصفاة والحكم؟

شديد إذاً هو الربط بين المشاعر والمعرفة، يسافر القلب بالمشاعر ومنها إلى العقل، ثم يفيض منه إليها وبها، محملاُ بما صفا وطاب.

لهذه النتيجة الحق شرط واحد أن يكون سفر القلب من الميقات وبثوبي الإحرام، وفق الأسس التي تحددها ثقافة القانون، وقانون الثقافة، ليصدق القصد، أو فقل: يتحقق الحج.

وهل من ربط بين هذين التنقلين والسفرين، بين بلوغ عرفة من منى عبر المشعر، والعودة منها إلى منى عبره؟

لاتهدف هذه المقاربة من بدايتها للمختتم، إلى أكثر من التساؤل.

وكما هي المشاعر الخلاصة والثمرة والنتيجة والقرار، فهذا هو المشعر الحرام متعددة منه الأسماء: المشعر. جَمْع. مزدلِفة.
والكل واحد فالمشاعر باب البعد – إن اتبعَتِ السُّبُل- كما هي باب القرب - إن اهتدتِ الصراط المستقيم- وسلامتها علامة جمع الخير كله.

إنها علامة المعرفة السوية، والبناء العقلي القلبي السوي. وهي بعد علامة حمل الرسالة، والوفاء بالعهد، لتبدأ الرحلةُ في سوح الجهاد ضد الظالمين.

ألم تكن بداية المعرفة بالتمايز عنهم؟

بعد المشعر الحرام، وادي محسِّر
(1) ليس من اجتيازه بد، ولكن الهرولة أو الإسراع، الأمثل. (2)

ماذا هناك؟!!

وادي محسر، تذكير الحاج في بدء دورته التدريبية العملية بعد المعرفة وصياغة المشاعر، بكل فرعون، بالفرعون بوش، والفرعون الأصغر شارون، وكل دمى الفراعنة.

وادي محسر هي ساحة الطير الأبابيل تنقضُّ على أبرهة وجيشه المؤلل بأضخم الفيلة، بحجارة من سجيل.

ههنا كانت واقعة أصحاب الفيل. ههنا صاروا كعصفٍ - منكَّرٍ- مأكول.

كل قاذفاتهم التي تذكِّر بها ذات الأطنان السبعة، دمرتها هذه الطيور الصغيرة بحجارة أصغر.

ليس المحور في القوة الشكل، ولا المقياس في الغلبة الكثرة.

المحور والمقياس سلامة العقل والقلب، والثمرةِ المشاعر.

هل هذا هو الدرس الذي تتولى ساحة الوقعة بيانه؟

وهل الإسراع أو الهرولة إشارة إلى استحضار الماضي، دون الغرق.

أم أن الهرولة والإسراع إشارة إلى أن الحاضر والآتي أولى.

أم أنهما الإشارة إلى ماينتظر بدء الدورة، من مراحل الثورة التي لاتبدأ إلا باكتمال البراءة من الطواغيت والهرولة الجادة في البعد عن خطواتهم.

وهل رجم الجمرات إلا تعبير عن المحتوى العقلي والقلبي وسالم المشاعر، في مواجهة الطاغوت؟

لا تجدي الثورة نفعاً ولو انظوت عليها أضالع الدهور.

بدء الثورة ترجمة الوعي إلى عمل.

لابد من تحريك الأيدي وتهيئة القبضات.

تكتمل بالعمل دورة تعزيز النظرية، وإلا استُلبت.

لا يُفتح سجل الثوار، المجاهدين، الأحرار إلا بالدخول من باب العمل. شرط أن يكون في الساحة والميدان.

سيقولون في الرجم الكثير، ولكنهم لايقولون في طوابير الإزعاج في الدورات حتى اليسير.

"قل الله ثم ذرهم".

سيقولون في الحلق الكثير، ولكنهم المعجبون بقوانين الجيش الصارمة، ومنها الحلق بالذات.

ولم يطلب من المنخرطين في دورة الحج مايطلب شربه أو أكله في ما يسميه الجهل "جيوش الدول المتحضرة".

لاتأبه، فليس المجاهد الثائر، إلا المنصرف إلى خدمة الناس وإن رجموه.

إن بلغت ذلك فقد بلغت مشارف الإستعداد لذبح النفس بين يدي الحقيقة، بل بلغت مشارف ذبح الإبن الأغلى من النفس.

بلغت مشارف الإستعداد للإبراهيمية، وصولا إلى المحمدية البيضاء.

وكل عام وأنت بخير، فليس بعد هذا العيد عيد.

 والحمد لله رب العالمين. 


الهوامش:
(1) " قال في المصباح : حسرته بالثقيل : أوقعته في الحسرة وباسم الفاعل سمى وادى محسر وهو ما بين منى ومزدلفة سمى بذلك لان فيل أبرهة كل فيه وأعيا فحسر أصحابه بفعله وأوقعهم في الحسرات ".نقلاً عن هامش الكافي للكليني 4/470
(2) الكافي - الشيخ الكليني - ج 4 - هامش ص 470 قال المجلسي رحمه الله: قال في المدارك : المراد بالسعي هنا الهرولة، وهي الاسراع في المشي للماشي، وتحريك الدابة للراكب، وأجمع العلماء كافة على استحباب ذلك، ولو ترك السعي فيه رجع فسعى استحباباً . مرآة العقول. نقلاً عن المصدر السابق.